مقال رأي
"المرور بقوة".. يبدو أن التعبير مناسب لوصف الملامح الأولى "للجمهورية الجديدة" في تونس كما يحب أن يطلق عليها الرئيس التونسي قيس سعيّد. لا يأتي التعبير المعتمد أعلاه مصادفة أو بشكل انطباعي دون حجج أو شواهد، بالعكس تتضافر عناصر عدة لتأكيده.
حادثة "التعيين رغم الرفض" دعمت فكرة تروج منذ فترة وهي أن "المرور بقوة" هو أحد عناوين هذه المرحلة في تونس لا ريب
في البدء، أعلن سعيّد في مرسوم رئاسي مساء 20 ماي/أيار 2022 بشكل غير تشاركي عن تكوين هيئة ستؤسس لجمهورية جديدة في تونس تتضمن لجانًا استشارية اقتصادية وقانونية وأخرى للحوار مع توضيح قائمة المشاركين وإقصاء لافت للأحزاب وعديد المكونات وتقليص لدور أخرى.
كان لافتًا بشكل أكبر تتالي الرافضين للمشاركة من المدعوين وبدا للبعض غريبًا أن لا يستشير سعيّد من سبق أن عينهم في مناصب ضمن هيئة "الجمهورية الجديدة" وكلفهم بمهام، ولكن الأكثر جذبًا للانتباه هو إعلانه في أمر رئاسي ليل 25 ماي/أيار الجاري عن قائمة المشاركين بالأسماء، دون أي مراعاة لمن رفضوا أو امتنعوا أو اعتذروا. ربما لا يذكر التاريخ الحديث لتونس موقفًا مشابهًا مطلقًا.
لكن حادثة "التعيين رغم الرفض" (ولا نعلم بعد هل سيكون لتواصل رفض المشاركة أي استتباعات/عقوبات الخ)، دعمت فكرة تروج منذ فترة وهي أن "المرور بقوة" هو أحد عناوين هذه المرحلة في تونس لا ريب.
في الحقيقة، محاولات إثناء سعيّد عن بعض المسائل في مسار "قرارات 25 جويلية" ليس جديدًا أو تعديل وجهته في مسائل بعينها أيضًا، وهي محاولات صادرة غالبًا عن داعمين له، والذين قد تحرجهم بعض مواقفه وخياراته خاصة في مسائل تخص الديمقراطية والحريات والتعددية لكنه لا يذكر لسعيّد أن عدل عن موقف أعلن عنه حتى لو لاقى موجة رفض واستنكار عالية.
بعد المرسوم الرئاسي عدد 30 لهذا العام، الذي أنشأ وفقه سعيّد هيئة تأسيس "الجمهورية الجديدة"، منح الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة الشغيلة الفاعلة تونسيًا) ما يشبه المهلة لسعيّد تاركًا اجتماع هيئته الإدارية مفتوحًا ومصرحًا عبر أبرز قياداته أن "تعديل بعض الأمور من شيم الكبار"، لكن الرئيس الذي قلص دورهم المقترح في الحوار بشكل لافت، لم يتزحزح في خياراته قيد أنملة.
كانت مبادرة ائتلاف صمود (وهو ائتلاف جمعيات وشخصيات، خاصة من مجال القانون من داعمي سعيّد) ليل 24 ماي/أيار والتي أطلقوا عليها "مبادرة لحل الأزمة" وبالنظر لتوقيتها ونصها، أقرب لمبادرة لتجميع بعض الأطراف حول الرئيس من خلال صياغة مرسوم تكميلي للمرسوم 30 يعطي دورًا لاتحاد الشغل وبعض الأحزاب مع ترك الكلمة الحسم للرئيس، لكنه رفضها ضمنيًا بإعلانه نصوص دعوة الناخبين للاستفتاء وقائمة المشاركين دون أي تعديل.
