04-أبريل-2023
 بسيسة

"البسيسة" هي رأس الأكلات التونسية وهي المنافس الأول لأكلة الكسكسي الشهيرة (صورة من منصات التواصل)

 

الغذاء واللغة والسفر والموسيقى هي مكونات البهجة والوجود داخل علبة أدوات الحياة ويكون الإنسان بلا ذات وبلا ملامح ثقافية تميّز وجوده الدّامي من دونها وتكون الحياة ذاوية وينقصها اللّمعان من دونها وكذلك حركة التاريخ رتيبة وبطيئة ومملّة.

هذا الرّباعي الذهبي للحياة: "الغذاء واللغة والسفر والموسيقى" وحده يوحي بالحضور الشامل فيضاء أمامنا الحاضر والمستقبل معًا في حالة ليست زمنية أو أبدية. وإذا ما رمنا الحديث عن "الغذاء" وحده وتأمله من زوايا أنتروبولوجية وثقافية لا نجده وقودًا طاقيًا للجسد البشري فحسب، بل ويتمظهر أيضًا في زيّ غنائيات آسرة لا تختلف عن عالم الإبداع الشعري للإنسان، "الواقعية الإنسانية الكونية" التي ترفض التجمّد تمامًا كالطبيعة ذاتها.

تعدّ "البسيسة" من أقدم المأكولات التونسية تتوارثها الأجيال على مرّ التاريخ وتوجد على كامل خارطة البلاد، ويكثر استعمالها خلال شهر رمضان باعتبارها أكلة غنية بالبروتينات النباتية والألياف الطبيعية المدرّة للطاقة

من هنا نفهم أن الغذاء هو من رواة ملاحم الإنسان على الأرض ووجه أخر للقصص التي قد يهملها التاريخ أحيانًا وتونس كأرض قديمة استوطنها الإنسان منذ الأزل ومطلّة على إحدى أقدم بحار الدنيا وهو البحر الأبيض المتوسط فإن مطبخها عريق وزاخر وتاريخها الغذائي يتميّز بالثراء والتنوع.

وتعدّ "البسيسة" من أقدم المأكولات التونسية على الإطلاق تتوارثها الأجيال والحقب على مرّ التاريخ وتوجد على كامل خارطة البلاد التونسية من الشمال إلى الجنوب، ويكثر استعمالها خلال شهر رمضان المعظم وتوجد على جميع الموائد باعتبارها أكلة غنية بالبروتينات النباتية والألياف الطبيعية المدرّة للطاقة. فما هي أكلة البسيسة التونسية؟ كيف يتم إعدادها؟ وما هي الأوقات المثلى لاستعمالها؟ وما هي الجهات التونسية التي تتميز بها؟ ولماذا يتم الإقبال عليها في شهر رمضان؟

"الترا تونس" يسعى للإجابة عن هذه الأسئلة عبر هذا التقرير:

  • باحث مختص في تاريخ تونس: البسيسة أكلة بربرية قديمة يختلف إعدادها من جهة إلى أخرى

"البسيسة" هي رأس الأكلات التونسية وهي المنافس الأول لأكلة الكسكسي الشهيرة، وقد تحدث الباحث الأنتروبولوجي المختص في تاريخ تونس عبد الستار عمامو، لـ"الترا تونس"  عنها، موضحًا أن البسيسة ورثها التونسيون عن أجدادهم البربر والأمازيغ حتى أننا نجدها شائعة على طول خط مملكة نوميديا الكبرى التي تمتد من برقة ليبيا مرورًا بتونس فالجزائر وصولًا إلى التخوم الشرقية لموريتانيا.

عبد الستار عمامو لـ"الترا تونس": ورث التونسيون البسيسة عن أجدادهم البربر والأمازيغ حتى أننا نجدها شائعة على طول خط مملكة نوميديا الكبرى التي تمتد من برقة ليبيا مرورًا بتونس فالجزائر وصولًا إلى التخوم الشرقية لموريتانيا

وأضاف عمامو لـ"الترا تونس" أن حضور البسيسة الطاغي هو بأرض تونس، فالبسيسة وهي أكلة الفقراء قبل الأغنياء وأكلة البدو الرّحل اللذين يتنقلون من الشمال إلى الجنوب (من أرض المرازيق إلى أرض فريقة) والرّعاة والمسافرين والحجّاج... وتنجز أساسًا من الحبوب والبهارات التي تنبتها أرض تونس لذلك نجدها متنوعة ومختلفة التركيبة وذلك حسب الجهات.

