شهر رمضان في تونس هو ذاك الطقس الديني "العباداتي"، الذي يمتزج فيه الروحي المقدس بالعادات المجتمعية التي ترسخت بمرور الزمن الإسلامي على الأرض وبالخصوصيات الثقافية لكل مدينة ولكل بلدة تونسية.
شهر الصيام، هو مناخ خاص ينقطع فيه المسلم التونسي لنفسه ولأكوانه المخصوصة بحثًا عن وحدة من التيهام والانخطاف، فيتمّمه ببعض الجمال المنتقى الصفيّ وكلّ على طريقته.. فنجد جزءًا من التونسيين يمعنون في زيارة أماكن وبلدات بعينها ومدن بعينها تيهًا مرغوبًا وغير مفهوم بالعقل والمنطق، فقط هو مدرك بالغيب الجميل، فيتحول ذاك المتمم إلى معين فياض من الإلهام لأحاسيس هي "تعاش ولا تقال" فيها من السموّ والسكينة والجمال ما لا تحدّه ضفاف. إنها صوفيات الأمكنة الجاذبة والساحرة لدى التونسيين في رمضان، يتنقلون إليها موسميًا كنوع من الحج الرمضاني المضيء لدروب ممجّدة القوام والجمال.
- القيروان.. سجاد روحي لا نَملّ المشي فوقه..
تبقى حاضرة القيروان الموصومة "برابعة ثلاث" بعد مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة والقدس الشريف العاصمة المشتهاة لرمضان بتونس، إذ يبدو للتونسيين منذ القدم أن رمضان هناك مستقرّه وهناك روائحه وكرمه وعطفه، حيث يعتقدون أن رمضان ينام طيلة السنة على أرض القيروان، ثم سرعان ما ينبجس كبهرة ضوء في العتمة أو كأثر فراشة نال منها رونق الربيع فأدهشها فينتشر في موعده على كامل البلاد.
تبقى حاضرة القيروان الموصومة "برابعة ثلاث" بعد مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة والقدس الشريف، العاصمة المشتهاة لرمضان بتونس
من هذه الأرض القيروانية القديمة، تسري روحانيات رمضان نحو قلوب التونسيين سفرًا في العقول والأفئدة فيجعل إقامة المسلم مدهشة وأثيرية ومتعلقة بخيوط متدلية من السماء.
القيروان في رمضان تتحوّل إلى مبخرة كبرى تفوح منها زكيّات الشهر المقدس ومنها تسافر إلى كل الدنيا، لذلك يقصدها آلاف التونسيين خلال شهر الرحمة للتزود بطاقة لامرئية وبسحر المدينة وجمالها الضارب في التاريخ وهي التي أنشأها عقبة بن نافع سنة 670 ميلادية لتكون أولى عواصم الإسلام بشمال إفريقيا والأندلس.
التونسيون يقصدون القيروان في رمضان للتمتع بمعالمها العديدة وخاصة الصلاة بجوامعها ومساجدها مثل جامع عقبة إذ يحبّذ الآلاف من التونسيين ختم القرآن بهذا الجامع وزيارة مقام الصحابي الجليل أبو زمعة البلوي الذي استشهد بأرض القيروان
التونسيون يقصدون القيروان في رمضان للتمتع بمعالمها العديدة وخاصة الصلاة بجوامعها ومساجدها مثل جامع عقبة بن نافع وهو أكبر جامع في تونس وأول مؤسسة دينية وتعليمية في تونس إذ يحبّذ الآلاف من التونسيين ختم القرآن الكريم بهذا الجامع العتيق، وزيارة مقام الصحابي الجليل أبو زمعة البلوي الذي استشهد بأرض القيروان خلال غزوة معاوية بن حديج سنة 654 م والذي يتمتع بمكانة مخصوصة لدى عامة التونسيين ويشهد فضاء المقام في العشر الأواخر من الشهر المقدس حفلات ختان تبركًا بحضرة الصحابي المكرّم.
كما تعرف مقامات أخرى زيارات صوفية مثل مقام سيدي عمر عبادة ومقام سيدي عبيد الغرياني.. وزائر القيروان لا بدّ يعرّج على معلم "بئر بروطة" الشهير، والتجول بأسواقها مثل سوق الربع حيث يباع السجاد القيرواني بزخارفه البربرية والأندلسية وسوق الجرابة وسوق العطارين وسوق النحاسين الذي يزدهر خلال رمضان والجلوس بمقاهيها العتيقة ولا تكتمل زيارة القيروان إلا بشراء ما لذّ وطاب من حلويات "المقروض" الشهيرة وأقراص الخبز القيرواني الذي لا يزال يعدّ في أفران الحطب القديمة.
