31-مايو-2022
حرية بلعيد

الملاحظ واقعيًا أن قطيعة واضحة صارت بين الشارع السياسي والشارع الشعبي في تونس (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي

 

نشأت الفلسفة، وهي منبع العلوم، منذ القدم وكان هدفها البحث عن نظام يختزل العالم ويحلله منطقيًا بتفكير يستند إلى العقل والرياضيات، إلى الحسابات والاستنتاجات والاستشراف... ونجح الفلاسفة منذ أفلاطون وأرسطو وصولًا إلى نيتشه وكانط وفلاسفة العقد الاجتماعي والفصل بين السلط إلى تحقيق هدفهم وفسروا العالم من منظور عقلاني لينتجوا نظريات تحدد الكون وتجسد ملامحه وتغوص في أعماقه. لكن الفلسفة وهي إغريقية النشأة لم تدرس في الظاهر الحالة التونسية-القرطاجنية وقتها، واعتقدت أنها تخضع إلى ذات النظام كسائر الأمم والشعوب. فكانت تونس خروجًا عن نص الكون والسردية المنطقية.

فمن المنطلق الدستوري، تستوجب الأزمات الدستورية منطقيًا التقاء أطراف الأزمة على طاولة –عادة ما تكون مستديرة- بحثًا عن حل ضمن الدستور. ويتسم هذا الحل بإجماع من حيث مصدره ومن حيث مآلاته.

رغم التململ الذي يستطيع أي شخص أن يلاحظه من الجموع الشعبية سواء حملت تفكيرًا سياسيًا أو كانت من عوام الناس إلا أن ولا جبهة سياسية –حتى تلك المؤيدة– استطاعت أن تستثمر بفاعلية في الأوساط الشعبية

إلا أن الحالة التونسية شكلت استثناءً، حيث أن الرئيس التونسي قيس سعيّد ليلة "التحول المبارك2" أعلن وحده عن حل لم يُصغ بين أطراف سياسية ولا حتى على طاولة مستديرة. حيث خرج الرئيس في ساعة متأخرة من الليل، في مشهد درامي يذكر الجميع بصورة البطل الذي يأتي في اللحظة الأخيرة لينقذ الموقف. وكان محاطًا بقيادات سامية من المؤسستين الأمنية والعسكرية مما يوحي أن حل ليل الـ25 من جويلية/يوليو 2021 لما يكن حلًا سياسيًا بل كان حلًا فرضته القوة الصلبة للدولة ونفذته. حتى أن الحل الذي استند إلى الدستور كما قال الرئيس، لم يكن محل اتفاق ليس فقط سياسيًا بل حتى أن المواقف الأكاديمية كانت متباينة.

فقد اتفق عدد من الخبراء الدستوريين على أن الفصل يتحدث عن الحالة الاستثنائية وأن الخطر الداهم كان البرلمان لذلك فمن الضروري أن تكون الاجراءات موضوعوها البرلمان، في حين رأى رأي أكاديمي آخر أن تطبيق الفصل 80 خاطئ إذ أنه لم تقع استشارة المحكمة الدستورية- الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وخالف حالة الانعقاد الدائم لمجلس نواب الشعب.

المفترض سياسيًا أن معارضة الأحزاب مع تململ واضح داخل الاتحاد العام التونسي للشغل كانت لتدفع الرئيس إلى إعادة النظر في سياساته، لكن المراسيم الرئاسية أثبتت العكس

ومن الناحية السياسية، فإن تلاقي الأطراف السياسة سوى منذ اللحظات الأولى أو بالتحاقها بالركب، تتبعه تعبئة شعبية ومع اتساع دائرة المعارضة الحزبية والنقابية لمسار الرئيس كان من المفترض أن تتسع دائرة المعارضة الشعبية للرئيس التونسي، ومن المفترض أيضًا أن التعبئة التي دعت لها مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" ومن ثم "جبهة الخلاص الوطني" كانت أكثر اتساعًا. لكن الملاحظ واقعيًا أن قطيعة واضحة صارت بين الشارع السياسي والشارع الشعبي. ورغم التململ الذي يستطيع أي شخص أن يلاحظه خلال تعامله اليومي من الجموع الشعبية سواء حملت تفكيرًا سياسيًا أو كانت من عوام الناس إلا أن ولا جبهة سياسية –حتى تلك المؤيدة– استطاعت أن تستثمر بفاعلية في الأوساط الشعبية.


