22-أبريل-2018

مخزون تراثي إسلامي ثريّ في القيروان (getty)

مدينة القيروان التي تشهد كل فترة احتجاجات مندّدة بالتهميش ومطالبة بالتنمية، هي ذاتها المدينة التي تزخر بمعالم أثرية تخفي بين ثناياها أسرار الحضارة الإسلامية، فعاصمة الأغالبة التي رمت بجذورها في السباسب بعيدًا عن السواحل حُبلى بمخزون تراثي لا مثيل له، وهي شاهدة على ازدهار الحضارة الإسلامية وعلى مراحل تطور فن العمارة.

  •  جامع عقبة بن نافع.. أيقونة الروح الإسلامية في المدينة

في قلب مدينة القيروان ينتصب جامع عقبة بن نافع أو الجامع الكبير، حاملًا ذاكرة الحضارة الإسلامية بالمغرب وموثّقا لحقبات تاريخية متنوعة. ويعود تأسيس المعلم الديني والأثري إلى سنة 50 هجري، وكان محل تعهد من طرف الولاة والأمراء الأفارقة. ويعود الفضل لزيادة الله الأول في رسم ملامحه وتخطيطه النهائي بين 221 و223 هجري، وأضاف أبو إبراهيم أحمد سنة 248 هجري المجنبات وقبة البهو، وفق ما أفاد به المتفقّد الجهوي للتراث بالقيروان جهاد صويد لـ"الترا تونس".

وشدّد صويد، في تصريحه لنا على هامش زيارة نظّمتها وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية إلى المعالم الأثرية بالقيروان، على أن الجامع الكبير يعدّ متحفًا قائم الذات إذ أن كل القطع الموجودة فيه أصلية وتعود إلى القرن الثالث للهجرة.

 

بُني جامع عقبة بن نافع سنة 50 هجري
بُني جامع عقبة بن نافع سنة 50 هجري

 

ويحتوي الجامع على 17 بلاطة وثمانية أساكي، ويستمد تخطيطه من الجوامع الأمويّة مع الاقتداء بمثال جامع الرّسول بالمدينة. ويتولّد عن التقاء البلاطة الوسطى وأسكوب المحراب، قبّة مربّعة القاعدة مصنوعة من الحجارة المنحوتة، وتعدّ هذه القبة من أجمل القباب ذات المحاريب في الفن الإسلامي لزخارفها الهندسية من الرصيد العباسي والأموي ولتناسق أحجامها.

وتحيط بالصحن أروقة ذات عقود نصف دائرية متجاورة من جوانبه الأربعة، ويتوسّط رواق القبلة قبة البهو في حين يتوسط الجدار الشمالي منارة مقامة من الحجارة المصقول، وهي مربعة القاعدة وكانت المثال الذي اقتدى به العديد من المنارات الإفريقية عبر التاريخ.

المنبر الخشبي لجامع عقبة بن نافع يعدّ من أقدم المنابر الإسلامية إذ يعود إلى سنة 248 هجري ومحرابه يعدّ من أقدم المحاريب في بلاد المغرب

والمنبر الخشبي لجامع عقبة بن نافع، وفق صويد، مصنوع من خشب الساج ويعدّ من أقدم المنابر الإسلامية إذ يعود إلى سنة 248 هجري، ومحرابه يعدّ من أقدم المحاريب في بلاد المغرب ويُزين واجهته خزف ذو بريق معدني. ويحتوي المعلم الديني على ما يزيد عن 300 لوحة تحمل زخارف نباتية وهندسية تعكس تمازج الخاصيات البيزنطية والإيرانية وتشكّلها في روح إسلامية.

والمتجول في الجامع الكبير تشدّه السقوف الخشبية المصقولة والمطلية التي تعود إلى فترات تاريخية مختلفة تمتد على زهاء الألف سنة، وتجذبه مقصورة المعز المصنوعة من الخشب ذات الشريط المكتوب بالخط الكوفي المورّق.

