لم تكن الهجرة الموريسكية إلى تونس مع بدايات القرن السابع عشر للهجرة، للتغلب على الهشاشة الإنسانية والموت، كما يسوّق لذلك التاريخ فيما حدث في شبه الجزيرة الإيبيرية عقب التّهجير القسري لسكان بلاد الأندلس الذي تلا سقوط غرناطة سنة 1492، وإنما كانت عملية اقتلاع لقلوب وكيانات موشومة بحب الحياة، والإلقاء بها في البحر الأبيض المتوسط.
أبناء الأندلس الذين استوطنوا بتونس، حملوا معهم خصوصياتهم الثقافية وإيقاع حياتهم اليومية ونشروها على مرّ خط من المدن والقرى الأندلسية، تُعرف إلى اليوم بالطريق الموريسكي
هؤلاء المطرودين من أرضهم، ورغم الأسى والحزن، فإنهم نظروا إلى أفق لا يُحدّ، فكانت رحلتهم حركة وطموح وتجاوز وتوهّج، وصار الألم أنيسًا حلوًا، بل صار دواءً يشفيهم من قسوة ما حصل، لقد مات الموت من هول ما رأى، والرحلة الموريسكية في جوهرها لم تكن انطفاءً كما اعتقد الإسبان القشتاليون المنتصرون، بل كانت تفوقًا خارقًا لا تقدر عليه بلاغة الشعر، وجمرة ثورة حضارية جديدة سيقودها أبناء الأندلس المفقود في حواضر البلدان الإسلامية بشمال إفريقية، التي حنت عليهم واستقبلتهم ورفعت رايتهم.
إن المورسكيين الذي توّههم الموج العاتي وألقى بهم على عتبات الشواطئ التونسية سنة 1609 ورحّب بهم "عثمان داي" حاكم البلاد بتدخل من الشيخ أبي الغيث القشاش، فأوسع لهم ومنحهم ما منحهم من حقوق وامتيازات، حملوا معهم خزائن أفراحهم الصغيرة وثرواتهم المهرّبة من حليّ ومخطوطات وتمائم وخرائط.. ورتّلوا ذاكرتهم جيلًا بعد جيل، وعلّقوا مفاتيح منازلهم الأندلسية بصدور بيوتهم التونسية الجديدة على أمل العودة إلى الديار.
وحسب ابن أبي دينار، فإن "ما يقارب الثمانين ألف أندلسي مهجّر اختار تونس، فتم تفريق الضعفاء على العائلات التونسية وتوزيع البقية على ثلاثة جهات هي: ضفاف وادى مجردة وجهة بنزرت والوطن القبلي، وأذن لهم أن يعمّروا حيث شاؤوا، فاشتروا 'الهناشر' (الأرض الخصبة والمشجرة) وبنوا فيها واتسعوا في البلاد فعمرت بهم واستوطنوا في عدة أماكن تونسية ومن بلدانهم المشهورة: سليمان، قرمبالية، بلّي، تركي، الجديّدة، زغوان، طبربة، قريش الواد، مجاز الباب، السلوقية، تستور، العالية، قلعة الأندلس..".
أبناء الأندلس الذين استوطنوا بتونس، حملوا معهم خصوصياتهم الثقافية وإيقاع حياتهم اليومية ونشروها على مرّ خط من المدن والقرى الأندلسية، تُعرف إلى اليوم بالطريق الموريسكي. إنه عالم خاص من القصص والحكايا لا زال يقدّم تلك الروح الأندلسية بنفس التوهج القديم رغم انقضاء القرون. هكذا هو قدر الشعوب المهجّرة، أن تظل تروي ملاحمها وتاريخها دونما كلل أو ملل.
تظل حلوى "الدبلة" أو "وذنين القاضي"، من أشهر الحلويات الأندلسية المنتشرة في تونس، وتُقدم في جميع المناسبات، ويمكن إعدادها بالمنازل لقلة كلفتها المادية ولبساطة مكوناتها الأساسية
ومن جملة التعبيرات الحضارية المتوارثة، نجد تلك الفرادة التي يتمتّع بها المطبخ الموريسكي الذي ظلت العائلات الأندلسية تحفظ أسراره ووصفاته عن ظهر قلب، كما تحفظ الجدات الأناشيد والترانيم القديمة التي تقول الانتصارات والانكسارات معًا.
