قد تزور يومًا مدينة المهدية "الفاطمية" في يوم عاصف، فسترى أمواجًا متلاطمة تتكسر على الصخور الصلبة ونتوءات بقايا الأسوار المهدمة. جدران عالية كانت شامخة صامدة حتى ركعت أمام مدافع بحرية الإسبان. تحطمت الحجارة ولكن صمدت "الحضارة". كان الموج يلطم جدران الجامع الكبير بالمهدية من جهة جداره القبلي إلى السور البحري للمدينة.
يقول المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب عن المهدية في كتابه خلاصة تاريخ تونس "المهدية مدينة جليل قدرها، شهير في قواعد الإسلام ذكرها، وهي من بناء عبيد الله المهدي أول خلفاء العبيديين وإليه تنتسب، وكان ابتداءُ بنائه لها سنة 303 هـجرية/ 915 ميلادية وجعلها دار مملكته".
المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب: المهدية مدينة جليل قدرها، شهير في قواعد الإسلام ذكرها، وهي من بناء عبيد الله المهدي سنة 303 هـجرية/ 915 ميلادية
وأردف عبد الوهاب في كتابه خلاصة تاريخ تونس "وكان اتساع المهدية في أول بنائها من الجوف إلى القبلة قدر غلوة سهم، فاستصغرها المهدي عند ذلك، فردم من البحر مقدارها وأدخله في المدينة فاتسعت، والجامع الأعظم الآن والدار المعروفة في القديم بدار المحاسبات من ماء البحر".
تقلّبت المدينة بين عهود الازدهار وعهود الانحدار. وعاشت الضياع والاسترداد. كانت حصنًا منيعًا ضد أعدائها. وسدًا بحريًا ضد الغزاة. ولكنها سقطت فضعفت ثم استوت شامخة كما نشأة البدايات.
قصة الجامع الكبير بالمهدية من حكاية أهل المدينة. لم يبق منه سوى الرواق الجوفي والواجهة الجوفية على شكلهما الأصلي الراجع إلى عهد التأسيس. وما هو عليه إنما تشييد على الأنقاض ومحاكاة لما كان عليه في أول عهده.
بعد خروج المعز لدين الله الخليفة الفاطمي إلى مصر 360 هجرية/ 970 م سلّم الفاطميون مقاليد الحكم للزيريين الموالين لهم والذين كانوا في كل مرة يتخذون المهدية والقيروان عاصمة لهم، حكم الصنهاجيون إفريقية وناصبوا العداء للفاطميين. ثم غزت قبائل بني هلال المدن ونشروا الفوضى، وتوالت الحملات العسكرية البحرية الأوروبية والإسبانية على مدينة المهدية فانتهت إلى تدمير المدينة وحرقها من طرف الإسبان في 1555 ميلادية.
ومن بين المعالم التي تم هدمها، الجامع الأعظم الفاطمي الذي بات أطلالًا بعد أن هدمه الإسبان وحولوه إلى كنيسة وإسطبل حسب الروايات التاريخية المتداولة. كانت الأحداث الأليمة مدار حديث العامة والخاصة على مرّ القرون رغم لملمة الجراح بعد أن استقرت المدينة لحكم الأتراك، فتعايشت الأديان والمذاهب رغم سطوة الحرب والدمار.
وقفنا اليوم أمام الجامع على هيئته القائمة فلاح لنا شموخ الجدران وعلو الأبواب وشهامة البنيان وقداسة المكان ومتانة الأركان بعد أن استقام من جديد إثر الترميم والتشييد الذي طاله في الستينات.
وقد وصفت الباحثة سلوى زنقر في ورقة بحثية الجامع الكبير بالمهدية من الناحية المعمارية قائلة "يتألف المدخل البارز من قوس مكسور متجاوز مستندٍ على عِضاضتَين. وصُمِّمَت واجهة المدخل الخارجية بطابقَين من الكُوّات ذات الأقواس المتجاوزة تفصل بينها زخارف ناتئة. في المنطقة السفلى أتت الكُوّات مسطحة بينما اتخذت شكلاً نصف إسطواني في الأعلى".
وواصلت الوصف قائلة "ثمة برجان على زاويتَي الواجهة، استُخدِما كخزانَين للماء وربّما للنداء بالأذان. فعلى غرار أوائل الجوامع والمساجد الفاطمية، ليس لجامعنا مآذن".
الباحثة في التاريخ سلوى زنقر: حُفرت في المحراب أخاديد نصف دائرية تعتليها أصداف. أما القبة النصفية في أعلاه فترتكز على قوس بشكل حدوة الفرس
ووصفت الباحثة في التاريخ سلوى زنقر مخطط الجامع الكبير الحالي بأنه "مماثل لمخططه في القرن العاشر. وهو يتخذ شكلاً مستطيلاً، ويتألّف من قاعة للصلاة طويلة يسبقها فناء محاط بأربعة أروقة. وحده الرواق الشمالي أصلي، وهو يتكوّن من دعامات من حجر منحوت تسند أقواسًا مكسورة متجاوزة تعتليها قبابٌ متصالبةُ الروافد. أما الأروقة الثلاثة الأخرى فقد بُنيَت خلال حملات الترميم بين سنتي 1961 و1965.
