03-يونيو-2022
راشد الغنوشي

الغنوشي سيبقى طوق نجاةٍ لأحزاب منتفخة (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

مقال رأي

 

منذ دخوله معترك السياسة التونسية سنة 1969 كان راشد الغنوشي -حاضرًا ومُغيَّبًا- فاعلًا سياسيًا بارزًا وشكّل طوق نجاة لخصومه قبل رفاق دربه. شكّل الرجل منذ تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي، ورقة تستعمله السلطة، وهو معارض، وتستعمله المعارضة وهو يتربع كرسي الحكم ظاهرًا أو خفيًّا في محاولة لكسب الشارع.

ما فتئ الغنوشي يشكل منذ تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي ورقة تستعمله السلطة وهو معارض، وتستعمله المعارضة وهو في الحكم ظاهرًا أو خفيًّا في محاولة لكسب الشارع

مع بداية تهاوي نظام بورقيبة، وتشتت السلطة بين الدوائر النافذة في قصر قرطاج وخاصة منها سعيدة ساسي- المغيبة تاريخيًّا- من جهة، ووسيلة بورقيبة ومحمد مزالي من جهة أخرى، تحركت أذرع الدولة العميقة للتغطية على هذه الحرب الهادئة الضروس عبر شن حملات اعتقال واسع كان رأسها "راشد الغنوشي"، رغم وعد الرئيس في مؤتمر 1981 الواعد بالانفتاح. وقدمت وسائل الإعلام الخبر ببعض البهارات اللازمة لصرف النظر عن كواليس قرطاج.

ومع مزيد تعفن الوضع اقتصاديًا واجتماعيًا خصوصًا بعد انتفاضة 1984 المسماة "انتفاضة الخبز" فتح الرئيس بورقيبة باب التساهل مع الحركة في مغازلة للشارع ومحاولة تهدئته.

كلما وجد النظام نفسه في أحراج في علاقة بأزمة مالية أو اجتماعية أو ربما أخلاقية برزت ورقة الإرهاب وهيئة الدفاع عن الشهيدين لتصرف النظر عن هذا العجز بطرح اسم الغنوشي واتهامه دون أي دليل واضح

وباقتراب لحظة الحسم، ونجاح جناح ساسي بمعاضدة من بن علي -الذراع المخابراتي للقوى الأجنبية- في الإطاحة بوسيلة بورقيبة سنة 1986 عبر تطليقها من بورقيبة وهي في الولايات المتحدة الأمريكية ومن قبلها بأشهر بمزالي. عاد استغلال ملف الحركة للواجهة فوجهت لها تهم الإرهاب والمساس بالبناء البورقيبي "المقدس" لتشن حملات أمنية انتهت بقرارات إعدام للغنوشي رأسًا.

وظل الملف على طاولة الدولة العميقة، فكانت أولى خطوات بن علي أيامًا بعد سطوه على كرسي الرئاسة، الإفراج عن راشد الغنوشي والوعد بفتح صفحة جديدة تقطع مع سياسة النظام السابق. وعندما تمكن بن علي من أجهزة الدولة وانطلق في تنفيذ مخطاطاته الكليانية الفاشية لم يجد أفضل من حركة النهضة، الموصومة إعلاميًا بالإرهاب، لتكون جسر عبور نحو التضييق على الحريات. ومع تغييب الصوت الإعلامي المعارض وهشاشة التفكير العقلاني التونسي الذي لا يعدو أن يكون مجرد تفكير "خبزيست" كان الأمر أسهل وأبسط.

عندما أحسّ سعيّد بالعزلة أجبر وزيرة العدل على منع الغنوشي من السفر للتغطية على فشله في إدارة الأزمة المالية والاجتماعية المحيطة بكل الإقليم التونسي

ومنذ تلك اللحظة تحول تفكير راشد الغنوشي فنجح في مقايضة مع نظام بن علي انتهت بمغادرته البلاد نحو بريطانيا حيث انطلق في ممارسة أنشطة اقتصادية، جعلت من بن علي يعتقد أن شبح الديمقراطية ولّى ولن يعود. فكانت الحركة حينها مختزلة في شخص الغنوشي.

