02-أكتوبر-2019

المرشحان لا يحظيان بدعم جزء لا يُستهان به من النّخب السياسيّة والإعلاميّة (الشاذلي بن إبراهيم/Getty)

 

في خضمّ الانتخابات الرئاسيّة لقيت الدّعوات لإصلاح النّظام السياسيّ رواجًا لدى عدد كبير من المترشّحين للرئاسيّة، وشكّلت بالنسبة لجزء لا يُستهان به العمود الفقريّ للبرنامج الانتخابيّ. وإذا كان فحوى التغييرات المنشودة من طرف مرشّحين على غرار عبد الكريم الزبيدي وغيره من وجوه ممّا يُعرف بـ"العائلة الندائيّة" يتمثّل في العودة إلى نظام رئاسيّ قويّ يكون فيه الرئيس صاحب القول الأوّل في السلطة التنفيذيّة ويحاسبه البرلمان، فإنّ الدّور الأوّل للانتخابات الرئاسيّة حوّل وجهة هذا التّغيير المنشود إلى نظام أكثر لا مركزيّة ومحلّية مُمثّلًا في مُقترح قيس سعيّد.

 الواقع العمليّ يثبت أنّ الوصول إلى قصر قرطاج سيكون أشبه بالمحنة أيّا يكن المنتصر في الدّور الثاني ومن المُحتمل أن تؤدّي المحنة إلى أزمة شرعيّة وأزمة نظام لا مجرّد أزمة ظرفيّة

اقرأ/ي أيضًا: زلزال الانتخابات في تونس من منظور أسئلة الأخلاق والسياسة والدّولة

ومع إعلان نتائج الدّور الأوّل وصعود مرشّحَين لا يحظيان بدعم جزء لا يُستهان به من النّخب السياسيّة والإعلاميّة، بدا أنّ تلك الأصوات الدّاعية لاستعادة دور دستوريّ قويّ للرئيس قد خفتت، بل إنّ بعضها صار يذكّر بمحدوديّة صلاحيّات الرئيس ويدعو إلى إعادة التوازن في الانتخابات البرلمانيّة.

وإلى حدّ مّا يمكن اعتبار أنّ موقف النّخب السياسية إزاء دستور 2014 والنّظام السياسيّ الذي أسّس له ينطوي على مفارقة: فبقدر ما ينزع البعض إلى صورة الرئيس القويّ ويتطلّعون لترجمة ذلك دستوريًا، فإنّ الواقع العمليّ يثبت أنّ الوصول إلى قصر قرطاج سيكون أشبه بالمحنة أيّا يكن المنتصر في الدّور الثاني. وإذا كان من المُحتمل أن تؤدّي المحنة إلى أزمة شرعيّة وأزمة نظام لا مجرّد أزمة ظرفيّة، فإنّ تونس قد تكون بصدد العبور لما هو أخطر من أزمة 2013 التي تُوّجت بجائزة نوبل للسلام.

سلطة الرئاسة أم محنة قرطاج؟

تبدو المؤشّرات الأولية لمشهد الرئاسة في الخماسيّة القادمة غير مطمئنة. فالمتأهّلان إلى الدّور الثاني للانتخابات الرئاسيّة، أي المرشحان قيس سعيّد ونبيل القروي، لا يمثّلان أكثر من ثلث أصوات مَن شاركوا في الانتخابات. وبهذا المعنى فإنّ نتيجة الدّور الثاني لا يجب أن تُخفي هذا المُعطى والهشاشة المُحتملة للقاعدة الشعبيّة السياسيّة للرئيس القادم أيّا يكن.

وفي كلتا الحالتين فإنّ تونس ستجد نفسها إزاء رئيس جمهوريّة لا يطمئنّ قسمًا مهمًّا من التّونسيّين إلى شرعيّته، وهو ما سيجعل ممارسة مهامّ الرئيس أقرب للمحنة منها إلى السلطة. ففي حالة مرور نبيل القروي، سنكون إزاء سجين تحوم حوله شُبهات فساد ويتّهمه منافسوه باستغلال العمل الخيريّ والإعلام لحشد الدّعم. أمّا في حالة قيس سعيّد فإنّ خطاب التّشكيك بدأ يحتلّ المنابر الإعلاميّة الرئيسيّة منذ اليوم الأوّل، وهو تشكيك يتمحور حول ثلاث نقاط رئيسيّة: فرضيّة مؤامرة سيبيرنية لتوجيه الرأي العامّ لصالحه، شرعيّة الدّور الثاني بالنّظر إلى وجود منافسه في السّجن وأخيرًا وليس آخرًا غموض حول الشّخص ومحيطه و"المجموعات الأيديولوجية" الدّاعمة له.

