27-ديسمبر-2018

غياب البنية التحتية الأساسية في حي "التطهير" في جنوب سوسة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

توجهت، في إحدى الأمسيات الشتوية، نحو الغابات الجنوبية لمدينة سوسة في زيارة استطلاع لمناطق يمتد فيها الزرع الأخضر وأشجار الزيتون ويحيط بها تقاطع السكة الحديدية، أين تمتد خيوط الشمس المنحنية نحو الغرب لتخترق ضوضاء المدينة. وقد أبانت، من فوق الربوة، بحيرات صغيرة تزورها بعض الطيور المهاجرة من صنف البط وطيور النوارس التي ظهرت مجتمعة على غنيمة.

لكن لا يمكن أن تترك النظر حبيس البحيرة والمزارع حتى يرتفع بك البصر نحو الأعلى لترى أحياء حمراء على مشارف مدينة سوسة لا تشاهد منها إلا حمرة الآجر الممتد على بضع أميال، فيما ترى على امتداد الآفاق شمال مدينة سوسة في عليائها وقد ارتفعت بناءاتها الشاهقة.

تطغى على مجمعات سكنية تسمى "حي التطهير" في سوسة ألوان رمادية وحمرة الآجر باعتبار أن سكان المنطقة يستعملون بكثافة قوالب الآجر في بناء منازلهم دون طلائها

لم يكن هذا المشهد الجمالي وحده كفيلًا باكتشاف أغوار هذا المكان من منطقة "سيدي عبد الحميد"، جنوب مدينة سوسة، فتقدمت في المسير على الضفاف اليمنى للبحيرة، ولكن ما إن اقتربت منها حتى انبعثت روائح كريهة وأحاطت بها من جميع الجوانب الفضلات ونفايات المصانع وبقايا الأشغال. فقد كانت هذه البحيرة على امتداد عقود مصبًا لنفايات المدينة فذهبت بنقائها ومحضنتها الطبيعية، وتوجد على بضع أمتار كتل المواد الحديدية القديمة المجمعة، وهي على ملك بعض باعة المواد المستعملة.

فيما تتراءى، على بعد نحو ميل واحد، مجمعات سكنية تسمى "حي التطهير" تطغى عليها الألوان الرمادية وحمرة الآجر باعتبار أن سكان هذه المنطقة يستعملون بكثافة قوالب الآجر في بناء منازلهم دون طلائها، فاكتسحت بذلك الحمرة هذا المكان الذي يخفي أسرار شريحة مجتمعية واسعة تقطن هذه الأحياء المتاخمة لوسط مدينة سوسة، بل هي الامتداد الطبيعي خلال العقود الأخيرة للتوسع العمراني الكبير الذي شهدته المنطقة.

اقرأ/ي أيضًا: "الترا تونس" في مدينة مساكن يتقصّى حول انتشار حمى غرب النيل (صور خاصة)

بعد عبور الطريق الحزامية المحيطة بجنوب مدينة سوسة، وجدت نفسي بين بناءات على مقاسم عقارية مشوهة دون تناسق أو انسجام في البناءات، إذ توجد منازل على مساحات صغيرة تفتقر لأدنى مقومات العيش اللائق مع معاينة ثياب على حبل الغسيل مجاورًا للباب في بعض المنازل. يمكن أيضًا معاينة خزانات مياه للشرب والاستعمال المنزلي أمام الدور، وانتشار المواشي في بعض الأراضي البيضاء في المنطقة.

وألقى حينها المساء بضلاله على الجهة لينجلي مشهد عودة العملة إلى بيوتهم بعد يوم عمل شاق في المصانع المجاورة ونزل المدينة، ويحمل بعضهم أكياسًا تحمل لقمة العيش إلى أبنائهم. ولا يمكن عبور المكان دون معاينة أكداس مهولة من الأسلاك الحديدية التي يتم جمعها من بقايا البناءات المهدمة ويتم إعادة رسكلتها يدويًا لتشكل دعامات لبناءات حديثة وبيعها من جديد.