زائر القيروان لا بدّ يعرّج على معلم "بئر بروطة" الشهير، والتجول بأسواقها والجلوس بمقاهيها العتيقة ولا تكتمل زيارة القيروان إلا بشراء ما لذّ وطاب من حلويات "المقروض" الشهيرة وأقراص الخبز القيرواني
جامع عقبة بن نافع في القيروان (Getty)
- باجة.. مطمورة تونس وسيدة المذاقات..
مدينة باجة وهي إحدى حواضر الشمال الغربي التونسي الضاربة في القدم فهي موصومة بحقب بونيقية ورومانية ثم إسلامية وتمتاز بطبيعتها المبهرة وسهولها الممتدة التي لا تحدها عين وتعتبر لدى شق كبير من التونسيين قبلة رمضانية باذخة بالروائح والروحانيات والمذاقات التي لا نجد لها أثرًا في أماكن أخرى وهي التى لا تبعد عن العاصمة تونس سوى 120 كلم.
كثير من التونسيين يقصدون باجة للتريّض في ربوعها وسهولها الخلابة وقناطرها وآثارها انطلاقًا من قرى دقّة وعين تونقة والسلوقية ودجبّة وغيرها
أمّا مواقيت السفر إلي باجة فهي مفتوحة في كل حين على مدار السنة، لكن سفرة شهر رمضان فلها رونقها الخاص، إذ كثير من التونسيين يقصدون باجة للتريّض في ربوعها وسهولها الخلابة وقناطرها وآثارها انطلاقًا من قرى دقّة وعين تونقة والسلوقية ودجبّة و"شوّاش".. وصولًا إلى " باجة " المدينة والتبضّع من منتوجها الفلاحي البيولوجي، وعادة ما يسافر إليها التونسيون بعد الظهيرة.
تستقبلك المدينة بحب غامر وعفوية أبناء الأرض وبصخب سوقها الشهير "باب الزنايز" ( الجنائز ) وسمي كذلك لأنه كان مسلكًا قديمًا نحو مقبرة المدينة. هذه السوق ليست حيزًا تجاريًا فحسب بل هي مكان يروي التاريخ والذاكرة الاجتماعية "للباجية ". على طول خط " باب الزنايز" يتكثف الزمن فيتحوّل السوق إلى فضاء رمزي ملهم يستقطب الناس في رمضان بحثًا عن كيانات ما.
توضع "المخارق" و"الزلابية" الباجية على كل طاولات العائلات التونسية في سهرات رمضان وتعتبر المقتناة مباشرة من أسواق باجة وخصوصًا باب الزنايز هي الأصلية والأجود على الإطلاق
"باجة" أو مطمورة تونس يتميّز مطبخها ومكونها الغذائي بعدة أطباق لكن يبقى المنتوجين الأشهر اللذين يقبل التونسي بالأساس في شهر رمضان عليهما هما حلويات "المخارق" و"الزلابية" المصنوعتان أساسًا من دقيق القمح الصلب وزيت الزيتون مع إضافة دهن السمن والمقليتان في الزيت والمغمّستان في عسل السكر، وهي كلها مكونات منتجة محليًا... وتقريبًا توضع "المخارق" و"الزلابية" على كل طاولات العائلات التونسية في سهرات رمضان وتعتبر المقتناة مباشرة من أسواق باجة وخصوصًا باب الزنايز هي الأصلية والأجود على الإطلاق.
والمتنقل إلى مدينة باجة في رمضان لا يفوته اقتناء بعض الخضروات والغلال المتأتية لتوها من البساتين المجاورة.
- تستور.. بحثًا عن شميم الأندلس المفقود..
ومن المدن التي يقصدها التونسيون في رمضان نجد مدينة تستور بالشمال الغربي التونسي التي تبعد عن العاصمة تونس حوالي 76 كلم، وهي قرية تأسست إبان الهجرة المورسكية الكبرى سنة 1906 على يد الأندلسيين الفارين من إسبانيا إبان انتصاب محاكم التفتيش.
