10-فبراير-2020

القصور هي واحدة من أهمّ الشواهد الأثرية والتاريخية في البلاد (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

الصخور عمادها، والحجارة وتدها، والتربة بلاطها، مستمدّة ألوانها الصفراء من لون الصحراء، هي قصور الجنوب التونسي التي تعدّ واحدة من أهمّ الشواهد الأثرية والتاريخية في البلاد وقد صُنفت مؤخرًا في القائمة التمهيدية للتراث الثقافي المادي العالمي.

وقصور الجنوب هي بنايات بسيطة المعمار والهندسة مشيّدة بمواد طبيعية عادية، ولكنها قاومت رغم بساطتها لتصمد على مدى سنين طوال. تتميّز بطوابق تضم غرف صغيرة، وأسقف مقوّسة بُنيت من الجبس والخشب وبقايا الأشجار، يفوق علوّها الأربعة أمتار، وتختلف عدد غرف كلّ قصر لتتراوح إجمالًا بين 100 و300 غرفة.

 قصور الجنوب التونسي تعدّ واحدة من أهمّ الشواهد الأثرية في البلاد وقد صُنفت مؤخرًا في القائمة التمهيدية للتراث الثقافي المادي العالمي

هي معالم تاريخية مميّزة للجنوب التونسي ذات طابع خاص لا يوجد مثلها في باقي الجهات البلاد، إذ تختلف القصور قليلًا في شكلها وفي ارتفاع بنائها إلا أنّها ذات بناء هندسي واحد لا تكاد تستطيع تمييز قصر عن آخر من حيث الشكل وطريقة البناء.

فما الذي يميّز هذه القصور؟ وما رمزيتها لدى أهالي الجنوب التونسي؟ وهل تمّ فعلًا الاهتمام بها وترميمها حتى تنتزع مكانتها في القائمة النهائية للتراث الثقافي المادي العالمي؟ وكيف لها أن تصمد والحال أنّها تشكو التهميش؟

اقرأ/ي أيضًا: معالم المذهب الإباضي في جربة.. من فرادة المشهد المعماري إلى فضاء العيش المشترك

قصور الجنوب.. من الفلاحة إلى السياحة

في جولة في إحدى قصور الجنوب التونسي، حين تولج إلى المكان عبر باب حديدي كبير، لا تجد نفسك سوى في بهو قصر مهجور وقد أزهرت من التشققات على صخوره وجدرانه بعض الأزهار، ونمت الأعشاب الطفيلية لتحتل أغلب جدران القصر.

توجد هذه القصور، التي يفوق عدد المائة، في مطماطة وتطاوين على غرار "قصر دويرات"، و"قصور أولاد سلطان"، و"قصر غيلان" و"قصر الحدادة"، وقد استمدت تسميتها من العائلات المالكة لها. وتحمل هذه المعالم، التي تعود لثلاثة قرون، تاريخ الجهة، ويقول أغلب المؤرخين إنّها ارتبطت بالقرى الأمازيغية وسكانها.

 معالم تاريخية مميّزة للجنوب التونسي (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

وهذه القصور، المشيّدة في بعض المرتفعات، معزولة غالبًا على القرية أو مركز التجمعات السكانية، وقد بُنيت بحجارة تؤمن حفظ المحاصيل من التلف على غرار القمح والشعير والزيت سواء في الصيف أو الشتاء، فيما خصص بعضها للسكن.

وإن تغيرت وظيفتها من حفظ المحاصيل في الأمس إلى إدراجها في المسالك السياحية اليوم، ظلت قصور الجنوب ذات قيمة خاصة لدى مواطني الجهة يكابدون للحفاظ عليها، إذ لا تسقط أغلب برامج المهرجانات الصحراوية من أجندتها تنظيم بعض العروض داخل القصور لتبعث فيها الحياة من جديد. وتستقبل بالخصوص عروض الرقص، والموسيقى الشعبية لجهات الجنوب وكذلك عروض الفرق الشعبية القادمة من وراء الحدود تحديدًا من ليبيا والجزائر.  

والطرقات المؤدية إلى القصور ليست صعبة، إذ يكفي أن تسأل الأهالي المجاورين ليدلوك على الطريق خاصة للقصور التي تؤمن بعض عروض مهرجان الصحراء بتطاوين.