اعتاد سكان "حي التطهير" في سوسة استعمال قوالب الآجر في بناء منازلهم دون طلائها (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

وتدعو هيئة هذه الأحياء للغوص في دراسة خصائصها العمرانية والعقارية والاجتماعية والاقتصادية والنظر في مدى استجابتها للحد الأدنى من العيش الكريم الذي يضمنه الدستور.

اتصل "الترا تونس" لذلك بصابر درير، رئيس الدائرة البلدية "سيدي عبد الحميد" بسوسة، الذي أكد في بداية حديثه أن مرجع نظر الدائرة يمتد على مساحة شاسعة جغرافيًا مع توسعتها لتشمل حي "قابادجي" بمقتضى قرار بلدي في أوت/أغسطس 2018 مشيرًا إلى أن التعداد السكاني لكامل الدائرة البلدية يقدر بنحو 70 ألف ساكنًا، لتشهد المنطقة كثافة سكانية عالية. وأضاف أنها تتكون من 5 عمادات وهي حي المطار، وقصيبة الشط، وابن خلدون، وسيدي عبد الحميد وديوان التطهير، وهي عبارة عن أحياء "بدائية" حسب تعبيره، تشكو عديد النقائص في البنية التحتية.

صابر دريرة (رئيس دائرة سيدي عبد الحميد بسوسة): تشهد المنطقة كثافة سكانية عالية وأحياؤها بدائية تشكو عديد النقائص في البنية التحتية 

ووصف المسؤول البلدي هذه الأحياء أيضًا، خلال حديثه معنا، بأنها "أحياء حمراء" نسبة الى اكتسائها باللون الأحمر للآجر في بناياتها، فلا ترى اللون الأبيض إلا نزرًا خلافًا لشعار مدينة سوسة الذي يلتهب زرقة واصفرارًا.

ويفيد دريرة أن بلدية سوسة توسعت شمالًا وجنوبًا في السنوات الأخيرة، مشيرًا بأن منطقة الشمال تحيل إلى الشواطئ والنزل الفاخرة والتقاسيم العقارية العصرية، وأكد أن شريحة من السكان دخلها فوق المتوسط ترتقي إلى درجة الجيد تقطن هذه المنطقة.

ويشير أيضًا أن مدينة سوسة أصبحت قبلة لليد العاملة والنشاط الاقتصادي لما انتعشت السياحة في العقود القليلة الماضية، لذلك توجه العاملون والباحثون عن مواطن شغل للإقامة والاستقرار في جنوبها نظرًا لوفرة الأراضي. ويوضح المسؤول البلدي إلى أن عملية الاستقرار بهذه المنطقة كانت على حساب التهيئة بحكم أن هذه المناطق غير مهيئة عمرانيًا للسكن حينها، والرسوم العقارية المسجلة عن طريق المسح العقاري كانت على ملك أعيان سوسة باعتبارها أراضي فلاحية تقوم على غراسات الزيتون أساسًا.

استقر العمال القادمون إلى سوسة في جنوب المدينة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: سوسة في الذكرى 30 لإدراجها في لائحة اليونسكو.. معالم أثرية ومخاطر جديّة

ويضيف محدثنا أنه تم لاحقًا التفويت في الأراضي الخاصة بالبيع بثمن بخس دون تقسيم في حين كان يجب أن تقترن في الأصل بوجود تقسيم لهذه العقارات عن طريق ديوان قيس الأراضي مرفقة بمصادقة من طرف مصالح وزارة التجهيز والإسكان وأيضًا من طرف المصالح البلدية المختصة، وذلك لاحترام جميع المواصفات العمرانية من مرافق عامة ضرورية، وفق تأكيده.

ويؤكد رئيس الدائرة البلدية "سيدي عبد الحميد" لـ"الترا تونس" أن التسارع في البناءات والزحف العمراني لم يواكبه بنفس الوتيرة تدخل الدولة و"كأن الدولة قد تفاجأت بدخول هذا الكم الهائل من المواطنين ولم تؤخذ التدابير الضرورية لتدارك الأمر" وفق تعبيره.

