مقال رأي
"لقد صوَّتنا بِـ"لا" في استفتاء على الدستور في 2005، مع ذلك صَادق عليه ساركوزي في هدوء في 2007 (عبر الفصل 123 من اتفاقية لشبونة) *. عندما يتعلّق الأمر بمصالح البنوك، تنتهي الديمقراطية". -جورج أبولان (رسّام فرنسي) -
"أثناء الاستفتاء، لا يجيب الناس أبدًا على السؤال المطروح أمامهم. بل يقدّمون دعمهم أو رفضهم للذي طَرَحَ السؤال" -فرانسواز جيرو (صحافية وسياسية فرنسية) -
تمت في 25 ماي/أيار 2022 -أي قبل شهرين من الموعد- دعوة الناخبين التونسيين في الداخل والخارج للاستفتاء حول مشروع دستور جديد بموجب الأمر الرئاسي عدد 506 لسنة 2022 المؤرخ في 25 ماي/أيار 2022.
وينص الفصل 2 من هذا الأمر: "يجيب الناخب بكلمة نعم أو لا عن السؤال التالي: هل توافق على مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية؟". هذا السؤال "الاستفتائي" سيضعنا أمام عديد الإحراجات.
1- إحراج لِساني:
أول أزمة تعترض الاستفتاء هي لغوية بالأساس في التباين بين مفردتي "الاستفتاء" وréférendum. بالعودة للنص القرآني، ثمة إضمار لاشتقاقات "إفتاء" و"فتوى" داخل "الاستفتاء" وكل ذِكْر لفعل "استفتى" يكون مقرونًا بشخص أو مجموعة مخصوصة (الله، الملأ، نبيّ..):
- "فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات ولهم البنون" (الصافات 149)
- "ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم" (النساء 127)
- "يستفتونك في الكَلالةِ قلِ اللهُ يفتيكم" (النساء 176)
- "يا أَيُّها المَلَأُ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون" (يوسف 43) والمقصود الكهنة مفسرو الأحلام.
- "يوسف أيها الصديق أفتِنا في سبع بقرات سِمان" (يوسف 46)
بالتالي فإن الذي يستفتي، يطلب فتوى من مخاطَبِهِ. فهل يمكن للجميع أن يضطلع بمهمة الإفتاء/الاجتهاد أيْ تقديم حكم شرعي (الشرعية الدينية لا السياسية) استنادًا على مجموعة من الأدلة النقلية أو التأويلية لأمر استعصى على العامة، خاصة أن النص ينسِب لله هذه المهمة أو لأحد من عِيانه؟
إن الذي يستفتي، يطلب فتوى من مخاطَبِهِ، فهل يمكن للجميع أن يضطلع بمهمة الإفتاء/الاجتهاد أي تقديم حكم شرعي استنادًا على مجموعة من الأدلة النقلية أو التأويلية لأمر استعصى على العامة؟
بهذا المعنى يكون الجواب على سؤال المُسْتَفْتِي أقرب للحكم judgement في معناه الفقهي/القضائي منه للرأي "الانتخابي" في معناه السياسي ولا علاقة له إطلاقًا بمعنى référendum، من الفعل اللاتيني referre أي ce qui doit être rapporté أو something to be brought back or referred أي ما يجب أن يتم إعادته أو إحالته (وفي سياق الحديث إعادته إلى مصدره الشرعي ليقدم فيه رأيه أي العامة أو الشعب) ومن هنا كذلك اشتقت كلمة références أي المراجع. وهذا هو المعنى المقصود داخل مقولة الديمقراطية.
باختصار، فإنه قد تمت ترجمة référendum المتجذرة في تُرْبَتِهَا السياسية-القانونية politico-juridique إلى "استفتاء" في العربية مع رغبة عميقة في عَلْمَنَةِ secularization المصطلح الفقهي وجعْلِهِ مُعْتَنِقًا لِلدلالة السياسية ومُعَتَّقًا بها، لكن يبدو أن اللسان-في المجتمعات العربية- مازال يَلْفِظُ/يَرْفُضُ هذه الدلالات ومازالت الفتوى (في إطار نمط الحكم التي تجذّرت فيه) تُطِلُّ بِرَأْسِها داخل مصطلح "الاستفتاء".
2- إحراجات سياسية: (التحيّز)
في يوم 20 ماي/أيار 1980 صوّت مواطنو الكيبيك في استفتاء على سؤال طُرِحَ في شكل فقرة طويلة مكونة من 10 أسطر وباستعمال خط صغير **(أنظر في قائمة الهوامش) يمكن اختصاره في جملة واحدة: هل يجب أن تكون الكيبيك دولة مستقلة؟ لكن الحكومة أصرّت على أن الصيغة الأولى هي الأصح.
