04-مارس-2024
مشروع قانون تجريم التطبيع البرلمان

تعود الكرة من جديد إلى ميدان رئيس الدولة بخصوص مدى جديّته في دعم إصدار نص قانوني يجرّم الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

استدعى رفض السلطة السياسية لمصادقة الجلسة العامة بالبرلمان على مقترح قانون لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ممارسة رئيس الدولة قيس سعيّد لنفوذه المباشر، بعد تأكيده في كلمة متلفزة وقتها معارضته للمقترح باعتبار "أننا في حرب تحرير لا حرب تجريم"، وبأن "التجريم مصطلح غير موجود عنده على الإطلاق لأنه يعكس فكرًا مهزومًا". 

ولكن دعا الرئيس، في نفس الكلمة، لـ"الاستئناس بالفصل 60 من المجلة الجزائية المتعلق بجريمة الخيانة"، مقترحًا التنصيص على أنه "يعد خائنًا للشعب الفلسطيني كل من ارتكب جريمة الخيانة، وذلك مع ضرورة تعداد صور الخيانة بكل دقة والتنصيص على الجزاء الذي يترتب عن كل واحدة منها".

قدم  82 نائبًا مقترح قانون لـ"زجر الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني" ليمثّل اختبارًا جديدًا وحاسمًا لجديّة رئيس الدولة ومبدئيته في تجريم الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني

لم يبادر قيس سعيّد بتقديم مشروع قانون لتنزيل تصوّره التشريعي، على نحو دفع 82 نائبًا للمبادرة بتقديم مقترح قانون لـ"زجر الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني"، تعهّدت به لجنة التشريع العام بتاريخ 22 فيفري/شباط 2024. ليمثّل بذلك هذا المقترح اختبارًا جديدًا وحاسمًا لجديّة رئيس الدولة ومبدئيته في تجريم الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني.

 

 

  • مقترح قانون يوافق "توجيهات" الرئيس مبدئيًا

يظهر أن النواب أصحاب المبادرة عملوا، بداية، على اتباع "توجيهات" رئيس الدولة، التي أسّست، في الظاهر، لمعارضته لمقترح القانون السابق، وذلك انطلاقًا باقتراح تنقيح المجلة الجزائية لا إصدار قانون جديد. إذ تتكوّن المبادرة الجديدة من فصل وحيد يتضمن إضافة فقرة سادسة جديدة للفصل 61 من المجلة الجزائية الوارد في باب جرائم الاعتداء على أمن الدولة الخارجي. وثيقة شرح الأسباب أكدت بدورها أن هذا الخيار مأتاه هو "إكساء قدر عال من الانسجام بين الموقفين الرّسمي والشعبي للدّولة التونسية حتى يكون مقترح القانون أكثر استساغة وقبولًا ومعقولية".

يظهر أن أصحاب المبادرة عملوا على اتباع "توجيهات" الرئيس انطلاقًا من اقتراح تنقيح المجلة الجزائية لا إصدار قانون جديد إذ تتكوّن المبادرة من فصل وحيد يتضمن إضافة فقرة جديدة للفصل 61 من المجلة الجزائية الوارد في باب جرائم الاعتداء على أمن الدولة الخارجي

كما يظهر تأثّر جهة المبادرة بخطاب رئيس الدولة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنقضي على وجه الخصوص عبر تأكيدها أن خيار التنقيح هو "أكثر تقاربًا مع مفهوم الخيانة العظمى". وسعيّد في خطابه كان اعتبر أن "من يتعامل من العدو الصهيوني لا يمكن أن يكون إلا خائنًا وخيانته هذه هي خيانة عظمى".

وفي نفس هذا الإطار، لم يستعمل النص المقترح لفظ "التطبيع" الذي دائمًا ما يعبّر رئيس الدولة أيضًا عن رفضه له، معوّضين إياه بلفظين مرادفين له وهما "الاعتراف والتعامل" مع الكيان الصهيوني. 