ويشير إلى اهتمام الوكالة العقارية للسكنى والشرطة الوطنية العقارية بتقاسيم العقارات في شمال سوسة وخاصة في سهلول وذلك دون الاهتمام بالجهة الجنوبية ودون مراعاة طبيعة الشرائح السكانية ودخلها وأيضًا عدم مراعاة مبدأ المزيج السكاني من حيث القدرة على اقتناء عقار ذلك أن الشرائح الهشة لا يمكنها اقتناء عقارات باهظة في الشمال.

تعاني منطقة جنوب مدينة سوسة من نقص في البنية التحتية متراكم منذ عقود (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

ويبيّن دريرة أن ما زاد منطقة "سيدي عبد الحميد" و"قصيبة الشط" فقرًا، حسب تقديره، هو وجودها جغرافيًا بين واديين وهما "وادي الحلوف" و"وادي حمدون" قائلًا: "امتدت البناءات الفوضوية على ضفاف الوادي وهو ما ترتب عنه مشاكل بيئية عميقة، وهذه البناءات بدورها لا يصلها الماء الصالح للشراب وشبكة الاتصالات والكهرباء والغاز بحكم أنه تم الاعتداء على الملك العمومي البحري. لقد كانت سواحل سيدي عبد الحميد قبلة المصطافين غير أن التلوث الذي لحقها جراء نفايات المصانع والأودية والمياه المستعملة جعلها مصنفة خلال السنوات الأخيرة ضمن الشواطئ الممنوع من السباحة فيها".

ويرى المسؤول البلدي في بلدية سوسة في حديثه معنا أنه كان بالإمكان إدماج الباعثين العقاريين الخواص عبر التشجيع على الاستثمار في جنوب سوسة وذلك عبر إرادة حكومية تتمثل في تسهيلات على شكل امتيازات جبائية وذلك حتى يتحقق التوازن بين شمال سوسة وجنوبها.

صابر دريرة (رئيس دائرة سيدي عبد الحميد بسوسة): يجب تشجيع الاستثمار في منطقة جنوب مدينة سوسة لتحقيق التوازن مع شمال المدينة

ويشير صابر دريرة، رئيس الدائرة البلدية "سيدي عبد الحميد" بسوسة، في هذا الجانب، إلى أنه من بين الحلول المطروحة لتدارك البناءات العشوائية في المستقبل، الاطلاع الدوري على الرائد الرسمي من طرف اللجنة القانونية والنزاعات بهدف تفحص كل مطالب التسجيل والتحيين المقدمة وذلك بغاية التقليل من عملية تسجيل عقارات البلدية لفائدة الخواص.

كما دعا اللجنة الجهوية لاستقصاء وتحديد ملك الدولة الخاص بولاية سوسة إلى القيام بدور فعال في استرجاع الأملاك المنهوبة، مطالبًا أيضًا لجنة التهيئة العمرانية والتخطيط في بلدية سوسة للإسراع في رسم مخطط ينهض بالمدينة شمالًا وجنوبًا، في إطار التعاون بين مختلف اللجان بالمجلس البلدي بهدف تحقيق التنمية، وذلك بالتوازي مع توجه البلديات نحو تعزيز الشراكة مع المجتمع المدني والمواطن بهدف دعم التشاركية.

ويبقى، في الأثناء، النشاط الحرفي في الجهة وخاصة منها ورشات الحدادة غير المنظمة التي اكتسحت الحي مثار جدل وذلك نظرًا لدورها الاجتماعي في تشغيل عدد من اليد العاملة غير أنها شوهت المكان وصارت عائقًا أمام تهيئة عمرانية سكنية لائقة كما باتت مرتعًا للتجارة الموازية غير الخاضعة للمراقبة المالية.

أحياء الفقر في سوسة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا:

دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"

"الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"