وتابعت زنقر أنه "كان في منتصف الفناء، وفقًا للحفريات التي أُجريَت خلال الستينات، ممرٌّ فريد من نوعه في العمارة الدينية التونسية. وكان هذا الممر مسقوفًا بقباب متصالبة الروافد مستندة على دعامات ذات أقواس، وقد وصل بين المدخل وقاعة الصلاة. هذا وتنقسم قاعة الصلاة إلى ثلاثة أساكيب متوازية مع جدار القبلة وتسعة بلاطات. وسقفها عبارة عن أقواس مكسورة متجاوزة مستندة على أعمدة مزدَوجة.. تعتليه قبّةٌ تحتوي المحراب ذا الطراز الزيري. وقد حُفرت في المحراب أخاديد نصف دائرية تعتليها أصداف. أما القبة النصفية في أعلاه فترتكز على قوس بشكل حدوة الفرس يستند إلى عمودَين جانبيَين".
اقرأ/ي أيضًا: مسجد السيدة.. تحفة أثرية نادرة تكشف حقيقة الوجود الفاطمي في تونس
ويذهب الخبراء إلى أن هذا الفن المعماري مثال في العمارة الدينية المغاربية، كما أنه يزخر بالمعاني الروحية الشيعية، كما اقتبست من فن العمارة الأغلبية والعباسية وأحالت على الأقواس الرومانية.
احتضن الجامع علماء أجلاء كانوا يجلسون في محاريب صغيرة للتدريس والوعظ وقد ثبّتت هيئته المذهب المالكي في الفترة العثمانية التي تلت خروج الإسبان من البلاد
أما عن الممر الفريد من نوعه فهو "الدهليز المُقنطَر الذي يصل إلى قاعة الصلاة ولا سابق له في العمارة الإسلامية. ويظن عدد من علماء تاريخ الفنون أن هذه الميزة مرتبطة بالأهمية الكبيرة التي يوليها المذهب الشيعي للإمام الذي يعبر هذا الممرّ".
اقرأ/ي أيضًا: "السقيفة الكحلاء" بالمهدية.. شاهد على أسرار الحضارة وعظمة الأسوار
جولة صغيرة في جامع المهدية الذي يقف على مشارف المدينة العتيقة والأزقة القديمة العطرة تجعلنا نتجوّل بين كفوف الحضارات، فالأقواس والزخارف ذات إحالة لمعالم دينية جنيسة في عدة مدن تونسية مثل الواجهة الجانبية للجامع الكبير في صفاقس ومسجد سيدي علي عمّار في سوسة وقبة بين القهاوي في سوسة، وقبة البهو في تونس.. وغير ذلك من المعالم.
وحال دخولك إلى بيت الصلاة تطالعك الأعمدة الرخامية البراقة والمنبر الخشبي المنقوش ذي الفن الإسلامي المغاربي، ويروي عمار اللجمي أحد الناشطين في المجتمع المدني وحماية تراث المدينة أن هذا المنبر كان هدية من المغرب. وكما الفن، فإن الجامع قد احتضن علماء أجلاء كانوا يجلسون في محاريب صغيرة للتدريس والوعظ وقد ثبّتت هيئته المذهب المالكي في الفترة العثمانية التي تلت خروج الإسبان من البلاد.
أشرف ألكسندر ليزين (1906 – 1976) أحد أشهر المؤرخين والمهندسين المعماريين والمهتم بالمعالم الإسلامية في تونس خلال الستينات على إعادة ترميم الجامع الأعظم بالمهدية في سنة 1964 وعمل على بناء الأعمدة انطلاقًا من الأسس الأصلية المشيدة محافظًا على الشكل المعماري الفاطمي الأصيل. كما يشير البناؤون إلى أن الحجر المشيد به مستجلب من مقاطع الحجارة بالرجيش وهو نوع من الحجر الأبيض تمتاز به الجهة ومبانيها.
الجامع الفاطمي اعتلى تاريخ الجوامع في العالم الإسلامي. جامع بلا مئذنة، معماره صار نموذجًا في العالم هدمته الحروب و تعافى من جديد بعد أن ظل أربعة قرون ركامًا
هذا هو إذن الجامع الفاطمي الذي اعتلى تاريخ الجوامع في العالم الإسلامي.. جامع بلا مئذنة.. معماره صار نموذجًا في العالم.. هدمته الحروب و تعافى من جديد بعد أن ظل أربعة قرون ركامًا.. جامع بجوار مجمع "زويلة" السكني والصناعي والحرفي الذي صار مضرب الأمثال في ازدهار الحضارة.. جامع أشرف على الممرّ البحري الأكثر شهرة في العالم القديم، والأشدّ عرضة للهجوم في تاريخ تونس وتحول من منارة دين إسلامي ومقام للخليفة الفاطمي وحاشيته إلى كنيسة ومقبرة لقادة جيوش الإسبان.. ثم كان الإحياء والتشييد من جديد ليبقى راويًا لحكاية حضارة مرت من هذه الربوع.
اقرأ/ي أيضًا: