جغرافيا الثورة التي انطلقت من تونس كانت تتبع طريقًا واضحًا، وتتعرّج وفق التحوّلات التي عرفها الفكر والسياسة والنخبة ومقاومة الاستبداد في الأقطار العربيّة. فاندلعت الثورة في الأقطار التي عرفت تحوّلًا من الفرز التقليدي على قاعدة الإيديولوجيا إلى فرز على قاعدة الحريّة، دون غيرها. وتَمثّل هذا الفرز سياسيّا في حركة 18 أكتوبر في تونس، وحركة كفاية في مصر، وربيع دمشق في سوريّة، والحراك الجنوبي المطالب بالديمقراطيّة في اليمن، وما عرفته ليبيا من مبادرة للإصلاح السياسي مع شقّ من نظام القذّافي (سيف الإسلام /الصلابي)، سرعان ما أُجهضت.
من الوطنيّة إلى المواطنة
لم تقم الثورة إلاّ في هذه الأقطار التي عرفت التحوّل المشار إليه. وإنّ بناء الديمقراطية فيها سيكون مرحلة تتلوها مرحلة ثانيّة نحو الأقطار التي تعرف "تعطّلًا سياسيًا بنيويًا" عائدًا في معظمه إلى "اقتصاد الريع النفطي" المهيمن، وما يوفّره من استقرار اجتماعي من ناحية، وإلى علاقته بارتهان إلى الهيمنة الأمريكيّة وحضورها العسكري القويّ في أقطار الخليج (قطر، السعوديّة)، من ناحية أخرى، وإلى جانب الحضور الاستعلاماتي الأجنبي القوي في بعض الأقطار الأخرى في الشام والتي كان بعض دولها قاعدة مخابراتيّة غربيّة ثابتة في المنطقة منذ نشأتها (الأردن).
اندلعت الثورة في الأقطار التي عرفت تحوّلًا من الفرز التقليدي على قاعدة الإيديولوجيا إلى فرز على قاعدة الحرية. وتَمثّل هذا الفرز سياسيّا في حركة 18 أكتوبر في تونس، وحركة كفاية في مصر، وربيع دمشق في سوريّة...
والمفارقة في أنّ موقف الأقطار الواقعة تحت الهيمنة لم يكن هو نفسه، ففي حين وقفت قطر إلى جانب الثورة، وقبله إلى جانب المقاومة في فلسطين ولبنان، ناهضت السعوديّة المقاومة من خلال ممثليها في السياسة اللبنانيّة، ثم أصبحت قاعدة الثورة المضادّة. وكان لها إلى جانب الإمارات دور أساسي في الانقلاب على ثورة 25 يناير. وجاء الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي تتويجًا لهذا التوجّه، وليسقط سرديّة "الربيع العبري"، ويتأكّد الدور الصهيوني في الانقلاب الدموي على الثورة في مصر.
اقرأ/ي أيضًا: هل يمكن صناعة الثورة والحركات الاجتماعيّة مخابراتيًا؟
كان وصول الثورة إلى مصر يعني في لغة الاستراتيجيا أنّ هذه الثورة تريد إعادة ترتيب المنطقة. وهذا كاف ليجعل منها معادلًا عسكريًا وسياسيًا للكيان الصهيوني وخطرًا مباشرًا على وجوده. وهي المرّة الأولى التي يعرف فيها "الجوار الصهيوني" ثورة ديمقراطيّة مواطنيّة. فما كان محيطًا بالكيان، منذ زرعه، أنظمة جاءت بها انقلابات قادتها نخب عسكريّة عروبيّة وقوميّة (البعث) ويساريّة في معظمها تدرّعت بالوطنيّة ولكنّها كانت أنظمة دكتاتوريّة مضادّة للحريّة والمواطنة ولكرامة الإنسان.
وهي في نظر البعض انقلاب على "ليبراليّة ناشئة" و"تعدّديّة سياسية وفكريّة" وملامح "مجتمع مدني مبكّر" على صلة بحركة النهضة الإصلاح، فقد كانت حريّة الصحافة والأحزاب والجمعيّات، وكانت الانتخابات رغم أنّها مشروطة في معظمها بالاستعمار (البريطاني والفرنسي في مصر والشام)، دون أن يمنع البعد الوطني في بعضها(ثورة 19). وحتّى في تونس كانت التعدّديّة السياسيّة والحركة الفكريّة الإبداعيّة مزدهرة وبأفق وطني مقاوم في ظلّ الاستعمار مقارنة بما آلت إليه الأوضاع مع دولة الاستقلال رغم أنّ من قادها هو شقّ الحركة الوطنيّة الأقرب إلى فرنسا. فكأنّ ثورة الحريّة والكرامة استعادة للحظة ما قبل الانقلابات العسكريّة التي جاءت بأنظمة وطنيّة دكتاتوريّة لم تحرّر أرضًا ولم تبْن اقتصادًا وطنيًّا لأنّها لم تراهن على الإنسان الحر والمواطنة الكريمة.