وأكّد عمامو أن سكان أرض تونس يحرصون إلى اليوم خلال أيام "العولة" صيفًا على إعداد البسيسة لأنها جزء أساسي من جدول الغذاء التونسي فتجد الرجال يقصدون "الطاحونة" ويقفون طيلة اليوم على عملية الرحي حتى يحصلوا على دقيق البسيسة بالدقة التي تطلبها العائلة وخصوصًا طعمها ورائحتها.

استهلاك "البسيسة" يتم على طريقتين أما الرائج في شهر رمضان فهو وضع دقيق البسيسة في كأس ويضاف إليه الماء البارد مع ملعقة من العسل أو السكر. إنها فاتحة الإفطار في تونس في رمضان

أما استهلاك "البسيسة" فيتم على طريقتين: طبق يمزج بزيت الزيتون والفواكه الجافة مع تحلية بالسكر أو العسل أو بعض حلوى الشامية وعادة ما يتزود بها المسافر أو الطالب الجامعي  وطبق آخر وهو الرائج في شهر رمضان حيث يوضع دقيق البسيسة في كأس ويضاف إليه الماء البارد مع ملعقة من العسل أو السكر. إنها فاتحة الإفطار في تونس في رمضان.

وأكد عبد الستار عمامو  أن "البسيسة" هي من التراث الغذائي التونسي وأحد الملامح الثقافية المميزة لتونس، و أضاف خلال حديثه لـ"الترا تونس"، أن إحدى الجمعيات التونسية اهتمت بموضوع البسيسة وهي "جمعية صيانة مدينة لمطة" التابعة لولاية المنستير بالساحل التونسي والتي دأبت منذ سنة 2000  على إقامة "المهرجان الوطني للبسيسة" بشكل دوري حيث يلتقي أهل الاختصاص والتجار والمختصون والمتذوقون من كل جهات تونس والذي كشف أنّ تونس لها ما يفوق 300 نوع من البسيسة.

عبد الستار  عمامو لـ"الترا تونس": البسيسة هي أكلة الفقراء قبل الأغنياء وأكلة البدو الرّحل والرّعاة والمسافرين والحجّاج وتنجز أساسًا من الحبوب والبهارات التي تنبتها أرض تونس لذلك نجدها متنوعة ومختلفة التركيبة وذلك حسب الجهات

وأوضح المختص في تاريخ تونس أنه تقام خلال المهرجان مسابقة وطنية كبرى في الغرض لأحسن طبق بسيسة وتسند لجنة تحكيم مختصة متكونة من خبراء في التغذية جوائز تشجيعية مهمة. وشدد الأستاذ  عمامو على أهميّة هذه التظاهرة التي تحولت إلى وجهة للتونسيين من مختلف الجهات والسياح أيضًا تزامنًا مع انطلاقة تظاهرة "شهر التراث" الشهيرة التي تنظمها وزارة الشؤون الثقافية التونسية من 18 أفريل/نيسان إلى 18 ماي/آيار من كل سنة، مؤكدًا أن هذا المهرجان من شأنه أن يحافظ على هذه العادات الغذائية الصحية ويطورها.

 

 

  • "بسيسة" الشمال التونسي لونها بني وبهاراتها غابية

للوقوف على المزيد من التفاصل والفروقات بين "بسائس" (جمع بسيسة) الشمال والجنوب، اتصل "الترا تونس" بالحاجة زينة المؤدب من ولاية سليانة بالشمال الغربي التونسي التي أوضحت أن  "بسيسة" محافظات سليانة والكاف وجندوبة وباجة متشابهة ولونها بني ويقع إعدادها في الصيف بعد الحصاد مباشرة حيث يتم في مرحلة أولى قلي نصيب وافر من القمح حسب استعمال العائلة ويضاف إليه كمية من الحمص المقلي هو الآخر، وفي مرحلة ثانية وهي مرحلة البهارات فيضاف عادة مقادير قليلة من الحشائش الغابية الجافة مثل الإكليل والزعتر والمردقوش والسرو وشواشي الورد وقليل من حبات الحلبة والبسباس وقطع من قرون الخرّوب.. وفي مرحلة ثالثة وأخيرة ترسل إلى الطاحونة ثم تخزّن في أوان فخارية حتى لا تتغير رائحتها وطعمها".