الأزمة السياسية

وعجزت جميع الأطياف عن تشكيل جبهة ضغط حقيقية في أي اتجاه. إضافة إلى أن المفترض، سياسيًا، أن معارضة الأحزاب مع تململ واضح داخل الاتحاد العام التونسي للشغل –الفاعل السياسي والاجتماعي الأقوى على الساحة– كانت لتدفع الرئيس إلى إعادة النظر في سياساته. لكن المراسيم الرئاسية وخصوصًا الأخيرة المتعلقة بالهيئة الاستشارية برئاسة "الصادق بلعيد " والتي عبر فيها الرئيس عن مضيه قدمًا في مشروعه دون أي هوادة مدرجًا أسماء عبروا بصراحة عن رفضهم للدخول في لجنة اعتبروها صورية، أثبتت العكس.

أما جيوستراتجيًا، فالمواقف التي تتخذها القوة العظمى عالميًا أو القوى الوازنة إقليميًا، عادة في القضايا التي تمس أمنها واستقرارها، تكون واضحة مع قابليتها للتعديل وفق التغيرات. لكن الإدارات الإقليمية لم تحسم بشكل واضح في موقفها من القضية التونسية. فرغم الرفض الذي عبرت عنه مجموعة السبع والبيان الذي أصدره نواب بالكونغرس الأمريكي وتهديد إدارة بايدن بقطع المساعدات العسكرية ومواقف الدول العربية ذات المصلحة المشتركة وآخرها الموقف الجزائري فالقرارات والمواقف بقيت مجرد حبر على ورق وعبرت كخبر طبيعي في نشرات الأنباء. ولم يكن لها أثر واقعي سوى استغلالها من طرف رئيس "الجمهورية الجديدة" في تونس لضرب معارضيه بتهم العمالة، وهي التهم الأكثر رواجًا لجلب التعاطف في المنطقة العربية.

البناء الخارج عن المنطق لن تكون له سوى نتائج غير منطقية، فمن ينتظر خروج القيادة العسكرية-الأمنية بالبيان رقم واحد فهو واهم شأنه شأن من يجزم بعدم حدوثه

حتى أن علم الاجتماع، ورغم نشأته التونسية، لم يستطع أن يحتوي تونس ضمنه. فنظرية ابن خلدون بمدنية الإنسان خالفت الطبع الأناني ذا الغطاء المدني المستشري داخل المجتمع التونسي. فالتونسي الإنسان مدني لمصلحته، عدواني عندما يضع أحد حدًّا لها إقرارًا لمصلحة أخرى جديرة بالحماية أيضًا.

ونظرية الخراب المؤسس للعمران لم تنتج ثمارها في تونس. فأزمة 64 من القرن التاسع عشر والتي أدت إلى شبه شلل تام وفقر مدقع في المجتمع التونسي لم تنتج أمة صلبة بل أنتجت قيادة سياسية رهنت الموقف التونسي لدى كومسيون مالي ثم أزمة احتلال هووي وعسكري لم يتمكن هو أيضًا من فتح آفاق نحو مستقبل واعد لتونس بل وضع سلطة القرار عند بيادقه وغلف إنجازاتهم بمسميات الدولة الوطنية -المرتهنة للغرب حقيقة- حتى الثورة التي كان المرجو منها القطع مع الماضي أعادت إنتاجه بصورة ديمقراطية. ويبدو الأمر سيان لتونس ما بعد الـ25 من جويلية/يوليو والذي لم يكن سوى تعميقًا لأزمات لن تنتج على غرار أخواتها مجتمعًا صلبًا وسيّدًا.

خلاصة القول إن الجزم بالحلول التي يقدمها الخبراء والمحللون أمر غير ممكن. فالبناء الخارج عن المنطق لن تكون له سوى نتائج غير منطقية. فمن ينتظر خروج القيادة العسكرية-الأمنية بالبيان رقم واحد فهو واهم شأنه شأن من يجزم بعدم حدوثه. ومن ينتظر خروج الغنوشي أو سعيّد من المشهد فهو مخطئ أيضًا، فالصراع بين رأسي الأزمة السياسية في تونس يذكرنا بالصراع بين قايد السبسي والغنوشي الذي انتهى إلى التوافق، رغم أن المتوقع حينها -بالنظر إلى حجم الاتهامات المتبادلة والصراعات التي كادت أن تودي بالبلاد في نفق مظلم- كان إسقاط أحد الطرفين للآخر نهائيًا. الحل لن يكون بأي حال عاديًا، لأن تونس بكل بساطة كانت الاستثاء الدائم.

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"