04-سبتمبر-2023
قيس سعيّد وأحمد الحشاني

ليس مستغربًا إذا تحوّلت حملة "تطهير الإدارة" إلى عملية "تمكين" للأنصار والموالين بمنطق الغنيمة

مقال رأي 

 

في كتابه "الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، يقول المؤرخ هشام جعيّط في تناوله للمحفزات الدرامية التي سبقت الفتنة: "أمّا في دمشق حيث يقال إنه وضع فوق منبر الجامع الكبير قميص عثمان الملطخ بالدم "يبكيه كل يوم ستون ألف شيخ" (صفحة 144). قد تختلف القراءات التاريخية لأحداث القرن الأول الهجري، الفتنة وأسبابها ومحفزاتها، لكن استعمال معاوية لقميص عثمان الملطخ بالدم كعنصر درامي نفسي للتحشيد العسكري والسياسي يبقى من أبلغ الاستعارات السياسية التي كانت حاضرة في أكثر اللحظات التاريخية انعراجًا.

للمرة السابعة خلال شهر وأثناء آخر اجتماع لهما بتاريخ 18 أوت/أغسطس 2023، يطلب الرئيس التونسي قيس سعيّد من رئيس الحكومة المكلف حديثًا أحمد الحشاني الإسراع في إجراء عملية مراجعة شاملة للانتدابات في الإدارات العمومية المُجراة منذ عقد.

تحوّل ما بدا في البداية على أنه حلقة أخرى من المسلسل الرديء "المؤامرة" الذي يقود الرئيس إخراجه وأداءه إلى حملة رسمية تحت إشرافه انتدب لها مدير موارد بشرية للدولة برتبة رئيس حكومة.

 

 

  • بيروقراطية الرئيس

مع تطوّر التيار العقلاني والثورة الصناعية في أوروبا بداية من القرن 18، كان التحديث الإداري ضرورة، سببًا ونتيجة في الآن ذاته. في أطار ولدت البيروقراطية كمفهوم اجتماعي يتخصص بطريقة تنظيم الإدارة وفق تراتبيات وصلاحيات ضمن إطار تشريعي مضبوط. شاع المفهوم بفضل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) الذي نظّر للبيروقراطية كعملية عقلنة للعمل الإداري في شكله الحكومي بصفة خاصة. حسب فيبر "تتميز البيروقراطية بالشكل الهرمي للسلطة والسيطرة، حسب سلم تراتبي وسلسلة من آمرين ومأمورين تحدد بشكل مطلق مسؤولية كل موظف". يرى ماكس فيبر أن البيروقراطية هي "الشكل الأكثر نجاعة وعقلانية".

بعد الفشل الذريع في حربه على الاحتكار وتواصل أزمة انقطاع المواد الأساسية من الأسواق  يرفع قيس سعيّد مجدّدًا لواء "دون كيشوت" ضد الإدارة والبيروقراطية التونسية التي تعيق تنفيذ مشاريعه ورؤياه السياسية

عايش فيبر فترة تطوّر الدولة البروسية والمجتمع الألماني، عصر نيتشه وفاغنر وشوبنهاور، وطوّر مفهومه للبيروقراطية من خلال تطوّر الدولة الحديثة وخصوصًا، تطوّر حاجتها الوجودية لتأبيد الهيمنة من خلال جهاز إداري كفء وموضوعي لتطبيق سياساتها والمحافظة على سطوتها، في مقابل تلبية الخدمات المتزايدة للمجتمع المتنامي ديموغرافيًا واقتصاديًا "من خلال السلطة التي تفرضها "الشرعية"، وبحكم الإيمان بصحة الإطار القانوني لها والكفاءة الإيجابية المحددة بقواعد ثابتة وعقلانية". 

بعد الفشل الذريع في حربه على الاحتكار وتواصل أزمة انقطاع المواد الأساسية من الأسواق، ورشح مسألة الإنجاز على سطح التداول العام بعد سنتين من الحكم الرئاسوي المطلق، يرفع قيس سعيّد مجدّدًا لواء "دون كيشوت" ضد الإدارة والبيروقراطية التونسية التي تعيق تنفيذ مشاريعه ورؤياه السياسية، أو تحديدًا ضد الذين "تسللوا إليها" وفق وصفه: "ضرورة إعداد مشروع أمر يتعلق بتطهير الإدارة من الذين تسللوا إليها بغير وجه حق منذ أكثر من عقد من الزمن وتحولوا إلى عقبات تعيق سير عمل الدولة". بنفس المنطق الذي تم عبره غلق البرلمان وتحويل القضاة إلى موظفين.  

يسعى الرئيس إلى ربط مشكل الإنجاز بـ"المتآمرين" وبالإدارة ويربط الكفاءة بعوامل موغلة في الذاتي كـ"حسن النية والإخلاص والوطنية"، حسب تعريفه الخاص، ضاربًا عرض الحائط بأسس البيروقراطية والنشاط الإداري المبني على احترام القانون والكفاءة العلمية والتجربة

يسعى الرئيس وجوقته منذ أسابيع، كما جرى العمل في محطات سابقة في "صناعة الحقيقة الحقيقية"، إلى ربط مشكل الإنجاز بالمتآمرين من الداخل هذه المرة. في المقابل، يربط الكفاءة بعوامل معنوية موغلة في الذاتي كـ "حسن النية والإخلاص والوطنية"، طبعًا حسب تعريفه الخاص لهذه العوامل، ضاربًا عرض الحائط بأسس البيروقراطية والنشاط الإداري المبني على احترام القانون والكفاءة العلمية والتجربة.  

