02-أكتوبر-2019

زلزلت الانتخابات زلزالها وأخرجت الأصوات المستقلّة أثقالها (طلال ناصر/وكالة الأناضول)

 

 

حينما فشل المستقّلون في انتخابات المجلس التأسيسيّ سنة 2011، تعامل معهم الكثير من المحلّلين بضرب من الاستخفاف والتشفيّ، واتّهموهم بالنرجسيّة وسوء التدبير، وانتهوا إلى استنتاجات نزّلوها منزلة الثوابت التي لا تحتمل التشكيك، منها القول إنّ النجاح في الرهانات السياسيّة مشروط  بالانخراط في الأحزاب، فهي التي تملك أدوات التأثير والإقناع والتعبئة والمناورة، فالمال و"الماكينات" وكلمات السرّ وبيروقراطيّة التعليمات أسلحة تملكها الأحزاب والمنظمات غير أنّها بعيدة المنال عن المترشّحين من الرموز والشخصيّات.

طعنة التوافق ولوثة السياحة الحزبيّة واندساس السذج العاجزين بين القائمات من الأسباب الجوهريّة التي ساهمت في بداية اللجوء إلى بدائل منها العزوف عن الانتخاب والتحرّي في سيرة المترشّحين المستقلّين

اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات التشريعية: تراجع عدد القائمات الحزبية فأي حظوظ للمستقلة؟

علا صوت الأحزاب الحاكمة والمعارضة في المجلس التأسيسيّ، فانتشى الأنصار والمنتسبون والمصطفّون غير أنّ بقيّة الناخبين المتحرّرين من الألوان السياسيّة الثابتة والانتماءات الإيديولوجيّة الصّنميّة شرعوا منذ الأشهر الأولى في المراجعة والنقد والتأثيم، فأفضت تقييماتهم إلى سقوط أحزاب وتذرّر أخرى منها المؤتمر من أجل الجمهوريّة والتكتّل من أجل العمل والحريّات والحزب الديمقراطيّ التقدّمي، ولولا بعض الخصوصيّة ودعاية الاستقطاب التي نسجها الشيخان راشد الغنّوشي والباجي قائد السبسي في انتخابات 2014 التشريعيّة والرئاسيّة لأصاب حركة النهضة ما أصاب البقيّة.

ساهم ذاك الاستقطاب وفلسفة الانتخاب المفيد في تواصل خيبة المستقلين وخُسرانهم، غير أنّ ثقة الناخبين في الأحزاب بدأت تتهاوى  شيئًا فشيئًا، فقد تصدّعت في البداية بسبب التحالف  بين النداء والنهضة بعيد الإعلان عن النتائج. فرغم الفضائل الأمنيّة والسياسيّة لهذا التقارب، فقد تسبّب في صدمة لدى أنصار هذين الحزبين اللذين بنيا دعايتيهما الانتخابيّة على إظهار التباين والعداء، فقد بدا كل زعيم بالنسبة إلى أنصاره المتشدّدين بعد الوفاق والعناق في صورة المخلّ بوعوده المتّهم مجازًا بخيانة مؤتمن.

هذا التصدّع بلغ درجة الشرخ والسقوط حينما عمّت السياحة الحزبيّة وافتضح أمر بعض النواب المفتقرين إلى التكوين المعرفيّ والكفاءة الخطابيّة واللياقة السلوكيّة، فتبيّن أنّ وصولهم إلى مجلس النواب كان سليل الاندساس والتسلّل عبر قائمات حزبيّة رأسها سليم هو بمثابة "وجه السوق" وما تحته فاسد عقيم. 

طعنة التوافق ولوثة السياحة الحزبيّة واندساس السذج العاجزين بين فروج القائمات من الأسباب الجوهريّة التي ساهمت في بداية اللجوء إلى بدائل منها العزوف عن الانتخاب والتحرّي في سيرة المترشّحين الفرديين المستقلّين.

من الرجّة العيّاريّة إلى الفيضان في البلديّة

أوّل رجّة أصابت الأحزاب كانت في ديسمبر/كانون الأول 2017 حينما فاز ياسين العيّاري في الانتخابات التشريعيّة الجزئيّة بألمانيا، إذ تفوّق مرشّح قائمة "الأمل" على فيصل الحاج طيّب ممثّل حزب نداء تونس الحاكم المهين على الرئاسات الثلاث في قرطاج والقصبة وباردو. ورغم أنّ الرّجة كانت قويّة مدوّية، فقد حاولت الأجهزة الإعلاميّة تمييع هذا الفوز والاستهانة به معتمدة في ذلك حجّة تبدو علميّة قائمة على الإحصاء ومفادها أنّ العيّاري المرشّح المستقلّ لم يجن غير 284 صوتًا، هذه الحجّة أوغلت في المغالطة، لأنّها لم تأخذ بعين الاعتبار المكان والمقام والسياق الذي تمّت فيه هذه الانتخابات الجزئيّة، وغيّبت حرص النداء المحموم على نيل هذا المقعد.