في إطار ذات المحاولات لكسب الوقت وتجميع أطراف سياسية ومدنية حوله، صرحت قيادات حزبية من أحزاب داعمة لتوجه سعيّد من ضمنها أمين عام حركة الشعب القومية زهير المغزاوي أن الرئيس التقاه وأكد له أنه لن يتم إقصاء الأحزاب من العمل على "الجمهورية الجديدة"، لكن أوامر ومراسيم ليلة 25 ماي/أيار جاءت رسميًا بعكس ذلك، وذلك رغم تصاعد الانتقادات محليًا وخارجيًا للتوجه الذي ذهب فيه في إعداد الدستور الجديد والاستفتاء عليه وكامل مسار "الجمهورية الحديدة".
خارجيًا أيضًا، طلبت قوى دولية من سعيّد في مناسبات عديدة تعديل مساره وأبدت حتى استعدادًا لتفهم اختياراته في 25 جويلية/يوليو الماضي مقابل إعادة توزيع السلطات وانتخابات مبكرة وغير ذلك من القرارات نحو مسار ديمقراطي، وكانت قد بادرت بالترحيب بحكومة نجلاء بودن التي عينها سعيّد ومكنها من صلاحيات محدودة، إلا أن الرئيس في تونس لم يجر أي تعديل ذي بال على مساره السياسي، وكل ما اكتفى به هو قبول ضمني "غير مؤكد" بمسار ما تطلق عليه المنظمات المالية الدولية "الإصلاحات الاقتصادية الضرورية" بالنظر للمأزق المالي الحاد الذي تعيشه تونس، والتي تلقى معارضة حادة من اتحاد الشغل.
أما سياسيًا، فخطوات الرجل ثابتة رغم وابل الاحتجاجات الأسبوعية بقيادة مبادرات "مواطنون ضد الانقلاب وجبهة الخلاص الوطني" ورغم المواقف الدولية الحادة المتصاعدة تجاه خياراته.
"المرور بقوة".. قد يكون تكثيفًا منطقيًا جدًا لطريقة عمل سعيّد على "جمهوريته الجديدة"، حتى أن الشخص الذي كلفه بتنسيق عمل اللجان داخل لجنة "الجمهورية الجديدة" لم يتردد بالإجابة عن رفض عمداء كليات القانون المشاركة في اللجان بالقول "الي حضر يززي" بمعنى "العمل بمن حضر".
رفض مشاركة البعض وغياب عناصر مهمة من اللجان وغياب كامل تركيبة اللجنة القانونية المكلفة بكتابة مشروع الدستور، لم يدفع سعيّد لتعديل توجهاته والمسار الذي حدده سابقًا
حتى رفض المشاركة وغياب عناصر مهمة من اللجان وغياب كامل تركيبة اللجنة القانونية (عمداء كليات الحقوق) المكلفة بكتابة مشروع الدستور، لم يدفع سعيّد لتعديل توجهاته والمسار الذي حدده سابقًا.
صار جليًا أكثر من أي وقت مضى أن للرئيس برنامجًا وخطة هو غالبًا ما صار يتداول تحت مسمي البناء القاعدي وهو ذاهب في تفعيله بكل عناصره من إقصاء للأحزاب ومختلف الأجسام الوسيطة أو في أفضل الأحوال تقليص دورها ومركزية للقرار عند رئاسة الجمهورية وانتخابات تشريعية على الأفراد وسحب للوكالة إلى غير ذلك.
تجد تونس نفسها أمام استفتاء في 25 جويلية القادم على دستور جديد لا تبدو قوى المعارضة قد حسمت موقفها منه، بين فرضية المشاركة بـ"لا" أو "المقاطعة" وسلبيات كل خيار في المقابل يعرف الرئيس خطته ويطبقها متجاوزًا كل أصوات الرفض
هكذا، تجد تونس نفسها أمام استفتاء في 25 جويلية/يوليو القادم على دستور جديد لا تبدو قوى المعارضة رغم توسعها وتنوعها قد حسمت موقفها منه، بين فرضية المشاركة بـ"لا" أو "المقاطعة" وسلبيات كل خيار. في المقابل، يعرف الرئيس خطته جيدًا ويطبقها حرفيًا دون تراجع متجاوزًا كل أصوات الرفض على اختلافها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"