 

  • حملات جوفاء المضمون عديمة الإنجاز 

"أعتقد أن ما ميز الفترة التي نتناولها هنا هي وجود الترويكا بين فكي كماشة حقيقية ليست المعارضة السياسية التي ستتصاعد بنسق سريع سوى جزء من مشهدها وحقيقتها. أما الجزء الثاني فكان انغلاق الدولة أمام كل السياسات الرئيسية التي حاول ذلك التحالف الفائز في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول المضي فيها. إنّ انغلاق الدولة واتباعها موقفًا رافضًا في أقصى الحالات ومتلكئًا في أدناها هو حقيقة طبعت حكم الترويكا وحدّت إلى مستوى بعيد من طموحاتها في الحكم.. إنّ ما نعنيه بانغلاق الدولة هو حالة الرفض التي كانت تنتشر بطريقة ثابتة في أوساط الإدارة ومؤسسات الدولة الرئيسية والثانوية ضد كل قرارات التحالف الجديد، والذي سيتعاظم تحت تأثير نوع من الالتقاء بين الدولة من جهة وبين كل النخب، سياسية وإعلامية وثقافية ومالية، التي رأت في ذلك التحالف خطرًا على رؤيتها للأشياء وخاصة للاتجاه الذي كان يتوجب على البلاد أن تسير فيه بعد الانتخابات. في الحقيقة كان انغلاق الدولة نابعًا من انتماء فئة كبار مسؤولي الدولة الإداريين إلى تلك النخب واستيعابها لنفس الثقافة السياسية".هكذا يقدم عدنان منصر قراءته لما عايشه من أحداث بعد 14 جانفي/يناير 2011، من موقعه كمؤرخ ومستشار سابق لرئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي

لا غرابة في أن تستدعي كل سلطة جديدة "قميص عثمان" هي الأخرى بأن تثير موضوع "التركة الثقيلة" والبطء البيروقراطي، لهذا من البديهي أن تبادر كل سلطة إلى إعادة توزيع الأدوار وتطعيم الإدارة بمن والاها ودار فلكها وقارب هواها السياسي

طبيعيًّا، كل تغيير في أي نشاط أو حالة يترتب عنه نوع من المقاومة، فما بالك بتغيير جذري في تركيبة الدولة العليا وأعلى رتبها والقطع مع بيروقراطية متواصلة يراها المؤرخون متواصلة على نحو ما منذ أكثر من قرنين على الأقل. لكن الثابت أنه بعد عدة تمخضات ومعارك حسمت الدولة المعركة عبر منطقها الخاص وروضت القادمين الجدد ورسلكت العائدين القدماء. 

ولا غرابة في أن تستدعي كل سلطة جديدة "قميص عثمان" هي الأخرى بأن تثير موضوع "التركة الثقيلة" والبطء البيروقراطي. لهذا من البديهي أن تبادر كل سلطة إلى إعادة توزيع الأدوار وتطعيم الإدارة بمن والاها ودار فلكها وقارب هواها السياسي، بدءًا بالحكومة وأعضائها ووصولًا إلى الكتاب العامين على مستوى الدوائر المحلية والجهوية، مرورًا بالدواوين والمديرين العامين. وهو ما تم بين شهري أوت/أغسطس وأكتوبر/تشرين الأول 2021، ولا يزال، إذ صدرت عشرات المراسيم الرئاسية التي تعفي وتقيل وتعين وترقي وتنقل، وكل هذا يتم في إطار لعبة السلطة في تكثيف الهيمنة وتأبيد الواقع. 

حسب الرافد النظري والتصوّر الكامن في الطرح الشعبوي، الذي يستفرد قيس سعيّد بعلامته، يسعى الرئيس وأنصاره إلى "إعادة تشكيل الدولة" تقنيًا وهيكليًا قبل الشروع في تحقيق الرفاه الموعود

حسب الرافد النظري والتصوّر الكامن في الطرح الشعبوي، الذي يستفرد قيس سعيّد بعلامته، يسعى الرئيس وأنصاره إلى "إعادة تشكيل الدولة" تقنيًا وهيكليًا قبل الشروع في تحقيق الرفاه الموعود. من منطلق رجل الدولة الذي يريد أن يكونه قيس سعيّد، أو الدولتية l’étatisme، يمكن إلى حد ما "تفهّم" التوجه العام الذي يرمي إليه رأس السلطة السياسية. لكن واقع التجربة أثبت عند عدّة محطّات مختلفة، أن حالة الاستثناء والخطر الداهم تحوّلت إلى نظام استثنائي دائم، وأن التواصل المباشر مع "الشعب" دون أجسام وسيطة تحوّل إلى تضييق مربع الحريات العامة والفردية والعمل السياسي والجمعياتي، وأن إصلاح القضاء حوّله إلى وظيفة ملحقة السلطة السياسية. فليس مستغربًا إذا تحوّلت حملة "تطهير الإدارة" إلى عملية "تمكين" للأنصار والموالين بمنطق "الغنيمة".

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"