وبعد الثورة التونسية، كان للرجل الأثر الكبير في البناء الديمقراطي للدولة. فتزلفت له كل الأقلام في محاولة لاستمالته ليشفع له عمّا كتبوه وفعلوه. لكن سياسة التسامح التي انتهجها الغنوشي حينها كانت سببًا مباشرًا لتعود شخصيته أصلًا تجاريًا لأعدائه. فبعد اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي انطلقت حملات شيطنة للرجل وتشويه لحقائق عديدة انتهت بابتداع سبر آراء حاقد تحت عنوان "أكثر شخصية يكرهها التونسي".

عرف راشد الغنوشي أن حصر الصراع السياسي في شخصه سيسمح لحزبه وللاتجاه السياسي الذي يتبناه بالتوسع أكثر شعبيًا وحتى خارجيًا

ومع صعود الباجي قايد السبسي واعتلائه سدة الحكم بقي الغنوشي شبحًا يخيم على الدولة العميقة. فوقع استغلال اسمه للتغطية على عجز "أكاديمي التجمع" و"الوظيفيين" وغيرهم من "الثقفوت الأعرج" على إيقاف عجلة الديمقراطية. فكلّما وجد النظام نفسه في إحراج مالي أو اجتماعي وربما أخلاقي ظهرت ورقة الإرهاب وهيئة الدفاع عن الفقيدين لتصرف النظر عن هذا العجز عبر طرح اسم الغنوشي واتهامه دون أدلة واضحة وصريحة. حتى قيس سعيّد عندما أحس بالعزلة أجبر وزيرة العدل على منع الغنوشي من السفر لإخفاء فشله في إدارة الأزمة المالية والاجتماعية المحيطة بكل الإقليم التونسي.   

يبدو أن الغنوشي مدرك تمامًا للعبة السياسية، وتلميذ جيد في المدارس الفكرية، متشبع بالمفاهيم السياسية. كيف لا وهو خريج شعبة الفلسفة ومؤلف لكتب فلسفية تناولت أحد أهم المواضيع الهووية وهي الإسلام حاضرًا في علاقة بالديمقراطية كمفهوم فلسفي غربي.  فقد عرف الغنوشي أن حصر الصراع السياسي في شخصه سيسمح لحركته وللاتجاه السياسي الذي تتبناه بالتوسع أكثر شعبيًا وحتى خارجيًا.

سقوط الغنوشي لن يعني سقوط النهضة بقدر ما قد يعني نهاية حتمية لخصومه فبفقدان سبب الوجود وسبب الاستمرار لن تكون هذه الأحزاب، التي تبنت خطاباتها مساوئ النهضة دون أي طرح جديد، قادرة على الاستمرار

فالمراقب للمشهد السياسي يستطيع ببساطة أن يلاحظ جمود الحركات المعادية -إلى حدود الإقصاء-. فالاتجاه الشيوعي مثله الهمامي منذ عهد بن علي. أما باقي الاتجاهات اليسارية فاختزلها أحمد نجيب الشابي، المرزوقي، عبو، الشواشي، السبسي. ولم تستطع هذه الشخصيات أن تسلم المشعل لقيادات جديدة متجددة لشخصنتها للصراع السياسي وتحويلها لأحزابها لهراوات ومعاول هدم لضرب الغنوشي. في حين تفرغ الغنوشي شخصًا لهذا الصراع وترك أجهزة الحركة تكون أجيالًا جديدة وتصعد قيادات مختلفة. فالملاحظ أن حركة النهضة، إعلاميًا، قدرت على تنويع مصادحها فتجد البحيري متحدثًا أو البراهمي أو الخميري، بالإضافة إلى المكي وديلو والبرعومي (قبل استقالتهم من الحزب) وغيرهم من الأصوات التي صقلتها مراكز التكوين الحزبي للحركة.

ما يمكن استنتاجه أخيرًا، أن سقوط الغنوشي لن يعني سقوط حركة النهضة ولا حتى تقهقر الإسلام السياسي بقدر ما سيعني نهاية حتمية لخصومه، فبفقدان سبب الوجود وسبب الاستمرار لن تكون هذه الأحزاب التي تبنت خطاباتها مساوئ النهضة دون طرح جديد قادرة على الاستمرار. الغنوشي سيبقى طوق نجاة لأحزاب منتفخة. كما سيبقى معادلة صعبة لن يحلها سوى "الغنوشي جنيور"، سياسي شاب يصعد باتجاه سياسي ويواجه الغنوشي مواجهة صلبة بعيدًا عن المعارك الشخصية. صراع يكون أساسه البرامج ومراكز التكوين السياسي والحزبي والحشد الجماهيري بعيدًا عن الشعبوية.

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"