06-أبريل-2022
سيدي بوزيد بلعيد

"الثابت اليوم أن المجتمع التونسي فشل في امتحان الديمقراطية" (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي

 

كتب محمد الماغوط راثيًا حال من يقاسمهم فتات هوية مبعثرة: "وقرأت عليهم بنبرة مؤثرة وغاضبة أجمل قصائد المقاومة والنضال، لناظم حكمت ولوركا وهوشي منه ومحمود درويش وسميح القاسم.. ولا أحد يبالي" (سأخون وطني). كثيرًا ما تعرّض الماغوط لحال الغالبية الصامتة التي أرهقها الرقاد في ظل "الإرهاب العربي"، كما يسمي الشاعر السوري تسلّط الأنظمة العربية وتجبّرها على رعاياها.

وكان قد سبق الماغوط أبا القاسم الشابي، وأبا ذر الغفاري، وآخرين قبلهم وبعدهم، ممن تعجبوا لحال كحال التونسيين هذه الأيام، أو على الأقل المهتمين بالشأن العام منهم، ممن لم يقبلوا على مر السنوات التي تلت فرار المستبد السابق، بإدغام الخطاب السياسي بالدبغ الديني، أو العفو الجزائي دون محاسبة المتورطين في نهب المال العام زمن الاستبداد قبل الأخير.

منذ 8 أشهر، تمرّر مثل هذه الإجراءات وأكثر، كما تمرّر الضفادع الشراغيف في الجداول الهادرة، لا ينتبه لها أحد، لكنها لن تلبث حتى تصدّع الرؤوس متى اشتدت حمرة الليالي.

عرف المجتمع التونسي، منذ الثورة وحتى غياب أصيل الديمقراطية الفتية، ديناميكية فريدة من نوعها أبرز تجلياتها هدير شارع لم يهجع منذ أضرم البوعزيزي النار في جسده

عرف المجتمع التونسي طيلة العقد الذهبي المغدور، منذ ثورة 17-14 وحتى غياب أصيل الديمقراطية الفتية ذات صائفة غابرة، ديناميكية فريدة من نوعها حد التخمة كمًّا وكيفًا، أبرز تجلياتها هدير شارع لم يهجع منذ أضرم البوعزيزي النار في جسده: حركات اجتماعية واقتصادية بعناوين فسيفسائية عنوانها الأساسي الكرامة.

وفق ما رصده المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يمكن تصنيف التحركات الاحتجاجية حسب الطابع الغالب عليها إلى ثلاثة عناوين كبرى: حقوقية هووية بين 2011 و2014، اقتصادية واجتماعية بين 2015 و2020. نجحت هذه الحركات، خاصة في وجهها الحقوقي والهووي، في التبلور في صياغة دستور 27 جانفي/يناير 2014 المجيد، خاصة الفصل 49 المتعلق بالحقوق والحريات أو كما يسميه المحامي والقاضي الإداري السابق أحمد صواب بـ "الطريزة القانونية".

نجحت التحركات الاحتجاجية، خاصة في وجهها الحقوقي والهووي، في التبلور في صياغة دستور 27 جانفي 2014 المجيد، خاصة الفصل 49 المتعلق بالحقوق والحريات أو كما يسميه أحمد صواب بـ "الطريزة القانونية"

كما نجحت نسبيًا وإلى حد مقبول نوعًا ما، بالنظر إلى مستوى الوعي المجتمعي ودرجة النضج المتدنية التي لم تستطع الديمقراطية الفتية تجاوزها، عدة حركات اقتصادية كحركة "مانيش مسامح" المتعلقة بالعفو عن المتورطين بجرائم متعلقة بالمال العام في الفترة البنفسجية والبورقيبية، ولم يمر من قانون المصالحة الذي كان بمثابة الوعد الانتخابي للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي إلا الجزء المتعلق بالجرائم الإدارية على معنى الفصل 96 من المجلة الجزائية.

ولأسباب متعددة كنا قد تعرضنا لها في مواضيع سابقة، وأطنب الباحثون من الحقلين الاجتماعي والسياسي بتشريحها، لم تنجح هذه التحركات والحملات المختلفة في تحقيق تغيير ملموس وعميق في الواقع العام.

ودون الخوض في أسباب قد تقودنا للأحكام الانطباعية، فإن السبب الرئيسي حسب رأينا يعود لـ "فصل الاجتماعي والاقتصادي عن السياسي"، بمعنى عدم تشكل حركات سياسية، قادرة على التفاوض والتغيير، من رحم الشارع. لكن هذا الزخم الحراكي أدى إلى تشكّل ظنّ، أو انطباع، بأن "لا رجوع عن الحريات والحقوق"، وبأن هناك مجتمعًا ونخبًا قادرة على صد كل حركة انقلابية تسعى للاستبداد. لكن بعض الظنّ إثم.