  • فسقية الأغالبة.. صراع ضد العطش وندرة المياه

تعتبر فسقية الأغالبة أو البركة الأغلبية من أهم المنشآت المائية في العالم الإسلامي، وقد مكّنت عظمة هذا المعلم الذي يعكس صراعًا ضد العطش وندرة المياه أن تلقّب القيروان بـ"مدينة المواجل".

وكان التزود بالماء يتمّ عن طريق انسياب مياه الأمطار وبعض فروع واد "مرق الليل" التي تصب في المنخفضات المحيطة، وتخزّن المياه بواسطة سدود صغيرة وقناة مجهّزة بواق بما يخفّف من قوّة دفق المياه لتوصلها إلى البركة الصغيرة، وذلك وفق ما أفاد به المتفقد الجهوي للتراث بالقيروان جهاد صويد "الترا تونس".

 

فسقية الأغالبة من أهم المنشآت المائية في العالم الإسلامي
فسقية الأغالبة من أهم المنشآت المائية في العالم الإسلامي

 

وقد تولّى الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله، سنة 348 هجري/961 ميلادي، إقامة حنايا تجلب الماء إلى البركة من عيون بمنطقة "الشريشيرة"، على بعد أربعين كلم غرب مدينة القيروان بعد أن يتمّ تزويد عاصمته "صبرة". وعن استعمالات المياه المخزّنة، قال صويد لـ"ألترا تونس"، إنه يقع استثمارها في أيام الجفاف، كما يستفيد منها الأهالي في تزويد القوافل بالماء وسقي المواشي، مشيرًا إلى أنّ غالب القيروانيين في تلك الفترة يمتلكون آبارا ومواجل في بيوتهم.

أما البرك الأغلبية، فقد أنشأها الأمير الأغلبي أبو إبراهيم أحمد بين 246 هجري/860 ميلادي و248 هجري/862 ميلادي، وهي مبنية بالصخر المكسو بملاط عازل، وتتكون من 3 عناصر أساسية وهي الحوض الصغير والحوض الكبير ومواجل تخزين الماء. ويبلغ قطر الحوض الصغير 17 مترًا، ويحيط به جدار متعدّد الأضلاع يتكون من سبعة عشر دعامة داخلية، وستة وعشرين دعامة خارجية تتراوح فيما بينها، وهي طريقة تدعم المبنى حتى يقاوم ضغط المياه، وهذه الدعامات نصف إسطوانية الشكل تعلوها نصف كرة.

كان يتم استثمار  المياه المخزّنة في القيروان في أيام الجفاف، ويستفيد منها الأهالي في تزويد القوافل بالماء وسقي المواشي

وتبلغ سعة هذه البركة أربعة آلاف متر مكعب، وتتمثل وظيفتها في تنقية المياه ممّا تجرفه معها من فضلات وبقايا، وتنساب المياه بعد تصفيتها إلى البركة الكبيرة عن طريق فتحة ذات عقد نصف دائري تسمى "السرح". والحوض الكبير ذو شكل متعدّد الأضلاع تدعمه أربع وستون دعامة داخلية ومائة وثمانية عشر خارجية، ويبلغ قطره 128 مترًا، أمّا عمقه فيبلغ أربعة أمتار وثمانية أعشار المتر وتتجاوز سعتها سبعة وخمسين ألف متر مكعب.

ويوظّف هذا الحوض لخزن المياه الضرورية لحاجات الحياة اليومية، وتسمح هذه العملية بتصفية أجود للمياه التي تخصص أصفاها للشرب، وصبها في مواجل خاصة بسحب الماء. وتتكون مواجل تخزين الماء من خزّانين متوازيين يتصلان بالبركة الكبرى اتصالًا متعامدًا وهما مسقوفان بقبو طوليّ يقوم على عقود سقف تستند إلى أعمدة ركائز، وتتجاوز سعة كلّ خزّان الألف متر مكعّب.

