14-يناير-2020

حديث عن الثورة بين المطالب والتحديات (صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

كانت تظهر الاحتجاجات في تونس حينما انطلقت ذات 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 سحابة صيف قائض ولكن أيامًا قليلة فاصلة بين هذا التاريخ و14 جانفي/كانون الثاني 2011 أثبتت أنها احتجاجات فارقة في تاريخ البلاد حينما انقلبت إلى ثورة ألهبت صقيع الليالي السود وأسقطت نظام الاستبداد وألهبت الشعوب العربية التواقة للحرية والكرامة.

تعالت أصعدة الدخان والتبس النضالي بالإجرامي وتسرب الوهن في منظومة الاستبداد واختلطت الدماء بأديم الأرض وانتظر الجميع زهرة تثمر حرية وكرامة إنسانيّة، تتابعت الأحداث وارتدّت الاهتزازات ومن رحم الظلم انبثق النور. عشنا أيامًا نرتوي من عيون الحرية الجارية حتى أشكل علينا الفرز بين السيئ والأسوأ وبين الحسن والأحسن، ولم نلبث أن خضنا حربًا غير تقليدية بين الفوضى والنظام حتى إرساء المؤسسات السيادية وإصدار الدستور الجديد.

 خربشات منظومة الحكم الحاضنة لإرث ثقيل لم تشأ أن تبقى على الربوة بل عادت لتفتك مكانتها التقليدية بآليات جديدة وانطوى الصراع على السلطة يراوح مكانه

غير أن خربشات منظومة الحكم الحاضنة لإرث ثقيل لم تشأ أن تبقى على الربوة بل عادت لتفتك مكانتها التقليدية بآليات جديدة وانطوى الصراع على السلطة يراوح مكانه، هكذا كانت الثورة التونسية كالرمال المتحركة في الصحراء الشاسعة غير ثابتة تزداد حركتها بقدر المؤثرات الداخلية والخارجية.

وشاء أن يحتدم الصراع في تونس أيديولوجيًا وسياسيًا بين الفرقاء ولكن لم تنهر الدولة، كما شاء أن تستوطن المصالح الخارجية البلاد لتحافظ على امتيازاتها التاريخية والتقليدية فأضعفت المناعة الذاتية، وشاء أن يعود جزء من المنظومة القديمة إلى الحكم ولكن لم تصطدم بمكونات المنظومة الجديدة فحل التوافق، ولكن ظلت أغلب أهداف الثورة معلقة في ظل انخفاض مؤشرات التنمية وارتفاع البطالة.

وكان قادة المجتمع المدني، في خضم الثورة، عنصرًا جوهريًا طيلة مراحلها ومكونًا ثابتًا في بناء مشهد ما بعد الثورة بعناوين حماية الحريات وصيانة الحقوق وتعزيزها والعمل من أجل تفعيلها.

اقرأ/ي أيضًا: تسع سنوات على الثورة.. تنكر السلطة متواصل لعائلات الشهداء والجرحى

سهيل مديمغ (محامي وحقوقي): فرص ضائعة لكن ما تحقق ليس هينًا

التقينا سهيل مديمغ، وهو محامي وحقوقي ممن رفعوا لواء الثورة وعاشوا أحداثها بين سوسة والعاصمة، الذي حدثنا متحسرًا عن "تسع سنوات من الفرص الضائعة" حينما سألناه عن تحولات الثورة طيلة السنوات الماضية، ثم تدارك بالقول "غير أن ما تحقق ليس هيّنًا، ولكن انقضاض الثورة المضادة وتعطيل المسار كان منذ انتخاب المنظومة القديمة (في إشارة لانتخابات 2014) فشكّل ذلك منعرجًا ووقع الالتجاء إلى نفس الوجوه التي أعيدت رسكلتها وتوالت الأخطاء".

وقال إن الخطأ كان في اعتبار تاريخ 14 جانفي/كانون الثاني 2011 هو صفحة طي أسس النظام القديم والحال أن هذا النظام القديم في الحكم رغم تقديمه تنازلات فُرضت عليه ولكن سرعان ما عاد، وفق قوله.

ويضيف محدثنا قائلًا: "بقدر الإحساس بالمرارة بقدر الأمل في المستقبل، هناك انتصارات تحققت ولن نعود الى الوراء ومن ذلك واقع الحريات والإعلام رغم الوجه البائس الذي يظهر من حين إلى آخر".