لم تنجح التحركات والحملات المختلفة في تحقيق تغيير ملموس وعميق في الواقع العام. ويعود ذلك لـ "فصل الاجتماعي والاقتصادي عن السياسي"، بمعنى عدم تشكل حركات سياسية قادرة على التفاوض والتغيير من رحم الشارع

منذ أفول أصيل الديمقراطية اليتيمة، التي ما انفكت تُلعن، منذ يومها الأول، لم يمرّ يومٌ دون تسجيل خطاب، مرسوم، أمر، قرار... كانت لتثور ثائرة الثوار، حراس المعبد المدني وملوك النمط وأرباب القوافي، لو مرّ مثلها أو نطق بها أيام "العشر العجاف" كما تنعق ألسنة الثورة المضادة منذ ترمّلها الأول. 

على عكس ذلك، تسود حالة من الذهول والبهتة، أقرب منها إلى الشلل، وتخيّم غيام الترقب والصمت، ما عدا بعض الصرخات الصامتة، على معظم الطيف المدني، فيما تبقى أكثر من نقطة استفهام، وتعجّب، منتظرة "مطّة" الإجابة: أين المجتمع المدني التونسي مما يحصل؟ أين الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من إحالة المدنيين أمام المحاكم العسكرية؟ أين الاتحاد العام التونسي للشغل من ترك سنة المفاوضات الاجتماعية وقد التهبت الأسعار وانقرضت عديد المواد الاستهلاكية؟ أين "بوصلة" و"أنا يقظ"؟ وأين الـ"مانيش مسامح"-ون؟ هل سامحوا؟ في المقابل، تعمل مكينة الوصم صباحًا مساءً وكل الأيام على الهرسلة المعنوية لكل صوت معارض، تحت تهليل الغوغاء، وزبد الآفاق، كما سبق وصفقوا وهللوا لكل سلطة.

تسود اليوم حالة من الذهول والبهتة وتخيّم غيام الترقب والصمت، ما عدا بعض الصرخات الصامتة، على معظم الطيف المدني. فيما تبقى أكثر من نقطة استفهام وتعجّب منتظرة "مطّة" الإجابة: أين المجتمع المدني التونسي مما يحصل؟

في ندوة افتراضية لـ "مشروع ديمقراطية الشرق الأوسط Pomed" بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2021، سألت منسقة الندوة إحدى المشاركين عن موقف المجتمع المدني مما يحصل في تونس. فكانت إجابتها: "نادت العديد من المكونات المدنية باستقالة المشيشي وحل حكومته، لهذا كانت القرارات بمثابة استجابة لمثل هذه الدعوات".

ضمنيًا، تحمل الإجابة أكثر من دلالة، أهمها: الكل متواطئ فيما جرى، لا إراديًا على الأقل: عبر التجريح في التجربة الديمقراطية وربطها ضمنيًا ودلاليًا بخصم الإيديولوجي، حتى صار ضرب الخصم وضرب الديمقراطية سواء. وإلّا، كيف نفسر مثلًا عدم السماح بتمرير خطاب ميزوجيني، أو هوموفوب أو معادٍ للسامية، بينما يسمح بتمرير خطابات فاشية معادية للديمقراطية وتدعو إلى التسلطية تحت غطاء الحفاظ على الدولة؟ ربما هو مرض الطفولية التي نعت بها لينين طائفته/نا ذات يوم. وما حالة الذهول والسكون، إلا الحالة التي تعتمر الأطفال بعد تحطيم أو إفساد شيء ما قد سبق وتم نهيهم عن اللعب به.

عدا حالة الغيبوبة الجماعية والأزمة المركبة بين ما هو داخلي وخارجي، يراهن الكثير من المحللين الغربيين خصوصًا على ملامح انتفاضة خبز ربما قد تكون فرصة لتتدارك النخب ما فات

هذا فيما يخص النخب من مكونات سياسية ومدنية، أما باقي المكونات المجتمعية فهي إما كما قال الكاتب الكندي سال بولوو Saul Bellow: " كلما تطورت طبقاتنا الوسطى، التي هي أساسًا عاطفية وحميائية، إلا وتعززت نزعتها المشاعرية. أما عن الصدق والنزاهة، الدقيقة والمعتدلة، فلا تبدو لها أي جاذبية". نكتفي بهذا فيما يخص الطبقة الوسطى التي هي صنيعة الدولة ومرتبطة بها بشكل أساسي (غالبية من الموظفين).

عدا حالة الغيبوبة الجماعية والأزمة المركبة بين ما هو داخلي وخارجي، يراهن الكثير من المحللين الغربيين خصوصًا على ملامح انتفاضة خبز ربما قد تكون فرصة لتتدارك النخب ما فات، على أننا لا نرى في ذلك أملًا، وإلا لما لجأت الحركات الإيديولوجية لإيجاد بدائل غير ثورية للتغيير الاجتماعي، كالتقية والانقلاب. لأنّ الثابت حتى الآن، كما جاء في خلاصة كتاب المولدي القسومي في كتابه "مجتمع الثورة وما بعد الثورة"، أن المجتمع التونسي فشل في امتحان الديمقراطية.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"