عمومًا المبادرة بتفعيل آلية الاستفتاء تكون -في الغالب- من طرف من له السلطة ومن طرف من يكون ذلك لفائدته، وهذا يقود إلى صياغة سؤال الاستفتاء بشكل أقل ما يقال عنه أنه موجَّه
هذا مثال يمكن من خلاله وضع الاستفتاء موضوع التساؤل: هل يمكن لإجابة "ميكانيكية" بـ"نعم" أو "لا"، لا تقبل التعديل إطلاقًا فإما أن تُقْبَلَ المسألة موضوع الاستفتاء برمَّتها أو لا من دون الإمكانية للتعليق أو النقد أو التعبير أي بصورة أخرى هل أن كل سؤال يقبل فقط الثنائية الكلاسيكية "نعم-لا"؟
عمومًا فإن المبادرة بتفعيل آلية الاستفتاء تكون -في الغالب- من طرف من له السلطة ومن طرف من يكون ذلك لفائدته.وهذا يقود إلى صياغة سؤال الاستفتاء بشكل أقل ما يقال عنه، أنه مُوَجَّهٌ: في 1938 طلب هتلر من الألمان التصويت على استفتاء حول ما إذا كانوا يريدون أن تنضم النمسا إلى الرايخ الألماني بـ"نعم" أو "لا" حيث كانت حجم الخانة المخصصة لـ"نعم" أكبر ضعفين من تلك المخصصة من أجل "لا". كما اعتمد نابليون بونابرت كثيرًا على الاستفتاء عند تقديم دستور للشعب في 1799 ونجله أيضًا في 1852.
إن وضع السؤال في حد ذاته داخل الاستفتاء هو نصف الإجابة. يقول أستاذ القانون بجامعة لافال الكبيبك باتريك تايون "هنالك استفادة تكتيكية للحكومة من اختيار سؤال سيكون شعبيًا".
وقد يعمد أحيانًا إلى وضع سؤال معطوف على خيارين: مثلًا عوضًا عن سؤال هل أنت مع تقديم البروكلي يوميًا في المطعم الجامعي، يقال هل أنت مع تقديم البروكلي والبيتزا يوميًا في المطعم الجامعي؟ وهنا يوضع المجيب أمام مأزق فلا يمكنه فصل الخيارين عن بعضهما إما أن يريد البروكلي والبيتزا معًا أو يحرم منهما معًا. وهو ما حصل في البرتغال في استفتاء 1998 بالسؤال الآتي: هل توافق على أن تواصل البرتغال مساهمتها في بناء الاتحاد الأوروبي في إطار اتفاقية أمستردام؟ فالربط بين بناء الاتحاد الأوروبي والإمضاء على اتفاقية أمستردام هدفه التوجيه السياسي للإجابة بـ"نعم".
كذلك في 1969، طرح الرئيس الفرنسي شارل ديغول استفتاء على إنشاء مقاطعات جديدة وتجديد مجلس الشيوخ ووضع رئاسته للجمهورية رهينة بنتائجه في إطار ما يسمى بالتصويت المغلق vote bloqué
إن وضع السؤال في حد ذاته داخل الاستفتاء هو نصف الإجابة. يقول باتريك تايون أستاذ القانون بجامعة لافال الكبيبك "هنالك استفادة تكتيكية للحكومة من اختيار سؤال سيكون شعبيًا"
وبهدف التصدي للتلاعب بالجمهور، تم وضع قاعدة "وحدة موضوع الاستفتاء" في قانون الولايات المتحدة وسويسرا أي أنه لا يمكن التصويت إلا على موضوع وحيد محدد ومباشر. أما في فرنسا لا يوجد قانون ينظم مسألة الاستفتاء ويمكن الرجوع فقط لفقه قضاء المجلس الدستوري (خاصة قرار 2 جوان/يونيو 1987) الذي يشترط أن يكون سؤال الاستفتاء واضحًا وأمينًا.
أما في تونس فقد وضع الفصل 115 من القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ماي/أيار 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء على صيغة سؤال الاستفتاء حصرًا "تتم صياغة نص السؤال المعروض على الاستفتاء على النحو التالي: "هل توافق على مقترح تعديل الدستور أو مشروع القانون المعروض عليك؟" ولا تكون الإجابة عليه إلا بـالموافقة أو الرفض".
في نفس السياق وفي 2014، تم عرض استفتاء حول استقلال إسكتلندا داخل الممكلة المتحدة بعد أن تمت صياغة السؤال عبر لجنة انتخابية مكونة من ممثلين عن القوميين الإسكتلنديين وممثلين عن حكومة تريزا ماي رئيسة الحكومة آنذاك: في البداية تم اقتراح الصياغة الآتية: هل أنت موافق على أن تكون اسكتلندا دولة مستقلة؟ لكن الرافضين للاستقلال دفعوا بأن السؤال متحيّز بمقولة "هل أنت موافق" أو "هل توافق"؟ (نفس العبارة المستخدمة في استفتاء 25 جويلية) تميل أكثر نحو اختيار "نعم". واستبدلت بصياغة جديدة "هل يجب أن تكون اسكتلندا دولة مستقلة"؟ فيما قد يظهر أنها صيغة محايدة.