ولعلّ ما يميز هذا المطبخ الوافد على التقاليد الغذائية البربرية والعربية والعثمانية التي كانت سائدة بتونس بداية القرن السابع عشر، هي تلك الأطباق من الحلويات المتنوعة والمرتبطة بالمواسم الفلاحيّة والمناسبات الدينية وحفلات الأفراح والتي ذكر أغلبها "ابن رزين التّجيبي القرطبي" في كتابه "فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان"، مثل "كعك الورقة" الذي قامت السيدات الأندلسيات بتهريب أساورهن الذهبية والفضية في ثناياه البيضاء يوم الرحيل الكبير، و"السفنج" و"البناضج" و"الرفيس" و"الزلابية" و"الكاشاص" (وهو نوع من العصيدة الحلوة) و"شبابك الجنة" و"القراوش".. وغيرها.
لكن تظل حلوى "الدبلة" أو "وذنين القاضي"، من أشهر الحلويات الأندلسية المنتشرة في تونس من شمالها إلى جنوبها، وتُقدم في جميع المناسبات، ويمكن إعدادها بالمنازل لقلة كلفتها المادية ولبساطة مكوناتها الأساسية (دقيق، بيض، زيت، ليمون، سكر، سمسم..) وسهولة إعدادها، فبعد عجنها والحصول على شكلها الوردي، يتم قليها في الزيت ومن ثمة غمسها في الشحور ورشها بـ"الجلجلان" (السمسم).
وتقول الرواية الشعبية التونسية إن السيدات الأندلسيات يوم الرحيل الكبير، وكي لا يتفطن المفتشون الإسبان لما قام الموريسكيون بإخراجه من البلد، قمن بتهريب مسحوق الذهب في ثنايا "الدبلة" (الحجم الصغير) و"وذنين القاضي" (الحجم الكبير) وذلك لأن لونها ذهبي.
قامت الأندلسيات بتهريب مسحوق الذهب في ثنايا "الدبلة" و"وذنين القاضي" يوم الرحيل الكبير، كي لا يتفطن المفتشون الإسبان لما قام الموريسكيون بإخراجه من البلد وفق الرواية الشعبية التونسية
ودومًا حسب المقول الشعبي التونسي، فإن حلوى "وذنين القاضي" تُعرف بتلك التسمية كناية على آذان القاضي العادل الذي يجب أن يُحسن الإنصات إلى المظلومين من أجل إنصافهم بالعدالة. وفي رواية طريفة "يُحكى أن القاضي والفقيه أبو الوليد الوقشي الطليطلي حضر يومًا مجلس ابن ذي النون الذي قدّم للحضور آذان القاضي مع شراب النعناع، فتهافت عليها ضيوف المجلس وتندّروا على القاضي وهم يأكلونها، وكان ذي النون قد قدم معها نوعًا من الفاكهة تشبه حبات الطماطم تسمى عيون البقر، فقال ذي النون للقاضي الوقشي: أرى أن هؤلاء يأكلون آذانك، فرد القاضي وأنا أيضًا آكل عيونهم..".
و"الدبلة" حسب معجم لسان العرب هي الدائرة المعدنية الصغيرة، ومن هذا المنطلق المعجمي يسمّي أهل الشرق الخاتم الذهبي وبالخصوص خاتم الخطوبة "دبلة".
كما تُعرف حلوى "الدبلة" لدى العديد من الشعوب العربية، ففي مصر تسمى "عمّة القاضي"، وفي المغرب تعرف بـ"لقمة القاضي" وفي ليبيا تسمى "دبلة ليبية" وهي ذات حجم صغير فقط.
حلوى "الدبلة" أو "وذنين القاضي" هي من الأطباق الأساسية التي يتميز بها المطبخ التونسي وتتفنّن العائلات التونسية في إعدادها مع المحافظة على شكلها، ويتم الإقبال عليها في رمضان، وتقدّم خلال السهرات مع القهوة التركية، كما يكثر عليها الطلب في محلات بيع الحلويات والمرطبات حتى أن بعض المحلات تختص بـ"الدبلة" أيام الشهر الكريم.
"الدبلة" هي واحدة من مكونات المخزون التراثي للمطبخ الأندلسي الذي تقاطع مع المطبخ التونسي المتوسطي القديم، وبالتالي، لا بدّ من حمايتها وصيانتها واعتبارها هوية ثقافية تقول تونس هنا وهناك.