مقترح قانون يظهر بذلك أنه يرفع المطبّات الأساسية التي وضعها سعيّد التي حالت دون دعمه للمقترح السابق لتجريم الاعتراف بالكيان الصهيوني. وهو رفع من النواب على سبيل انتظار دعم مأمول للمبادرة من رئيس الدولة، وإن كان المبدأ يقتضي حريّة النواب في صياغة مقترح قانون بحسب خياراتهم وبما ستنتهي إليه الأغلبية البرلمانية في نهاية المطاف، دون الحاجة لمسايرة رئيس الدولة في توجيهاته، خاصة وأن له المبادرة بتقديم مشروع قانون بحسب رغبته إن شاء.

لم يستعمل النص المقترح لفظ "التطبيع" الذي دائمًا ما يعبّر رئيس الدولة أيضًا عن رفضه له، معوّضين إياه بلفظين مرادفين له وهما "الاعتراف والتعامل" مع الكيان الصهيوني بما يرفع المطبّات الأساسية التي وضعها سعيّد التي حالت دون دعمه للمقترح السابق

 

نبل الغاية في مواجهة مضمون المقترح

تقترح المبادرة إضافة فقرة جديدة للفصل 61 المتعلّق بصور ارتكاب جرائم الاعتداء على أمن الدولة الخارجي، ولكنها إضافة واقعًا لجريمة جديدة. ينصّ المقترح على أنه "يعدّ مرتكبًا لجريمة الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين وأراض عربية أخرى كل شخص تونسي الجنسية زمن اقتراف الفعل تعمّد إقامة أو التوسط في إقامة علاقة مباشرة مع أي ذات طبيعية أو معنوية أو أي هيئة أو مؤسسة حكومية أو غير حكومية أو أي منظمة أو جمعية أو تنظيم ينتمي إلى الكيان الصهيوني".

وتضيف المبادرة: "تكون هذه العلاقة قائمة باقتراف أحد الأفعال التالية:

  • الاعتراف المعلن عموما بالكيان الصهيوني أو الإشادة به أو الدعاية له بأي وسيلة من وسائل الاتصال.
  • التواصل أو الاتصال المباشر الرامي إلى تحقيق معاملات مباشرة في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو العلمية أو الرياضية بمقابل أو بدونه مع إحدى الذوات التابعة للكيان الصهيوني المنصوص عليها بهذا الفصل.
  • المشاركة في التظاهرات أو الملتقيات أو المسابقات أو الحفلات الخاصة والعامة والمقامة من إحدى الذوات التابعة للكيان الصهيوني داخل الأراضي المحتلة أو خارجها".

وينصّ الفصل المقترح على قيام الجريمة ولو ارتكبها تونسيّ خارج الإقليم الوطني دون لزوم تجريمها في إقليم ارتكابها. وإجرائيًا، يختصّ وكيل الجمهورية بتونس العاصمة بإثارة التتبع كاختصاص المحكمة الابتدائية بالنظر فيها مع وجوبية التحقيق.

وتتبيّن شوائب الصياغة، في وهلة أولى، في استعمال عبارات غير قانونية عبر توصيف الكيان الصهيوني بأنه "الغاصب لأرض فلسطين وأراض عربية أخرى" وهو ما يتعارض مع ضوابط الصياغة القانونية. 

كما تجدر الملاحظة إلى تشديد أصحاب المبادرة على أن المقترح يأتي في إطار ما أسموه "مفهوم الخيانة العظمى" في المجلة الجزائية كما ورد في وثيقة شرح الأسباب، والحال أن جريمة الخيانة أوردها الفصل 60، وهو الفصل الذي أشار إليه رئيس الدولة سابقًا، وليس الفصل 61 المقترح تعديله في المبادرة المعروضة.