  • ضريح سيدي الصحبي.. مقصد للزيارة والتبرك

يكاد لا يخلو مقام الصحابي أبو زمعة البلوي أو زاوية سيدي الصحبي باللهجة العامية من الزوار الذين يتبركون بمقام حامي المدينة وصاحب الجاه الذي حضر بيعة الرضوان وطهّر أرض القيروان، وقدّس تربتها بما حمله معه من شعرات الرّسول الكريم التي دفنت إلى جانب جثمانه، وفق ما أفاد به المدير الجهوي للتراث بالقيروان في إطار استعراضه لهذا المعلم التاريخي.

وتدور في رحاب المقام كل سنة الاحتفالات بالمولد النبويّ الشريف، ويعقد أهل القيروان زيجاتهم، ويُختن الصبية، كما تُقام صلاة الاستسقاء كلّما مسكت السماء المطر، ومنه ينطلق محفل الحجيج. ومن العادات السائدة في القيروان أن تهدي الفتاة أول زربية تنسجها للصحابي أبو زمعة البلوي تبركًا وتيمنًا به.

 

مقام أبو زمعة البلوي أو سيدي الصحبي صاحب الجاه الذي حضر بيعة الرضوان 
مقام أبو زمعة البلوي أو سيدي الصحبي صاحب الجاه الذي حضر بيعة الرضوان 

 

وكان قد غزى أبو زمعة عبيد بن أرقم البلوي إفريقيّة مع معاوية ابن حديج سنة أربع وثلاثين للهجرة، ومات بالقيروان ودفن بها بالبقعة التي تعرف الآن بالبلويّة، وسمّيت به في ذلك الوقت وأمرهم أن يستروا قبره، ودفن معه قلنسوته وفيها شعر رسول الله، فقامت بذلك علاقة روحيّة بين الفاتحين وهذه التربة قبل تأسيس القيروان.

وتمّ إحداث قبّة في تاريخ مجهول على الضريح كانت قائمة في العهد الحفصي، وجُعل لها حرم يدور بها من جهاتها الأربعة مصان بالبناء والغلق وجعل في تلك القبّة لوح من رخام مرسوم فيه اسمه. وفي سنة 1072 هجري، أضاف حمودة باشا المرادي المدرسة ثم أعاد محمد بن مراد باي سنة 1092 بناء الضريح بصورة جذريّة وجدّد قبّته ًتجديدًا كاملًا.

ويتألف مقام سيدي الصحبي من مخزن و"علوي" ومدرسة، ويوجد المخزن على يسار المدخل الأوّل وقد كانت تخزن فيه المواد والمنتوجات المتأتّية من الأحباس والهبات. ويوجد "العلوي" الذي يعرف بـ"علوي الباشا" فوق المخزن، وكان يتّخذ لإقامة "باي المحلّة" المكلف بجباية الضريبة والزكاة، ثم تحوّل في فترة لاحقة إلى دار للضيافة لإقامة الوافدين على الزاوية من الزوار وأعيان أهل القيروان.

أما المدرسة فهي ملاصقة للمخزن وتعتبر نموذجًا للمدارس التونسيّة المتأثّرة في تخطيطها بهندسة الرباطات، وتضم مدخلًا منكسرًا يفضي إلى صحن تحيط به المجنبات من أربعة جهات، ويوجد في الجهتين القبليّة والشماليّة منها غرف لإقامة الطلبة في حين يحتلّ الجانب الغربي بيت الصلاة، وهي مستطيلة وعميقة وتتألّف من بلاطتين وتتميّز بمحرابها الذي يعلوه عقد من الرخام الأبيض والأسود وتتقدّمه قبّة ذات قاعدة مربّعة تعلوها أربعة محاريب عند الزوايا، وهي مضلّعة الغشاء وعلى شكل القباب القيروانيّة.

وعند الزاوية الشماليّة للمدرسة تنتصب المئذنة، وهي ذات قاعدة مربّعة ومكسوّة بمربّعات الجليز وتعلوها من جوانبها الأربعة فتحات تتمثّل في عقدين متجاوزين ومتوأمين تكسوها شرفات مسنّنة فريدة ذات طابع معماري أندلسي ومغربي.