3- إحراج نظري: "الشعب يريد"
لعل أكثر شعار يتردد في فِيهِ الرئيس التونسي قيس سعيّد حتى قبل انتخابه "الشعب يريد" باعتباره حسب قوله رَحِم / محرّك matrice جميع قراراته. يعرض ذلك مساءلة "الشعب" كمقولة واقعية خاصة أن حقه (وواجبه) في التصويت نشأ عن أدبيات العقد الاجتماعي والقانون الطبيعي وأنه تجسيد لمقولات سيادة الشعب والديمقراطية.
لعل أكثر شعار يتردد في فِيهِ الرئيس حتى قبل انتخابه "الشعب يريد" باعتباره حسب قوله رَحِم جميع قراراته. يعرض ذلك مساءلة "الشعب" كمقولة واقعية خاصة أن حقه (وواجبه) في التصويت نشأ عن أدبيات العقد الاجتماعي وأنه تجسيد لمقولات سيادة الشعب والديمقراطية
لكن ظل مفهوم الشعب عند روسو ومونتسكيو بناء نظريًا أكثر منه معطًى واقعيًا بالرغم من كونه مصدر السلطات فهو لا يمثل وحدة متجانسة ومفرغة من كل شحنة اجتماعية. فروسو مثلًا يشترط للتمتع بحق الانتخاب خاصية "الكفاءة" السياسية. ولا يهم فيه العدد بقدر ما يهم زخم الديمقراطية الذي سيجسدها أي الرغبة الصادقة في التحرر من أي قيد سياسي، لكنّ ذلك تراجع في مقابل مبدأ المساواة وليد الثورة الفرنسية مع رأي آخر يدفع بكون الشعب هيئة اجتماعية بدلًا من كونه مجموعة أفراد. ثم استبدل هذا المفهوم بمفهوم "المواطن" في سياق الحداثة (وهو ما يطرح تجربة المواطنة في المجتمعات العربية التي عرفت انمساخًا فظيعًا). هذه الهيئة تعني أن يحظى جميع أعضائها بكافة الحقوق والواجبات على قدم المساواة وأن تتم حمايتها بالقانون.
بالنسبة لكانط، فإن الشعب الذي يذهب للتصويت يثمْر إرادة عامة "تقريبية" يجب احترامها في حين يرفض روسو ذلك لأنه وحده "شعب من الآلهة يمكن له حكم نفسه بصفة ديمقراطية بمثل هذه المثالية" وهو ما لا يتلاءم مع البشر حسب تعبيره.
وبين الرأيين يظل السؤال حاميًا عن هذه السلطة/الحق الذي يتمتع به الشعب من جهة وعنه من حيث المفهوم نفسه وآفاقه على أرض الواقع.
من بين ما يجب استشعار خطورته فرضية أن يكون المقصد من هذا الاستفتاء استصدار تزكية أو فتوى "سياسية" للرئيس الفَرْد وسياستهِ ودستورهِ
لا يمكن الحكم على استفتاء قبل شهرين من إتمامه، لكن قد يمكِن التكهُّن بنتائجه عن طريق الإحصاء أو بتقلب موازين القوى السياسة لكن ما يجب استشعار خطورته هو الآتي:
- ألّا يكون "المقصد" (في معناه الفقهي) من هذا الاستفتاء استصدار تزكية أو فتوى "سياسية" للرئيس الفَرْد (بالمعنى القرآني) وسياستهِ ودستورهِ.
- ماذا لو فشِل الاستفتاء؟ (وبوادر ذلك تتضاعف على الأقل تقنيًا) خاصة أنه يتطلب التزامًا عقديًا -في إطار العقد الاجتماعي- من جهة. من جهة أخرى أي مشروع سياسي ما بعد الفشل؟ أم أن الاستفتاء في سياق الحديث موجود فقط لينجح؟
- أي أفق لمقولة "الشعب يريد"؟ هل تصير بديلًا لمقولات أخرى حكمت التاريخ السياسي للبشر (ظل الله في الأرض، الدولة هي أنا، التوتاليتارية...) وكلمة السرّ في حقبة الشعبوية؟
هوامش:
*في 2005 تم التصويت في استفتاء بفرنسا ضد "دستور أوروبي" طلبًا لإبقاء السيادة الدستورية لفرنسا لكن في 2007 أمضت فرنسا اتفاقية لشبونة التي مثلت تكبيلًا لسيادتها المالية.
** نص الاستفتاء في الكيبيك:
le gouvernement du Québec a fait connaitre sa proposition d’en arriver, avec le reste du Canada, à une nouvelle entente fondée sur le principe de l’égalité des peuples ; cette entente permettrait au Québec d’acquérir le pouvoir exclusif de faire ses lois, de percevoir ses impôts, et d’établir ses relations extérieurs, et ce qui est la souveraineté, et en même temps, de maintenir avec le Canada une association économique comportant l’utilisation de même monnaie ; aucun changements de statut politique résultant de ces négociations ne sera réalisé sans l’accord de la population lors d’un autre référendum ; en conséquence, accordez-vous au Gouvernement du Québec le mondat de négocier l’entente proposée entre le Québec et le Canada ?
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"