تستور هي قبلة رمضانية استثنائية بحثًا عن عطر قديم وشميم الأندلس المفقود، وإذا باغتك جمال صومعة جامعها فاعلم أنك في حضرة تستور المحببة لدى جميع التونسيين
تستور هي قبلة رمضانية استثنائية بحثًا عن عطر قديم وشميم الأندلس المفقود، الصلاة بالجامع الذي أسسه محمد تغرينو سنة 1630، الكبير والمطل على بطحاء الرحيبة مغنمة للروح الباحثة عن سرد التاريخ الإسلامي، وإذا باغتك جمال صومعة الجامع فاعلم أنك في حضرة تستور المحببة لدى جميع التونسيين.
الجلوس في مقهى غرناطة التي تروي مسيرة أبناء الأندلس بتونس والاستماع إلى موسيقى المالوف بأذن القلب وترشف قهوة عربية أصيلة هو من الترف الرمضاني الذي لا ينسى. نبحث عنه مع قدوم الشهر الكريم ولا نشبع من روحه الريانة المانحة المبسوطة.
تستور في رمضان هي جولة في سوقها الضيق الحميمي المحمل بالخيرات والذكريات الأندلسية، إذ لا يفوت الزائر اقتناء مشتقات الحليب ودبس ومعجون الرمان الذي تعدّه الجدات التستوريات بكل عناية وبعض الحلويات المحلية مثل "كعك الورقة" و"المسمنات"
تستور في رمضان هي جولة في سوقها الضيق الحميمي المحمل بالخيرات والذكريات الأندلسية، إذ لا يفوت الزائر اقتناء مشتقات الحليب من أجبان وقوتة وسمن ودبس ومعجون الرمان الذي تعدّه الجدات التستوريات بكل عناية وبعض الحلويات المحلية مثل "كعك الورقة" و"المسمنات".
المسجد الكبير في تستور (Getty)
- رأس الجبل.. الحسن الرمضاني وسط الخضرة الآسرة وعراقة التاريخ..
مدينة أخرى تسحر التونسيين في رمضان فينجذبون إليها انجذابًا خاصًا... إنها مدينة رأس الجبل التابعة لولاية بنزرت شمال البلاد التونسية. مدينة ذات حسن آسر، سليمة الهواء والنقاء، وذات فلاحة وبساتين تبهج الناظرين فتسرّهم وتستقطبهم على أكوانها.
رأس الجبل تطل على البحر الأبيض المتوسط بخفر وحذر، منشغلة بفلاحتها وجمال كرومها وغلالها كفلاح قديم لا يهده التعب. وحسب الروايات المتواترة في كتب التاريخ فقد أسهم في تأسيس مدينة رأس الجبل مهاجرون أندلسيون قدموا بحرًا بعد سقوط "سرقسطة" في يد الإسبان سنة 1112 م ولا تزال الذاكرة تحتفظ إلى اليوم بشواهد على هذا الترابط من خلال مقام الشيخ سيدي عبد الله اللخمي السرقسطي المتوفى سنة 1305 م وتأسيس "حومة القصر" التي تحتوي إحدى أهم المعالم الدينية في تونس وهو الجامع الكبير الذي افتتح في رمضان سنة 904 هجرية.
رأس الجبل هي مقصد رمضاني باعتبارها مدينة عتيقة تسكنها بركات الأجداد القدامى فيحلو التجول في أزقتها القديمة وزيارة مقامات أوليائها
رأس الجبل هي مقصد رمضاني باعتبارها مدينة عتيقة تسكنها بركات الأجداد القدامى فيحلو التجول في أزقتها القديمة وزيارة مقامات أوليائها مثل مقام السيدة عجولة وسيدي العربي بن حمو وخصوصًا زاوية سيدي علي عزوز وهي الزاوية الوحيدة الموجودة لهذا الولي الصالح خارج مدينة زغوان.
وأيضًا يقصد الزوّار رأس الجبل لنظارة منتوجاتها الفلاحية والبحرية، فسوقها أو" المارشي " يتحوّل إلى عالم متداخل من الغذاء والعطاء والروائح والأصوات. هنا في سوق رأس الجبل يجد الزائر اللحوم النقية وخاصة لحوم الأبقار والأسماك المستخرجة لتوها من البحر القريب والدواجن ومنتوجات البيوت التي تعدها الأمهات والجدات بعناية مثل شتى أنواع الخبز ورقائق الملسوقة والحلالم والرشتة والزبيب المجفف والزيتون المخلل والخضروات وأصص النعناع والعطرشاء والحبق.
