26-مارس-2023
  لعب الورق أو الشكبة في تونس

"الشكبّة هي التيمة المميزة للترفيه لدى التونسيين" (صورة توضيحية/Getty)

 

ــ مشهد قديم عتيق من سهرة رمضانية، يتردّد صداه في أغلب المقاهي التونسية مع اختلافات ثقافية محليّة، نخطّه بعين سينمائية ونقبض بالكلمات على عمقه التاريخي والإنساني السائب:

المقهى الذي قصدناه كائن بإحدى قرى الشمال الغربي التونسي: هنا لا يزال الشتاء يأبى الرحيل نراه متخفيًّا في لوحات ترسمها نسائمه الغامرة التي تنزل ليلًا من قمم الجبال فتغالب في العتمة زهر الربيع البازغ لتوه تحت نداءات القمر. تلوح البوابة الخشبية البنية ذات المستطيلات البلوّرية الشفّافة "لمقهى القدس" بالسرس من ولاية الكاف مغلّقة، نقترب فيلوح في أفقها دخّان السجائر والنرجيلة يتدلى تحت أضواء المقهى محدثًا غيمة سينمائية فريدة.

"طُرح الشكبّة" يتطلّب "رشّامًا"وهو شخص محايد يسجل النتائج على ورقة أو لوحة ويقوم بدور الحكم إذا اندلع خلاف ويتحلّق حول "الطُّرح" جمهور غفير ويمكن أن يكون هؤلاء طرفًا في اللعب بالتعليق أو التوجيه الخفي

الروّاد جلاّس من مختلف الأعمار نراهم مأخوذين في زهو بالسهر الرمضاني، يتحلّقون حول الطاولات بمعاطفهم الخشنة و"قشاشيبهم" الصوفية يلعبون "الشكبّة" بجذل ومرفوعين على أثيرها الذي حدثنا عنه "ديسيوفسكي" في روايته الساحرة "المقامر".

"طُرح الشكبّة" (المباراة)  يتطلّب "رشّامًا" (والرشّام هو شخص محايد يسجل بكل شفافية النتائج على ورقة أو لوحة ويقوم بدور الحكم إذا اندلع خلاف بين اللاعبين) ويتحلّق حول "الطُّرح" جمهور غفير قد يصل أحيانًا إلى عشرة متفرّجين أو أكثر ويمكن أن يكون هؤلاء طرفًا في اللعب بالتعليق أو التوجيه الخفي والذي يسمى في قاموس هذه اللعبة القديمة "بالتنبير" مما يضفي على المباراة نوعًا من الحماس والتوتر بين اللاعبين والمتفرجين أحيانًا أخرى.

 

 

ومن الحوارات الدائرة بين اللاعبين والتي قد تلتقطها أذنك السينمائية نسوق بعض الجمل المفاتيح حتى نفهم اللعبة:

  • لا خويا عاود الجرية (أي أعد توزيع الأوراق مجددًا)
  • يعيّشك نلعبوا من غير مشامية (أي من فضلك فلنلعب من دون إشارات خفية أو تلميح..وهو نوع من أعراف هذه اللعبة بين اللاعبين الخصوم)
  • أرشم شكبّة بالسبعة الحية (أي أيها الحكم سجل لي هدفًا مزدوجًا، وعادة ما يرافق هذه العملية دق قوي مزلزل على طاولة اللعب يسمعه كل جلاّس المقهى في نوع من التباهي بالانتصار وهو أعلى هدف يمكن أن يسجله لاعب لأن ورقة "الحية" التي تحمل رقم سبعة هي أهم ورقة من جملة أوراق هذه اللعبة)
  • مشكي الكارطة مليح قبل الجرية  (أي أخلط الأوراق جيدًا قبل البدء في توزيعهم)

هذا المشهد الصغير من سهرة رمضانية في مقهى تونسي قصي يمكن له أن يتكرر بين الطاولات التي تستقبل لعب الورق وخصوصًا لعبة "الشّكبّة" بمقاهي تونس من الشمال إلى الجنوب وخصوصًا خلال شهر رمضان، إنها وقود السّهرة الرمضانية بالمقهى لما يقارب القرنين من الزمن وعشاقها يعدّون بالآلاف على طول البلاد وتقريبًا نجدهم من مختلف الفئات والأعمار.