إنكار الحقيقة يفضي بالضرورة إلى التمادي في الأخطاء، وهو ما جعل النداء الحزب الأكثر تمثيليّة في مجلس النواب يسير شيئًا فشيئًا نحو التفكّك والتآكل من الداخل

إنكار الحقيقة يفضي بالضرورة إلى التمادي في الأخطاء، وهو ما جعل النداء الحزب الأكثر تمثيليّة في مجلس النواب يسير شيئًا فشيئًا نحو التفكّك والتآكل من الداخل، وفيما كان أبناء الباجي يخفون رؤوسهم وصدورهم خشية أن تصيبهم حليفتهم حركة النهضة في مقتل كانت عوراتهم السلوكيّة والتواصليّة مكشوفة للمستقلّين الذين تمكّنوا في الاستحقاق الانتخابيّ الموالي من افتكاك المرتبة الأولى في الانتخابات البلديّة سنة 2018 بنسبة 32.9 في المائة تلتهم النهضة بنسبة 29.6 في المائة ثمّ النداء بنسب 22.7 في المائة.

واصل المستقّلون الزحف، لكن رغم ذلك استمرّ المتحدّثون باسم الأحزاب التهوين من هذه الهزات الارتداديّة التي لم تنفكّ عن السريان ذهنيًا ونفسيًا منذ 2014 وتواصلت انتخابيًا سنتي 2017 و2018 حتّى بدت أشبه بالفيضانات التي تجتاح بعض البلديّات، ووجد هؤلاء الغافلون مسكنّات أخرى يتلهون بها عن حريق يداهمهم، فظنّوا أنّ ما حصل في الانتخابات البلديّة لن يتكّرر في التشريعيّة والرئاسيّة سنة 2019، واحتكموا في ذلك إلى حجّة تبدو في الظاهر موضوعيّة مفادها أن الحكم المحليّ يدفع النائب دفعًا نحو خيارات تستند إلى الصداقات والعائلات والعروشيات والإشعاع المحلّي.

مستقلّ "هزم الأحزاب وحده"

المسكّنات تدفع الآلام لكنّها لا تشفي المريض ولا تعالج الداء، هذا ما تأكّد بعد سنة تقريبًا من الانتخابات البلديّة فقد تقدّمت الأحزاب بأفضل رموزها في سبيل بلوغ قصر قرطاج، وكلّ يتغنّى قائلًا في خيلاء "أخرجوا لنا نظراءنا"، بل فيهم من المترشّحين من ضحّى برهان رئاسة الحكومة في سبيل كرسيّ وثير اعتباريًا شائك هيّن من حيث الصلاحيّات، فكانت النتيجة الهزيمة المذلّة لشخصيّات سياسيّة مدجّجة بأسلحة إعلاميّة وترسانات حزبيّة ودبابات سياديّة ومصفحات إداريّة، فزلزلت الانتخابات زلزالها وأخرجت الأصوات المستقلّة أثقالها، فمضت عشيّة الخامس عشر سبتمبر/ أيلول 2019 لتعلن فوز قيس سعيّد الأستاذ الذي هزم الأحزاب وحده، فدبّ فيها الخوف وبدأت أساطير التشكيك في المستقلّين وتشويههم وتخوينهم، ولمّا تبيّن أنّ هذا العداء مفضوح نحا البعض منحى يوحي بالموضوعيّة والحكمة والوطنيّة.

توخّى التشكيكُ في المستقلّين خطابًا أشبه ما يكون بلغة المخبرين، كأن يدّعي المتكلّم بأنّ هذه القائمات يمكن أن تضمّ الإرهابيين والمجرمين والمنحرفين والمهرّبين والهاربين من العدالة عامّة.

هذا الادّعاء فضلًا عن تعسّفه وتهافته فإنّه ينطوي على تناقض ذلك أنّ التخفّي عادة يقتضى اللجوء إلى الجماعة أو الفرقة أو العشيرة أو العائلة أو المنظمات، ألم تكن بعض النقابات ملجأ يتخفّى فيه عدد من  المتخاذلين و المفتقرين إلى الكفاءة؟ ألم تضمّ بعض الأحزاب الكبرى شخصيّات سياسيّة مشبوهة أو مورّطة في قضايا خطيرة؟