يقصد الزوّار رأس الجبل لنظارة منتوجاتها الفلاحية والبحرية، فسوقها أو" المارشي" يتحوّل إلى عالم متداخل من الغذاء والعطاء والروائح والأصوات
- "غمراسن" سفيرة الحلويات في رمضان..
هناك بأقصى الجنوب الشرقي للبلاد التونسية، توجد جنة رمضانية أخرى. مدينة أمازيغية ساحرة ومتميزة بمخزونها الثقافي الأمازيغي، يقصدها القاصي والداني في كل الأوقات من السنة، لكن زيارتها في رمضان لها طعم آخر... هي تبعد عن مركز ولاية تطاوين 40 كلم وعن العاصمة تونس أكثر من 500 كلم.
وتعني كلمة غمراسن باللغة الأمازيغية "سيّد القوم"، وقديمًا كانت هذه المدينة ضمن مسلك الهجرات الموسمية في الصحراء الكبرى، وقد عرفت الاستقرار وتشكل المدينة في حدود القرن الخامس عشر ميلادي.
تحيط بغمراسن قرى ساحرة وجاذبة للسياحة وهي التي عرفت تصوير سلسلة "حرب النجوم" لجورج لوكاس والاطلاع على التاريخ الصحراوي التونسي القديم على غرار "قصر حدادة" ووادي الخيل الذي اكتشفت به آثار متحجرات لدينصورات ما قبل التاريخ و"القرضاب" و "قرماسة" و" قصر المرابيط " وتزار هذه القرى في مساءات رمضان ولالتقاط صور الغروب.
تعرف مدينة غمراسن حركية خاصة في رمضان مع كثرة الزوار وعودة العديد من أبناء غمراسن المهاجرين في أوروبا لتقضية رمضان بين الأهل والتمتع بالأجواء الروحية للشهر الكريم في مدينتهم التاريخية
تعرف مدينة غمراسن حركية خاصة في رمضان مع كثرة الزوار وعودة العديد من أبناء غمراسن المهاجرين في أوروبا لتقضية رمضان بين الأهل والتمتع بالأجواء الروحية للشهر الكريم في مدينتهم التاريخية.
أما ما يميز عوالم رمضان الغمراسني فهي حلوياتها الشهيرة التي تسافر إلى كل البلاد التونسية وتوضع على كل الموائد ليحلو السهر والسمر الرمضاني، فلا طعم يضاهي "زلابية" المكان أما حلوى "المقروض" ذات الشكل شبه الدائري والمحشية بأجود أنواع التمور فهو مختلف في طريقة صنعه عن مقروض القيروان و" الشبكية " و"اليويو" ذي الحجم الكبير و"قرن الغزال" المحشي باللوز و" الفطائر الحلوّة ".
ما يميز عوالم رمضان الغمراسني هي حلوياتها الشهيرة التي تسافر إلى كل البلاد التونسية وتوضع على كل الموائد ليحلو السهر والسمر الرمضاني
وهي كلها حلويات دأبت على صنعها مدينة "غمراسن" وأيضًا مختلف مدن ولاية تطاوين منذ قرن من الزمن وهي تنجز بمنتوجات محلية وتصدر إلى الخارج فنجدها تباع بالمدن الفرنسية والألمانية والإيطالية.
كل مدينة تونسية لها سرها الرمضاني ولها جمالها الظاهر والخفي ولها طقوسها وعاداتها الاجتماعية المتوارثة التي تميزها عن باقي المدن الأخرى فتجعل لها شخصية رمضانية خاصة بها، لكن ثمة مدن بعينها ذات الثقل التاريخي والحضاري والاقتصادي تصبح مع حلول الشهر الكريم أكثر جاذبية وسحرًا فتتحول إلى مقصد مريح وقطب روحي ومخففة أسواقها عن جيوب المواطنين.
في النهاية تبقى علاقة الإنسان بالمكان من أسرار الوجود ذاته ومن أغرب العلاقات وقد تناولت الفلسفات القديمة والحديثة في أكثر من بعد موضوع هذه العلاقة... لكننا لا نزال ننتظر إلى اليوم أجوبتها الحاسمة فلا الدرب ينتهي ولا مسيرة رمضان تنتهي.