لعبة "الشّكبّة" بمقاهي تونس هي وقود السهرة الرمضانية لما يقارب القرنين من الزمن وعشاقها يعدّون بالآلاف على طول البلاد وتقريبًا نجدهم من مختلف الفئات والأعمار

وتُلعب "الشكبّة" أحيانًا في السهرات العائلية بين الآباء والأبناء وبين الأطفال، كما أنها ليست لعبة للذكور فقط بل إن المرأة التونسية تشارك في هذه اللعبة بالبيت وببعض المقاهي المختلطة بالمدن الكبرى.

 

 

  • لعبة الشكبّة ذات أصول إيطالية..

"الشكبّة" وفدت على تونس من الجارة إيطاليا وكان الإيطاليون يسمّونها "سوكبّا" وتعني الكلمة: المكنسة لأنه من قواعد اللعبة أن يكنس الفائز كل الأوراق الأخيرة المنثورة على الطاولة، وكانوا يعتبرونها لعبة للأطفال لبساطة قواعدها وقلة أوراقها مقارنة بباقي الألعاب الورقية الأخرى.

"الشكبّة" وفدت على تونس من الجارة إيطاليا وكان الإيطاليون يسمّونها "سوكبّا" وتعني المكنسة لأنه من قواعد اللعبة أن يكنس الفائز كل الأوراق الأخيرة المنثورة على الطاولة

لكنّ التونسيون برعوا في هذه اللعبة فأضافوا إليها ورقة وحيدة هي "الموجيرة" التي تحمل صورة المرأة الجميلة. كما بقيت أغلب أوراق اللّعبة تحمل نكهة التسميات الإيطالية مثل "الكوّال" (كافيلّو) و"السّباطة" (وتعني العصا أو السيف) و"ساتيبالاّ " ( وتعني السّبعة الجميلة التي تحولت إلى السّبعة الحية)... وفرّعوا من اللعبة ألعاب أخرى شبيهة مثل "الرّوندة" واللّص حفيظ".

ومع توفر ألعاب أخرى من جنس لعب الورق مثل "الرامي" و"البيلوت ". بقي للعبة "الشكبّة" مكانتها وألقها ورونقها بين الألعاب وخصوصًا في قائمة الألعاب التي توفرها المقاهي وتعتبر من وسائل الترفيه المثلى بين التونسيين.

في ظل آلاف الألعاب الإلكترونية التي وفّرتها الثورة التكنولوجية، نلاحظ أن لعبة "الشكبّة" البسيطة تواصل حضورها القوي في تونس

وفي ظل آلاف الألعاب الإلكترونية التي وفّرتها الثورة التكنولوجية، نلاحظ أن هذه اللعبة البسيطة تواصل حضورها القوي خاصة عندما نشاهد الإقبال عليها من عامة التونسيين والشباب على وجه التحديد.

  • نادل مقهى: ثمة من الرّواد من يأتي المقهى مباشرة بعد آذان المغرب لحجز طاولة الشكبّة

في شهر رمضان، تزدهر هذه اللعبة وتطلب في المقاهي والمنازل كشكل من أشكال الترويح عن النفس بعد مشقة الصيام والقيام والعمل طيلة اليوم، وهنا يروي الأزهر المحمودي وهو نادل مقهى شعبي لـ"الترا تونس"، متحدّثاً عن روّاد المقهى من عشاق لعبة "الشكبّة" قائلًا: "ثمة من يأتي المقهى بعد آذان المغرب مباشرة ليحجز طاولته ويلتقي شركاءه وخصومه في اللعبة لينطلق في مهرجان متواصل من اللعب إلى حدود آذان الفجر فيلعب ما يناهز الستّ مباريات شكبّة متتالية ويراوح بينهم بشرب الشاي والقهوة والعصائر وأكل السندويتشات وتدخين النرجيلة... ويتواصل سلوكه ذاك بلا انقطاع طيلة سهرات الشهر الكريم".