  • المتحف الوطني للفن الإسلامي برقادة.. ذاكرة حضارة

متحف رقادة في الأصل هو أحد قصور الحبيب بورقيبة وهبه إلى وزارة الثقافة سنة 1983، ووقع تحويله في نفس السنة إلى متحف للفن الإسلامي، وفق ما صرّح به المدير الجهوي للثقافة في القيروان لـ"ألترا تونس". ويُتداول أن قصر رقادة كان من القصور المحبّذة لزعيم النظام الليبي السابق معمر القذافي.

يحوي متحف الفن الإسلامي برقادة على نقائش جنائزية تؤرخ لتكون الخط الكوفي ونقيشة جنائزية مكتوبة باللاتينية تعود إلى مجموعات مسيحية في القرن الخامس للهجرة

تعرض قاعة المدخل في القصر مجسّمًا خشبيًا مصغرًا للجامع الكبير، وتلي هذه القاعة قاعة الخزف التي تعرض مجموعة هامّة من الأواني الخزفية المتأتية من موقع رقادة الأثري أو من صبرة المنصورية. وتوجد بالقاعة نماذج وعينات من قطع بلورية من قوارير وأواني زجاجية تعود الى القرن العاشر والحادي عشر للميلاد، إضافة إلى عينات من الجس والفخار غير المطلي المتمثل في أوان للاستعمال اليومي على عكس خزف رقادة أو أصفر رقادة الذي يعكس نمط الرفاهية، والتي تتلوّن بالأصفر والبني وتتكرّر فيها الزخارف النباتية والحيوانية والهندسية. وقد تميزت الأواني الخزفية الفترة الفاطمية باللونين الأزرق والأسود، ومن أشهر أنواع الخزف ذو البريق المعدني الذي يضفي جمالية على الأواني.

أما القاعة الموالية والتي تتواصل بها أشغال تهيئة المتحف بموجب منحة أمريكية وفق ما تمّت إفادتنا به، فعُرض بها فرن ذو أوتاد وقع اكتشافها في الحفريات وهو مخصّص لصناعة الخزف ذو البريق المعدني، بالإضافة إلى عينات من الفسيفساء.

ويحوي المتحف أيضًا على نقائش جنائزية تؤرخ لتكون الخط الكوفي، إضافة إلى نقيشة جنائزية مكتوبة باللاتينية تعود إلى مجموعات مسيحية في القرن الخامس للهجرة، ومزاول وهي ساعات شمسية توجد واحدة منها في جامع عقبة بن نافع، وأختام وأدوات جراحة استخدمها ابن الجزار. وتضم قاعة العملة الذهبية مجموعة هامّة من النقود التي تؤرخ لاقتصاد إفريقيّة على مدى أكثر من ستّة قرون.

 

تسافير جلدية قيروانية - المتحف الوطني للفن الإسلامي برقادة
تسافير جلدية قيروانية - المتحف الوطني للفن الإسلامي برقادة

 

وتحتوي قاعة المخطوطات على صحف من القرآن الكريم على الرقّ، يقول عنها المدير الجهوي للتراث بالقيروان جهاد صويد إنها من أقدم المخطوطات في العالم. وتزخر القيروان أيضًا بأهم رصيد من مخطوطات الرق أو الجلد، إذ يبلغ عددها في مركز المخطوطات 40 ألفًا إضافة إلى 50 ألف مخطوطة على الورق، وفق صويد الذي أشار بأن أقدم مخطوطات للقرآن توجد في القيروان، وأن المخطوط الأزرق الذي توجد منه نسخ في العالم هو تونسي الأصل.

 أقدم مخطوطات القرآن توجد في القيروان و المخطوط الأزرق الذي توجد منه نسخ في العالم هو تونسي الأصل

في الأثناء، رغم تعدّد الدرر الأثرية بالقيروان إلا أنّ هذه الولاية دائمًا ما تشكو من غياب التنمية، ولعلّ الاستراتيجية الجديدة لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية التي تهدف إلى التعريف بالمعالم الأثرية في كل الجمهورية التونسية، قد تكون حافزًا لتشجيع السياحة الداخلية باتجاه القيروان، وبالتالي في دفع عجلة التنمية في هذه الولاية التي تعبق أصالة وتراثًا.