يظهر أن المبادرة أخذت بالملاحظات التي تعلقت بمقترحات قوانين سابقة بخصوص لزوم تجنّب العبارات الفضفاضة والتعميم بما يتعارض مع لزوم الدقة والتوضيح لضمان التطبيق الناجع للنص القانوني وتفادي التأويلات خارج الإرادة التشريعية

وتجدر الإشارة، في الأثناء، إلى أن التنصيص على وجوبية التحقيق في الجريمة مأتاه أن جريمة الفصل 61 تعدّ من قبيل الجنحة لا الجناية حال ارتكابها زمن السلم (عقوبتها السجن لمدة 5 سنوات)، مقابل تكييفها كجناية في صورة ارتكابها زمن الحرب (عقوبتها السجن لمدة 12 سنة). 

والمعلوم أن التحقيق وجوبي فقط في الجنايات ولكنه اختياري في الجنح. ويظهر أنه بالنظر لخصوصية هذه الجنحة، اختار أصحاب المبادرة وجوبية التحقيق، وهو خيار مقبول اعتبارًا للزوم استنفاذ الأعمال التحقيقية والاستقرائية اللازمة في هكذا جريمة.

وعلى المستوى المضموني، يظهر أن المبادرة أخذت بالملاحظات التي تعلقت بمقترحات قوانين سابقة بخصوص لزوم تجنّب العبارات الفضفاضة والتعميم بما يتعارض مع لزوم الدقة والتوضيح لضمان التطبيق الناجع للنص القانوني وتفادي التأويلات خارج الإرادة التشريعية. ولذلك حددت المبادرة ثلاثة أفعال ضمن دائرة التجريم، أولها الاعتراف العلني بالكيان أو الإشادة به أو الدعاية له بأية وسيلة اتصال. 

والفعل الثاني هو التواصل أو الاتصال المباشر الرامي لتحقيق معاملات مباشرة مع الكيان الصهيوني في عدد من المجالات، والواضح عبر التشديد على عنصر المباشرة في مناسبتين هو إقصاء الاتصالات غير المباشرة أو المعاملات غير المباشرة باعتبار صعوبة ضبط مفهومها وطرق إثباتها. إقصاء تظهر أيضًا غايته في تأمين مقبولية النص تجاه عديد الأطراف خاصة في الداخل. 

رغم النقائص في نص مقترح القانون، فهو يدفع عمومًا ومن جديد لتكريس مبدأ صياغة نص قانوني يجرّم التطبيع/الاعتراف/التعامل مع الكيان الصهيوني. وهو مبدأ طالما عملت كتل برلمانية، على مرّ المجالس النيابية بعد الثورة، على تركيزه دون نجاح

أما الفعل الثالث فهي المشاركة في الفعاليات المقامة من إحدى ذوات الكيان الصهيوني سواء داخله أو خارجه. وهو ما يعني أن دائرة التجريم لا تشمل المشاركة في الفعاليات المقامة من غير ذوات الكيان، على غرار المسابقات الرياضية التي تنظمها الاتحادات الدولية. وهو ما يأتي في سياق الأخذ أيضًا بملاحظات كانت لحقت بمقترحات سابقة، بترك خيار "المقاطعة" في هكذا صورة خاضعًا لحرية الرياضي التونسي في نهاية المطاف.

بيد أن المبادرة الحالية لم تستثنِ فلسطينيي الداخل على خلاف مقترح القانون السابق، وهي نقطة معيبة في المقترح ذلك أنه لا يمكن وضع الذوات أو الأشخاص من فلسطينيي الداخل والمعارضين للصهيونية في نفس مرتبة الذوات والأشخاص المنتمين للكيان الصهيوني بعمومه. 

والمعضلة أن الصيغة الحالية للمقترح تجرّم، على سبيل المثال، التواصل مع القوى المدنية والثقافية داخل الخط الأخضر المقاومة للاحتلال الصهيوني. استثناء من المرجّح تكريسه في الصيغة النهائية للمقترح من اللجنة المختصة، وهي للملاحظة لجنة التشريع العام، والحال كان قد تمّ تعهيد لجنة الحريات بمقترح قانون تجريم التطبيع العام الفارط.