سهيل مديمغ: هناك انتصارات تحققت ولن نعود الى الوراء ومن ذلك واقع الحريات والإعلام رغم الوجه البائس الذي يظهر من حين إلى آخر

أما عن الحكم المحلي الذي كان وليد الثورة بعد الانتخابات البلدية 2018، يراه المحامي والحقوقي انعكاسًا لترشيد منظومة الحكم وتشريك المواطن بالفعل، ولكن أكد أن الحكم المحلي "لازال غير مفهوم كما يجب في ظل الهنات في المنظومة التشريعية للوصول فعليًا إلى إرادة المواطن في محليته، وفي جهويته، وفي إقليميته حتى يدير شأنه باستقلالية" مضيفًا أن المركزية صنعت الكثير من البيروقراطية والتسلط المركزي حسب تعبيره.

مديمغ المحامي والشريك في إقامة العدالة يؤكد على أن استقلالية القضاء لازال طرحها ثابت وأكثر إلحاحًا اليوم مبينًا أن الاستقلالية في مفهومها التقني تعني الابتعاد عن التجاذبات السياسية "وهو ما لم نبلغه إلى اليوم لأن السلطة التنفيذية تسعى إلى وضع يدها على السلطة القضائية واستغلالها في معاركها".

ويستدلّ، محدثنا، في هذا الجانب بترشيح قضاة مباشرين لمناصب وزارية دون المرور على المجلس الأعلى للقضاء، مشيرًا بالخصوص للقاضي الذي أصدر حكمًا استعجاليًا عام 2000 لتعليق الهيئة الوطنية للرابطة التونسية لحقوق الإنسان، في إشارة لعماد الدرويش لوزير الدفاع المقترح في حكومة الحبيب الجملي. واعتبر أن تفويت فرصة إصلاح القضاء وتكريس استقلاليته يمكن أن يقع ضحيته من هم في السلطة اليوم، وفق تأكيده.

أما عن دور المجتمع المدني بعد الثورة، يتحدث مديمغ عن نوعين من المجتمع المدني: الأول قادم من صراع ما قبل 14 جانفي لديه ثوابت ومبادئ والقاسم المشترك الذي يجمعه هو مقاومة الاستبداد والفساد، والثاني تشكل بعد الثورة له ارتباطات بالجهات الممولة التي لها أهداف وبرامج قد لا تكون مرتبطة بمصلحة المجتمع وتقدّم أولويات غير مطروحة عليه، ولكن هذا الصنف "يستطيع تطوير الحياة المدنية في تونس وتجذير نشاط المجتمع المدني بصفة عامة".

سهيل مديمغ: تغيب القوى الفعلية المتجذرة التي تستطيع تطبيق البرنامج الذي كرّسته شعارات الثورة في الشغل والعدالة الاجتماعية

اقرأ/ي أيضًا: "14 غير درج - أوان تونس".. تاريخ الثورة لم يُكتب بعد رغم زخم المادة

ويختم حديثه لـ"ألترا تونس" بالحدث عن غياب قوى فعلية متجذّرة تستطيع تطبيق البرنامج الذي كرّسته شعارات الثورة في الشغل والعدالة الاجتماعية قائلًا: "يطرح اليمين تطوير الامكانات الاجتماعية من منطلق الترقيع ليس من منطلق العدالة الاجتماعية، أما اليسار فلا يطرح بدائل متكاملة أو بدائل مؤثرة فالبديل الحقيقي المعبّر على تطلعات الثورة وتطلعات شعبنا غير مطروحة في الصراع الحالي".

ويضيف، في هذا الإطار، قائلًا: "الصراع الآن يبدو لي من داخل ذات المنظومة مع اختلافاتها، فالليبرالية حتى إن تناقضت فهي لا تتناقض في العمق والدليل أن النهضة حكمت مع نداء تونس وهذا هو صراع المنظومة الواحدة في حين أن تطلّعات التونسي هو استبدال منوال تنموي بمنوال آخر جديد يعتمد على إمكانيات من داخل الوطن".

