06-يناير-2022

إسمهان الجويني واحدة من حفظة الذاكرة الثقافية الغذائية لتستور

 

تستور، تلك المدينة المنسابة كشال مرقّط بالشذى والذاكرة على كتف الوادي الكبير، "مجردة" الهادر بالطمي والحياة، والمترعة بأندلسيتها البادية والموشومة مع كل انحناءة شمس على القرميد الإشبيلي المقوّس الذي يغطي كل أسقف المدينة العتيقة وسوقها البسيطة فتزيد من أرجوانيته وسخاء جماله الباذخ، والتي لا تكف عن فتح شرفات الغواية ونثر جلّنار الرّمان على حجّاجها الميامين وعشّاقها الولهى، تمنحهم قصص البدايات ووصول العائلات الأندلسية من شبه الجزيرة الإيبيرية المليئة بالتآلف والتضامن والتحابب، تمنحهم إياها من دون شرح لأن القصص الإنسانية الجميلة والحزينة يفسدها الشرح.

كما تبذر تستور عبر نسائم المساء خيوطًا من أريج عطر الياسمين العتيق بالجامع الكبير الذي بناه "محمد تغارينو" سنة 1630م  إبان الهجرة الموريسكية الكبرى من أرض الأندلس المفقود وسطوة الملك الإسباني فيليب الثاني على كل ما راكمه العرب من حكايات طيلة قرون.

تستور تبدو لزائريها على أتم الاستعداد لإسراج خيل الذكريات البعيدة من أجلهم، وتوقد قناديل الآباء المورسكيين حتى يستمتعوا بأبدية المكان الساحر.

اقرأ/ي أيضًا: تستور.. قطب واعد للسياحة الجبلية في تونس

الحجاج من المتيمين بحب مدينة تستور الأندلسية على أتم الاستعداد للمبيت في عراء القصيد من أجل السير لبرهة من الزمن في أزقتها الملتوية وتلاوة أدعية في رحاب مساجدها العتيقة وتأمل قباب مدارسها القديمة وقطف ما لذ وطاب من ثمار كرومها. 

لكن الارتحال لمدينة تستور للتريّض والتنزه  ليس وقوفًا على أطلال خلّفتها السنون والقرون فقط، بل يمكن لها أن تجعلك أمام أهل طيبين من سلالة أهل طيبين قدموا من غرناطة أو أراغون أو طليطلة أو إشبيلية أو مرسية أو بلنسية ... وحملوا معهم بعض الأفراح الصغيرة التي لا تزال متوارثة إلى الآن.


مباشرة أسفل الحمام القديم وقبالة مقهى الأندلس بتستور تدير إسمهان الجويني على رصيف المدخل الجنوبي "نصبة" أنيقة ووقتية لصناعة "السّفنج" وهو من الحلويات التستورية الأصيلة والتي نجد لها صدى على طول الخط الموريسكي التونسي والمغاربي.

"السّفنج" هو من الحلويات التستورية الأصيلة والتي نجد لها صدى على طول الخط الموريسكي التونسي والمغاربي 

إسمهان الجويني أكدت لـ"الترا تونس" أنها واحدة من حفظة الذاكرة الثقافية الغذائية لتستور، وأضافت  أن "السّفنج"  هو من الحلويات التي لا تغيب عن حفلات أفراح العائلات التستورية، فهو يعدّ من قبل أهل العروس بمناسبة "نهار القفّة" ويقدم للضيوف في أواني فخارية أو بلورية ممزوجًا بالعسل وماء الزهر المقطر حسب العادات القديمة.

"السّفنج" يتم إعداد عجينه من مادة السميد ويشبه إلى حد كبير الفطائر المعروفة في كامل البلاد التونسية

اقرأ/ي أيضًا: تستور... تأبى نسيان الأندلس المفقود

وأوضحت الجويني أن "السّفنج" الذي يتم إعداد عجينه من مادة السميد والذي يشبه إلى حد كبير الفطائر المعروفة في كامل البلاد التونسية والتي يصنع عجينها من مادة الفرينة، عرف حضوره تراجعًا ملحوظاً إذ بات يغيب عن حفلات أفراح الأجيال الجديدة من أبناء تستور، اللذين يرون في ذلك تقليدًا لا فائدة منه وتخلوا تقريبًا على أجمل عناصر العرس مثل الحنة والحمام والتعليقة والقفة وأصبح يقدم في المهرجانات والتظاهرات الثقافية كجزء من الموروث الذي يميز المائدة التستورية.