تستقبل بعض القصور عروضًا في المهرجانات الصحراوية في الجنوب (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

قصور تشكو التهميش

ورغم قيمتها التاريخية والأثرية، تعاني قصور الجنوب من التهميش وعدم الاهتمام اللازم من المعهد الوطني لحماية التراث. إذ ظلت بعض القصور معزولة في عدّة جبال ومرتفعات لا طرقات تؤدي إليها ولا مسالك مهيأة تجعلها مزارًا للسياح، وقد رُمّم بعضها بواسطة الإسمنت مما شوّه شكلها باعتبار أن عملية ترميم للمعالم الأثرية تستلزم استعمال مواد معيّنة دون غيرها.

اقرأ/ي أيضًا: مكثر.. هل تبقى المعالم الأثرية شاهدة على حضارات مرت من هنا؟

ويبيّن حافظ الدويري، ناشط من ولاية تطاوين، لـ"ألترا تونس" أنّ القصور، التي كانت تُستعمل في القطاع الفلاحي، باتت تمثل طابعًا مميزًا للجهة وثروة تاريخية تُستغل في القطاع السياحي، ولكنه أكد على معاناة هذه القصور من التهميش. وأكد أنه لم يتم ترميم إلا بعض القصور بمبادرات بسيطة من ورثتها دون تدخلات علمية باعتبارها غير مدرجة في المعالم الأثرية للبلاد التي يشرف عليها المعهد الوطني لحماية التراث.

حافظ الدويري (ناشط من تطاوين): لم يتم ترميم إلا بعض القصور بمبادرات بسيطة من ورثتها دون تدخلات علمية باعتبارها غير مدرجة في المعالم الأثرية للبلاد

وعبر محدثنا، في المقابل، عن سعادته بالسعي إلى إدراج هذه المعالم بقائمة التراث الانساني باليونسكو، وإن عبر أيضًا عن استغرابه أن يقع ذلك والحال لم تدرج بعد في قائمة المعالم الأثرية للبلاد التونسية، رغم أنها تؤرخ لفترة زمنية هامة في تاريخ البلاد، وحافظت على شموخها على مرّ التاريخ، وأضفت رونقًا خاصًا بعديد جهات الجنوب وباتت قبلة للسياح، وفق تأكيده.  

روعة معمارها وتناسق بنيانها رغم بساطتها، جعل هذه القصور صامدة، لم تمحي السنين أو الظروف المناخية تفاصيل تصميمها، لتكابر في الحفاظ على جسدها المنهك رغم انهيار أجزاء كبيرة منها. إذ بقيت القصور تشهد تدخلات بسيطة لا تحميها من الانهيار رغم النداءات المستمرة من أهالي الجنوب.

تتواصل الدعوات لتدخل الجهات الرسمية لترميم القصور قبل انهيارها (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

وأوضح لنا، من جهته، رئيس جمعية صيانة التراث بغمراسن حبيب علجان أن قصور الجنوب لم تُدرج في قائمة المعالم الأثرية الوطنية مضيفًا أنّ عدم التدخل لإنقاذ هذه القصور أدّى إلى تراجع عددها من 160 إلى 100 قصرًا فيما لايزال العديد منها يفتقر إلى الترميم مما يهددها بالاندثار أيضًا، وحتى بعد الترميم تبقى مهجورة دون حراسة، ولا تعود الحياة إليها إلا في المواسم الثقافية والمهرجانات، وفق تأكيده.

"قصر العواديد"، و"قصر أولاد عون"، و"قصر أولاد سلطان"، و"قصر أولاد بوبكر" وغيرها من القصور في ولاية تطاوين وولاية مدنين ومنطقة مطماطة بولاية قابس، هي قصور تختزل تاريخ مئات السنين من حياة أهالي الجنوب وتراثهم، ولا تزال رمزًا من رموز الثراء الثقافي والحضاري للمنطقة. لكن لسائل إن يسأل كيف أن نسعد بإدراج قصور الجنوب ضمن القائمة التمهيدية للتراث الثقافي المادي العالمي والحال أنّ أغلبها يواجه الانهيار؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

رباط المنستير.. حصن دفاع ومزار عبادة وبوابة علم

الزريبة العليا: القرية التي لا تُمحى من ذاكرة المجال والتّاريخ