اقرأ/ي أيضًا: صعود قيس سعيّد.. زلزال انتخابي بانتفاضة شبابية؟

تلك الهواجس من خطر المستقلّين قد تحمل بعض الوجاهة إذا تعلّق الأمر بشخصيّات غير معروفة، لكن هل يحلم المغمورون المجهولون بالنجاح في منافسة انتخابيّة رهانها الدعاية والظهور والإعلان عن النوايا والمقاصد إعلان المؤذّن، لكن هب أنّ هذه المخاوف لها ما يبرّرها، كيف يبلغ بنا التشكيك ذاك المبلغ مع قيس سعيّد الأستاذ الجامعيّ المعروف الذي عاينة الطلبة مدّة عقود، فلم يروا غير الاستقامة والاعتدال ونظافة اليد؟ بأيّ شريعة وبأيّ رأي يرميه مناوئوه بتلك التصنيفات ذات النزعة الانتقاميّة الرامية إلى التشكيك في استقلاليته؟

فهو من حزب التحرير في ظنّ هؤلاء، وهو شيعيّ عند أولئك، وهو سلفيّ بالنسبة إلى هذا المحتال، وهو فوضويّ في تصوّر ذاك المضلّل ، ثمّ توّج المحققون في نجاح قيس سعيّد المترشح المستقل حفرياتهم الوهمية باستفسار مفاده "من وراءه"؟، فأفقد الأستاذُ هذا السؤال صرامته الاستخباراتيّة  بطريقة تهكّمية مجيبًا بأسلوبه الفصيح: "ما ورائي غير الجدار".

 

 

 

القائمات المستقلة والتقيّة الحزبيّة

ظلّ السؤال "من وراء" هذه القائمة أو تلك الشخصيّة هو المحرّك الأساسيّ في تخوين المستقلّين والتشكيك في ذممهم السياسيّة، غير أنّ الناظر في خطاب الندائيين والنهضويين في الانتخابات البلديّة السابقة واجد أنّ كل طرف يتّهم الآخر بإخفاء بعض مرشحيه في قائمات مستقلّة بغية الهيمنة والاكتساح، حتىّ تحوّلت هذه القائمات إلى مسلك من مسالك التقيّة الحزبيّة، تأكيدا لهذا ذكر منجي الحرباوي القيادي بنداء تونس في أحد تصريحاته قبل الانتخابات البلديّة التي جرت في ماي/ أيار 2018: "القائمات المستقلة في أغلبها منبثقة عن حزب النهضة، وقد جُعلت حتّى تسيطر الحركة على السلطة المحليّة، فهي لا تستطيع أن تتقدم إلى الشعب التونسي بصفتها كحزب"

 

اللافت في الأمر أنّ الندائيين يتهمون النهضة بالوقوف وراء جل القائمات المستقلة في الانتخابات البلديّة، ثم سرعان ما يعترفون أنهم قد أتوا نفس الصنيع، الغريب أن سفيان طوبال القيادي السابق بنداء تونس حوّل هذا الاختيار السياسي إلى مفخرة وآية حكمة.

 

لا حكومة بغير أحزاب

الإعراض عن الأحزاب والتبرؤ منها بلغ ذروته مع ائتلاف "عيش تونسي"، إذ رفع هؤلاء المترشّحون في الانتخابات التشريعيّة 2019 شعار "ما تخافوش ماناش حزب (لا تخافوا لسنا حزبًا)"، وهو شعار يدفع بأسلوب مثير نحو التشكيك والشيطنة. في المقابل، ظلّ العديد من السياسيين متمسّكين بمنزلة الأحزاب، فقد عدّ علي العريّض أصحاب الأهواء المنفردة سببًا في تشتّت الأصوات، وحوّل هذا الموقف إلى إجراء وقائيّ منبّها في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية) النهضويين قائلًا "إن كل مترشّح من الحزب بالقائمات المستقلة مصيره التجميد".

ولئن توجّه العريّض في هذا التصريح إلى أبناء الحركة فقد نحا عبد اللطيف المكي منحى أوسع حينما أكّد على أنّ تكوين الحكومة بعيد الانتخابات يكون أيسر عند فوز حزب أو حزبين متقاربين في البرامج ووجهات النظر مستبعدًا قدرة المستقلين على تشكيل أغلبيّة برلمانية، ولم يفض تدخّله إلى القدح في المنزلة الاعتباريّة لهذا النوع من المترشّحين، بل أثنى على بعضهم غير أنّه عدّهم خزانا يمكن للحزب الفائز اللجوء إليه والاستفادة منه.

 

 

 

 نستخلص من خلال هذا العرض التحليليّ أنّ صعود المستقلّين منذ واقعة ياسين العيّاري بألمانيا لم يكن راجعًا فقط إلى كفاءاتهم ومهاراتهم وبرامجهم، إنّما الأمر عائد إلى ضعف الأحزاب وتفكّكها وعجزها عن تخطّي الخلافات الداخليّة وافتقارها إلى رؤية مستقبليّة تتيح لها مواجهة المستجدّات في علاقة بأنصارها وحلفائها وخصومها ومحيطها الداخليّ والخارجيّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مع إعادة النبش في العلاقات مع فرنسا.. عودة مصطلح "الصبايحية" إلى الواجهة

تونس.. محنة الرئاسة واحتمال المجهول