إسمهان الجويني لـ"الترا تونس": يعد "السّفنج" من قبل أهل العروس بمناسبة "نهار القفّة" ويقدم للضيوف في أواني فخارية أو بلورية ممزوجًا بالعسل وماء الزهر المقطر

ودعت إسمهان الجويني، من خلال حديثها مع "الترا تونس" أبناء تستور إلى الحفاظ على تراثهم الغذائي وينابيعه الأولى وتعليم خصوصية صناعته للأجيال الجديدة عبر جعله تمرينًا منزليًا لأن في ذلك محافظة على ذاكرة الآباء والأجداد، بل المحافظة على جزء من ذاكرة وطن.

الحرفية الجويني تبدو سيدة تستورية، تونسية، مليئة بالحياة، تقيم مباشرة تحت شمس الكفاح إذ انتبذت الرصيف لتجني قوت يومها، لم تستكن لقسوة الأيام بل واجهتها ببأس وجرأة شديدين وكثير من الابتسامات ولمعة في عينيها وزراعة الأمل وضياءاته  في كفي يديها.

لقد كانت أصابعها تلوك عجين "السّفنج" قبل الإلقاء به في المقلاة بجَلد وروح فلاح يمسك بمحراثه ويقلّب الأرض تقليبًا وكانت سواعدها تقول ما لم يقله الأدب وهو يصف صدق النساء في العمل وصناعة الحلوى على وجه الخصوص.

تتوقف السيدات التستوريات عند "نصبتها" فتثنين على طعم ولون "السّفنج" الأصيل

شاهد/ي أيضًا: فيديو: الجامع الكبير بتستور.. عن ساعة تحنّ للأندلس

إسمهان الجويني تصنع "السّفنج" على رصيف العمر بعفوية وبساطة نادرة وتحوله إلى قصيدة دائرية، ذهبية، مقرمشة، تعشقها الأذن والعين قبل البطن وذلك وسط  كون من المزاح والأحاديث الهامشية الطربة الزكية مع الزوار والعابرين وهي تفرط في العناية بهم عند تقديم الأقراص المضيئة الشهية.

إسمهان الجويني تصنع "السّفنج" على رصيف العمر بعفوية وبساطة نادرة وتحوله إلى قصيدة دائرية، ذهبية، مقرمشة، تعشقها الأذن والعين قبل البطن وذلك وسط  كون من المزاح والأحاديث الهامشية الطربة الزكية 

يحييها المارّة من أهل البلدة وتتوقف السيدات التستوريات عند نصبتها فتثنين على طعم ولون "السّفنج" الأصيل الذي يذكرهنّ بالأيام الخوالي زمن الأفراح والليالي الملاح، ولا تغادرن قبل أن ترفعن وجوههن إلى السماء وتطلبن من الله أن يمنح إسمهان "القسم الحلال".

إن حضور الحرفية إسمهان الجويني على رصيف مدينة تستور من ولاية باجة وهي تعد حلوى أندلسية أصيلة قد يبدو للعابرين نوعًا من الصّبوة وعودة إلى النّسوغ الأولى للمطبخ التستوري الأندلسي وما خطّه الأجداد من قصص ساحرة حول صناعة عدد من الحلويات الأندلسية مثل البناضج وكعك الورقة والطواجن والسفنج لكنه في عمقه برق لا يتكرر وانبجاس لدرس حياتي تمنحه هذه السيدة التستورية المكافحة وخلاصته أن الاستمرار داخل العاصفة ممكن.    

تصنع "السّفنج" على رصيف العمر بعفوية وبساطة نادرة وتحوله إلى قصيدة تعشقها الأذن والعين قبل البطن وذلك وسط كون من المزاح والأحاديث الهامشية الطربة



اقرأ/ي أيضًا:

تستور: قلعة الأندلسيين تحيي رمضان على خطى الموريسكيين

جولة في رحاب تستور وعين تونقة ودقة: حينما تبوح حجارة المكان بأسرار التاريخ