 

  • الكرة في ميدان رئيس الدولة

رغم النقائص في نص مقترح القانون، فهو يدفع عمومًا ومن جديد لتكريس مبدأ صياغة نص قانوني خاصّ يجرّم التطبيع/الاعتراف/التعامل مع الكيان الصهيوني. وهو مبدأ طالما عملت كتل برلمانية، على مرّ المجالس النيابية بعد الثورة، على تركيزه دون نجاح بسبب رفض السلطة التنفيذية على وجه الخصوص بمسوّغات مهما اختلفت، كان منتهاها تعطيل تمرير هذا الاستحقاق التشريعي. 

قيس سعيّد الذي طالما رفع شعار أن الاعتراف بالكيان الصهيوني هو "خيانة عظمى"، لم يشذ واقعيًا عن غيره عبر ممارسته لدور مباشر في تعطيل تمرير مقترح قانون لتجريم التطبيع تم التسريع في إحالته على الجلسة العامة بعد 7 أكتوبر

رئيس الدولة قيس سعيّد الذي طالما رفع شعار أن الاعتراف بالكيان الصهيوني هو "خيانة عظمى"، لم يشذ، واقعيًا، عن غيره عبر ممارسته لدور مباشر في تعطيل تمرير مقترح قانون تم التسريع في إحالته على الجلسة العامة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وكانت قد رفضت كل من وزارة الخارجية ووزارة العدل الاستجابة قبله لطلبات سماعها ضمن أعمال اللجنة المختصة، بما كان يشي منذ البداية بموقف الرفض من السلطة السياسية.

 

 

وكان رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة قد أفاد صراحة بأنّ رئيس الدولة أسرّ له أن مقترح القانون وقتها يضرّ بمصالح تونس في العلاقات الدولية. الأمر الذي أحرج سعيّد الذي وإن لم يُخفِ فعلًا رفضه لإصدار قانون تجريم التطبيع وقتها، لكنه اقترح تنقيح المجلة الجزائية. وكان يُنتظر أن يبادر رئيس الدولة بتقديم مشروع قانون بنفسه، وهو ما لم يتحقق، بما دفع مجموعة نواب الآن لتقديم مبادرة تشريعية تتوافق بحسب الظاهر مع "توجيهات" الرئيس.

يمثّل مقترح القانون المعروض اختبارًا جديدًا للخطاب السيادي لرئيس الدولة بدرجة أوليّة، دون اختبار مدى التزامه بتنزيل شعار "الخيانة العظمى" ضد الكيان الصهيوني تشريعيًا وعلى أرض الواقع

تباعًا، تعود الكرة من جديد إلى ميدان رئيس الدولة بخصوص مدى جديّته في دعم إصدار نص قانوني يجرّم الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني. وهو الأمر الذي سيتبيّن في أعمال اللجنة التشريعية انطلاقًا بمدى قبول وزارة الخارجية لتقديم موقفها من عدمه مع الإشارة لامتناعها عن قبول الدعوة في المرة الفائتة، وذلك دون عن جرأة تحديد الموقف الرسمي. وهو أساسًا مبدأ صياغة نصّ يجرّم الاعتراف والتعامل مع الكيان بغض النظر عن الاختلافات الممكنة بشأن دائرة الأفعال المجرّمة.

ورئيس الدولة أيضًا لطالما يشدّد في خطابه السياسي على مبدأ السيادة كاستقلالية القرار السياسي الداخلي وعدم الخضوع لأي ضغوطات أو تأثيرات من أي جهة داخلية أو خارجية كانت. وفي هذا الإطار أيضًا، يمثّل مقترح القانون المعروض اختبارًا جديدًا كذلك للخطاب السيادي لرئيس الدولة، وذلك، بدرجة أوليّة، دون اختبار مدى التزامه بتنزيل شعار "الخيانة العظمى" ضد الكيان الصهيوني، تشريعيًا وعلى أرض الواقع.


صورة