الأزهر المحمودي، نادل بمقهى شعبي لـ"الترا تونس": "ثمة من يأتي المقهى بعد آذان المغرب مباشرة ليحجز طاولته ويلتقي شركاءه وخصومه في اللعبة لينطلق في مهرجان متواصل من اللعب إلى حدود آذان الفجر"

ويضيف النادل أو "القهواجي"  كما يسمى في تونس أنه ثمة من الزبائن أيضًا من لا يحتمل الخسارة في الشكبّة الذي يسمه "الغفّاص" فيصبح محلّ تندر بين أصحابه وشركاء اللعب طيلة السهرة أو حتى السهرات القادمة.

وأوضح المحمودي أن "المقهى يتزود بمائة علبة أوراق لعبة الشكبة جديدة خصيصًا لشهر رمضان ويضيفها للرصيد القديم وعادة ما يقتنيها صاحب المقهى من "قمرق الدخان" كناية عن وكالة التبغ والوقيد التونسية ونياباتها التي توفر هذه اللعبة لكل المقاهي التونسية من الشمال الى الجنوب. ويضيف، خلال حديثه لـ"الترا تونس" أنه "جرت العادة أن تقدم العلبة الجديدة لطاولة اللعب التي يكون مصروفها أكثر من غيرها فنحن نتعامل مع كل طاولة على حدة"، وفق تعبيره.

نادل بمقهى شعبي لـ"الترا تونس": "لعبة الشكبّة خلال شهر رمضان هي مصدر من مصادر رزقي فالرابح للمباراة يجازيني أحيانًا بالبقشيش"

وبيّن الأزهر المحمودي أن "لعبة الشكبّة خلال شهر رمضان هي مصدر من مصادر رزقه فالرابح للمباراة يجازيه أحيانًا بالبقشيش/الإكرامية".

  • المختص في علم الاجتماع: لعبة "الشكبّة" جزء من شخصية الشعب التونسي وملمح من ملامحه هويته الثقافية

أوضح سفيان الفراحتي، المختص في علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية، لـ"الترا تونس" أن لعب الورق قديم في تونس وقد وفد من الشرق ومن أوروبا جراء الحركة التجارية البرية والبحرية وتمّت تونسته فأنتج ما نسميه "الكارطة شكبّة" وهذه الحركة تسمى في علم التثاقف بالانصهار الثقافي العميق الذي يثمر شيئًا جديدًا ومختلفًا.

سفيان الفراحتي، مختص في علم الاجتماع، لـ"الترا تونس": لعب الورق قديم في تونس وقد وفد من الشرق ومن أوروبا جراء الحركة التجارية البرية والبحرية وتمّت تونسته

ويضيف المختص في علم الاجتماع "هذه اللعبة الشعبية الشهيرة في تونس أصبحت جزءًا من شخصية الشعب وملمحًا من ملامح هويته الثقافية، كما نجد لها صدى في المنتوج الجمالي المحلي: في السينما والمسرح والفنون التشكيلية.. إنها التيمة المميزة للترفيه لدى التونسيين، ففضًلا عن المقاهي نجدها تمارس في وسائل النقل أثناء الرحلات الطويلة وفي الأوساط العائلية والمخيمات أثناء العطل المدرسية".

وبيّن الفراحتي أن لعبة الشكبّة هي من التراث الثقافي التونسي التي وجب الحفاظ عليها واقترح أن يكون ذلك في شكل تظاهرة أو توثيق سينمائي أو كتاب تاريخي.

سفيان الفراحتي، مختص في علم الاجتماع، لـ"الترا تونس": الشكبّة هي التيمة المميزة للترفيه لدى التونسيين، ففضًلا عن المقاهي نجدها تمارس في وسائل النقل أثناء الرحلات الطويلة وفي الأوساط العائلية والمخيمات أثناء العطل المدرسية

إن لعبة الشكبّة من الألعاب الأصيلة في تونس إذ يقبل عليها التونسيون بشراهة عجيبة خلال شهر رمضان المعظم فهي متنفسهم جراء الضغط اليومي الذي يعيشه المواطن التونسي، وهي لا تغيب عن مكونات السهر الرمضاني بمختلف المناطق التونسية ، وتنشط معها أيضًا حركة تجارية صغيرة في شبكة المقاهي التونسية.