ستجد تونس نفسها إزاء رئيس جمهوريّة لا يطمئنّ قسمًا مهمًّا من التّونسيّين إلى شرعيّته وهو ما سيجعل ممارسة مهامّ الرئيس أقرب للمحنة منها إلى السلطة

وفي حالة المرشّح قيس سعيّد وبالنّظر إلى حظوظه الوافرة، يبدو أنّ سرديّة التّشكيك -لا مجرّد المعارضة- تأخذ تدريجيًا حيّزًا مهمًا في الخطاب الإعلامي السياسيّ. ومع دعم حركة النّهضة وائتلاف الكرامة وإلى حدّ مّا حزب التيار الديمقراطي، يبدو أنّ شيئًا ما من مشهد 2011 – 2014 بصدد إعادة التشكّل على مستوى رئاسة الجمهوريّة، وما يُخشى هو أن تتحول الرئاسة أو يتمّ تحويلها إلى مجال أزمة شرعيّة سياسيّة ومحنة تاريخيّة لمن يكون على رأسها. ورغم حرص المرشّح قيس سعيّد على طمأنة الطّبقة السياسية بتعدّد أطيافها، فإنّ التجربة تبرهن على محدودية النوايا والرسائل على أهمّيتهما، وتبيّن أنّ التاريخ قادر.

وإذا كان الدّستور التونسيّ لا يُعطي لرئيس الجمهوريّة صلاحيّات تنفيذيّة واسعة، فإنّ سلاسة العلاقة بينه وبين الحكومة والبرلمان ضروريّة لتأمين السير العاديّ لدواليب الدّولة ويبدأ ذلك بالتوافق حول وزيري الدفاع والخارجيّة في بداية العهدة كما هو معلوم. وهو ما يعني أنّ تشكيكًا مستمرًا في شخص الرئيس أو شرعيّة الرئاسة سيكون عامل عدم استقرار جدّي في البلاد بمعزل عمّا يعتبره البعض محدوديّة صلاحيّات رئيس الجمهوريّة.

اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات الرئاسية 2019.. انتخابات بلا نقاش ودون أفكار؟

المأزق المُحتمل للنّظام السياسيّ.. عود على بدء؟

بالنّظر إلى أهمّية دور البرلمان في النّظام السياسيّ الذي أقرّه دستور 2014، يمكن افتراض أنّ البرلمان قد يكون مجال تعديل للمخاطر المتعلّقة بسباق الرئاسة، بيد أنّ هذه الفرضيّة تبدو شديدة الهشاشة سواء من زاوية التشرذم المحتمل للكتل البرلمانية وشبح عدم القابليّة للحكم باعتباره ظاهرة تلازم الديمقراطيات الراهنة كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق، أو من زاوية التاريخ القريب للبرلمان التونسيّ الذي كثيرًا ما انحصر دوره في المفاصل الرئيسيّة في رجع الصّدى لتوافقات كبرى في إطار حوارات المنظّمات الوطنيّة (الرباعي الراعي للحوار) أو حوار قرطاج. لكن هل يمكن توقّع نفس الأدوار لنفس الفاعلين في المرحلة القادمة؟

  تذهب تونس تدريجيّا إلى أزمة قد تكمن خطورتها في طابعها الهيكليّ، أي فيما هو متعلّق بشرعيّة ما قد تتمخّض عنه الانتخابات والمسار برمّته

أوّلا طرأت على هذه المنظّمات الوطنيّة، الاتّحاد العامّ التونسي للشّغل والاتّحاد التونسي للصناعة والتّجارة على وجه التّحديد، تغييرات داخليّة مهمّة على مستوى الصفّ القياديّ الأوّل. وإلى حدّ كبير بدا أنّ كلا المنظّمتين يصعب توصيفهما بالحياد إزاء مستجدّات الساحة السياسية. إذ أشار النقابي لسعد اليعقوبي إلى دعم اتّحاد الشغل للزبيدي في الدّور الأوّل، أمّا بالنّسبة لاتّحاد الصناعة والتّجارة فيبدو أنّه في الحدّ الأدنى غير مرتاح لسجن المرشّح نبيل القروي فضلًا عن جملة العلاقات الماليّة والإعلاميّة التي باتت تُوصّف في سياق الاستقطاب الرئاسي بـ"السيستام".

وإذا ما أضفنا إلى هذه الاعتبارات التوتّرات الحاصلة في قطاعات حيويّة أخرى على غرار القضاء والمحاماة، وهي توتّرات ترتبط بمجريات العمليّة السياسية (قضيّة الاغتيالات، قضيّة المرشّح نبيل القروي نفسه)، فإنّه لا شيء يفيد بإمكانيّات استيعاب صدمات الأزمة السياسية من داخل المنظّمات الوطنيّة الكبرى.

عمليّا تذهب تونس تدريجيّا إلى أزمة قد تكمن خطورتها في طابعها الهيكليّ، أي فيما هو متعلّق بشرعيّة ما قد تتمخّض عنه الانتخابات والمسار برمّته، لكنّها هذه المرّة قد لن تجد رباعيًا راعيًا للحوار، وقد لن تجد أصلًا أطرافًا مستعدّة أو لها قابليّة للحوار، وقد لن تجد فاعلين إقليميّين من مصلحتها نزع فتيل الأزمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بعد نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية التونسية.. حركة النهضة إلى أين؟

هل تنجُو نتائج الانتخابات الرئاسيّة من التشكيك والتخوين والمواقف الاحتجاجيّة؟