مراد الميلي (ناشط مدني من ضحايا الاستبداد): ويبقى الأمل قائمًا

من جهته، تحدث مراد الميلي، وهو ناشط مدني ومن ضحايا قمع الحركة الطلابية زمن الاستبداد، لـ"ألترا تونس" بخصوص مراكمات الثورة التونسية، عن تحقيق الحريّات الفرديّة والجماعيّة "لنقطع نهائيًا مع كلّ محاولات الرّجوع ببلادنا إلى مربّع الإستبداد السّياسي" مشيرًا، في هذا الجانب، إلى تحرّر الإعلام من كلّ وسائل الرّقابة القبليّة والبعديّة.

 وقال إن الساحة السياسية شهدت ميلاد آلاف الأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات النّاشطة في جميع المجالات، مع تخطي البلاد صعوبات بناء أغلبية مؤسّساتها وهيئاتها الوطنيّة بعد التّوافق على كتابة دستور يرتقى إلى طموحات أغلبيّة الشعب التّونسي من نتائجه تنظيم عدة انتخابات، رئاسية وبرلمانية وبلدية، في رسالة ترسّخ نهائيّا المسار الدّيمقراطي وتقطع مع كلّ إمكانيّات الرّجوع إلى نظام ما قبل الثورة، وفق تأكيده.

وفي هذا الجانب، أكد محدثنا أن من مكاسب الثّورة هو تكريس الحكم المحلّي في ظل مبدأ التّشاركيّة في صنع القرار المحلّي، وإن أشار إلى أن هذه التّجربة لا تخلو من النّقائص بسبب عدم تناغم أغلبيّة المجالس البلديّة المنتخبة، واصطدامها بعقليّة السّلطة المركزيّة غير مهيّئة للتّفريط في جزء من صلاحياتها، وسلطة محليّة وجهويّة لم تستوعب متغيّرات المرحلة، وفق قوله. وأضاف أن "النّتيجة مخيّبة لعديد المتحمّسين للتّجربة فحلّت بعض المجالس البلديّة وخيّل لبعضهم إمكانيّة إجهاض التّجربة من مهدها، وعدم استكمال مسار تجربة الحكم المحلّي" .

مراد الميلي: يبقى الأمل قائمًا لاستكمال ما تبقّى من مسار بناء الدّولة الوطنيّة الضّامنة للشّغل والكرامة بعد أن رسّخت ركائز الحرية والديمقراطية

أما عن المسألة الاجتماعية، تحدث الميلي عن فشل كلّ الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في "تحقيق طموحات العاطلين عن العمل في الشّغل الكريم وآمال المفقّرين والمهمّشين خاصّة من أبناء المناطق الداخلية في الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية، لتتّسع الفجوة بكلّ أشكالها، بين طبقات المجتمع التّونسي، في وقت انتعش فيه الفساد داخل جميع مؤسّسات الدّولة وازدهر فيه الاقتصاد الموازي ليساهم في تدنّي نسب النموّ الاقتصادي وتدهور قيمة الدينار التونسي وارتفاع نسبة المديونيّة والتّبعيّة للخارج، في مناخ اجتماعي وسياسي متوتّر ساهمت في تكريسه أنانيّة وجشع النّقابيين والسّياسيين، وغذّته بعض النّعرات الجهويّة النّاعقة من هنا وهناك".

وأشار محدثنا إلى الصراع بخصوص الدعوات لتنقيح الدّستور في اتجاه الرّجوع إلى النّظام الرّئاسي بتدعيم صلاحيات رئيس الجمهوريّة بعنوان تفادي مساوئ فوضى الكتل البرلمانيّة، إضافة إلى الجدل الجدال حول جدوى التّكريس الفعلي للحكم المحلي واستكمال بناء المؤسّسات ذات الصّلة، بنقل الصّلاحيّات وتوفير الموارد الضّروريّة وتكريس اللاّمركزيّ".

وختم الناشط مراد الميلي حديثه لـ"ألترا تونس" أنه "في ظلّ هكذا مخاض اجتماعي عسير، وتجاذب سياسي حادّ يبقى الأمل قائمًا لاستكمال ما تبقّى من مسار بناء الدّولة الوطنيّة، الضّامنة للشّغل والكرامة بعد أن رسّخت ركائز الحرية والديمقراطية".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرضيعة يقين القرمازي أصغر شهداء الثورة: بأي ذنب قتلوها؟

شهداء ثورة تونس وجرحاها.. تهميش وتوظيف