الحاجة زينة المؤدب لـ"الترا تونس": "أغلب عائلات الشمال الغربي التونسي وإلى حد قريب كانت تعد بسيسة خاصة احتفاء بشهر رمضان وتتميز بتخيّر نوع جيد من القمح مع تعمد إضافة مقادير من الفواكه الجافة وخاصة اللوز المنتج محليًا في مرحلة وضع البهارات"

وأشارات الحاجة زينة المؤدب أن "أغلب العائلات بالشمال الغربي التونسي وإلى حد قريب كانت تعد بسيسة خاصة احتفاء بشهر رمضان الكريم وتتميز هذه البسيسة الرمضانية بتخيّر نوع جيد من القمح مع تعمد إضافة مقادير من الفواكه الجافة وخاصة اللوز المنتج محليًا في مرحلة وضع البهارات، مشيرة أن مشروب البسيسة لا تخلو منه مائدة طيلة أيام شهر الصيام فهو عادة حميدة تتوارثها الأجيال عن الأجداد".

 

 

  • "بسيسة"  الجنوب التونسي يميزها لونها الأصفر وتسمّى "شَربة" في رمضان

أما الحاجة "ربعيّة العبادي درين" من ولاية مدنين بالجنوب الشرقي التونسي فتحدثت لـ"الترا تونس" عن خصوصية بسيسة الجنوب مبينة أنهم وبأغلب ولايات الجنوب يتم الاعتماد أيضًا على مكونين أساسيين لإعداد البسيسة وهما حبوب العدس بدل القمح مع المحافظة على حبوب الحمص، مشيرة أن مرحلة "التحميص" ( قلي الحبوب ) هي أهم مرحلة لديهم وأنه ثمة نساء مختصات في ذلك ويقدمن هذه الخدمة بمقابل حيث يجلبن معهن كمية من رمل الصحراء ويتم إنضاج العدس والقمح والحمص داخله وبهكذا طريقة تحافظ الحبوب على لونها الطبيعي.

الحاجة ربعية درين لـ"الترا تونس": بسيسة الجنوب لها خصوصية إذ يتم الاعتماد على مكونين أساسيين لإعدادها وهما حبوب العدس بدل القمح مع المحافظة على حبوب الحمص، كما أن مرحلة "التحميص" (قلي الحبوب) هي أهم مرحلة لدينا

وتابعت ربعية العبادي درين "وفي المرحلة الموالية توضع البهارات" وأوضحت أنها "تختلف عن الشمال إذ يضعون قليلًا من الفول المصري والكركم والبسباس والحلبة والملح وأقل قدر ممكن من الفلفل الأحمر المجفف ثم ترسل في مرحلة ثالثة وأخيرة إلى "البابور " وهي تسمية محلية للطاحونة فيأتي لونها أصفرًا لذلك يمكن تمييز بسيسة جرجيس أو جزيرة جربة أو مدنين عن باقي البسيسة من لونها الميال إلى الأصفر".

وأشارت الحاجة ربعيّة إلى أن أهل الجنوب يستعملون خلال شهر رمضان المعظم ما يسمّى "بالشّربة " وهي دقيق "البسيسة" المخلوط بالماء البارد أو الحليب و تشرب في الإفطار مع بعض حبيبات التمر... وختمت حديثها أن البسيسة هي من العادات الغذائية القديمة المتوارثة وأن أهل الجنوب التونسي يخيرون استعمالها ممزوجة بزيت الزيتون.

الحاجة ربعية درين لـ"الترا تونس": أهل الجنوب يستعملون خلال رمضان ما يسمّى "بالشّربة" وهي دقيق "البسيسة" المخلوط بالماء البارد أو الحليب و تشرب في الإفطار مع بعض حبيبات التمر

تبقى البسيسة من الأكلات الغنية بالألياف والبروتينات النباتية المفيدة لصحة الانسان وهي "اختراع" غذائي وثقافي تونسي عريق قديم ومتجدد في نفس الآن، حيث كان لها حضور في الشدائد والمجاعات القديمة وأيام قسوة المناخ في القرّ والحرّ.

وقد تم إدخالها منذ سنوات خلت إلى دوائر  المكننة فأصبحنا نجد البسيسة معلّبة اليوم في المغازات. وهي تسافر إلى أصقاع العالم مع سفر التونسيين سواء أكانوا عائلات مهاجرة أو طلبة علم أو للسياحة فتزيح عنهم ثقل الغربة وتذكر الأبناء برائحة الوطن... كما أنها تصبح سيدة الغذاء الرمضاني طيلة أيام الشهر الكريم  فهي كالشمس لا تغيب عن الموائد من شمال تونس إلى جنوبها.