خديعة واستفاقة متأخّرة
بلوغ الثورة أرض الكنانة وإطاحتها بنظام حسني مبارك يعني أنّها صارت عربيّة. ولم تمنع هذه الحقيقة أنّ ممّن وقف مع السيسي فصائلُ من شباب الثورة ومن الناصريين اليساريين في "محفل خديعة" متقن كان ضحيّته آلاف المتظاهرين السلميين في رابعة وغيرها من الميادين وعشرات الآلاف من المعتقلين قضى منهم كثيرون في السجن، ومنهم الرئيس المنتخب محمد مرسي. وانضاف إليهم اليوم في المحتشدات مئات من شباب الثورة ومن الأحزاب التي ساندت السيسي في انقلابه وكلّ من خالف السيسي ونظامه (اعتقال أعضاء من مباردة "تحالف اللأمل" الذي ضمّ ناصريين ويساريين ونشطاء حقوقيين اتهموا بالتخابر مع الإخوان).
بلوغ الثورة أرض الكنانة وإطاحتها بنظام مبارك يعني أنّها صارت عربيّة. ولم تمنع هذه الحقيقة أنّ ممّن وقف مع السيسي فصائلُ من شباب الثورة ومن الناصريين اليساريين في "محفل خديعة" متقن كان ضحيّته آلاف المتظاهرين السلميين
وطال الاعتقال والتنكيل المناضلين وهويات سياسيّة شتّى كانت ضدّ الانقلاب منذ يومه الأوّل، ودافعت عن مسار بناء الديمقراطيّة ومنهم رامي شعث أحد ممثّلي (BDS Egypt). وهي منظّمة عالميّة مناهضة للكيان الصهيوني والمناهضة للتطبيع والداعيّة إلى مقاطعته اقتصاديًّا من دول العالم. ورامي شعث (ابن نبيل شعث القيادي الفتحاوي الفلسطيني ووزير خارجيّة السلطة السابق) هو من الشباب الاشتراكي الثوري المناهض للانقلاب. وقد اعتقل في صائفة 2019، وتمّ ترحيل زوجته الفرنسيّة عن مصر. مثلما لا يمكن أن تنسى مواقف الناصري محمد عصمت سيف الدولة (ابن عصمت سيف الدولة صاحب نظريّة الثورة العربيّة) المناهضة للانقلاب والمدافعة بما أتيح لها عن الحريّة الديمقراطيّة وثورة 25 يناير.
ما تعرفه مصر، بعد خفوت دعوات المقاول والناشط السياسي محمّد علي، هو عودة بطيئة إلى فرز جديد على قاعدة الحريّة. وهو نوع من "العودة السيزيفيّة" إلى "حركة كفاية"، ولكن في شروط أخرى أقل ما يقال فيها أنّها مأساويّة. والأكثر مأساويّة أنّ نظراء لهم من بيننا وفي مشهدنا السياسي في تونس لا يقرؤون ما يحدث في مصر، أو هم يرفضون أن يقرؤوا ما يعرفه من فظاعات في حقّ المعارضين بمختلف مشاربهم. ومازلوا مصرّين على موقفهم المساند للانقلاب، رغم استهدافه رفاقًا لهم في مصر واتهامهم بأنهم أذرع إخوانيّة. وأضافوا إلى هذا الإصرار مساهمتهم في إرباك مسار الانتقال إلى الديمقراطيّة عندنا تحت ذرائع لا تختلف عن التي سوّقها الانقلاب في مصر وجمع حولها كثيرًا من المنتكسين إلى الفرز على قاعدة الإيديولوجيا وبعضًا ممّن همّشتهم الانتخابات وطيفًا ممّن مازالوا تحت خدر السرديّة الرسميّة.
دولة الجيش
تواجه ثورة 25 يناير صعوبات حقيقيّة، رغم الأمل في الخلاص من الدكتاتوريّة، لا الخلاص من حكم المؤسسة العسكريّة على المدى المتوسّط على الأقل. فوضع المؤسسة العسكريّة في مصر لا يكاد يشبهه وضع المؤسسة نفسها في الأقطار العربيّة. وقد تعود جذور هذا الوضع إلى إصلاحات محمّد علي وفي مقدّمتها إصلاح المؤسسة العسكريّة، مع أنّه لا خلاف حول أنّ دورها الهيمني الفعلي ارتبط بثورة 23 يوليو 52 وعلاقتها بالدولة.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا تتصدّر تونس مناهضة التطبيع في موجته الجديدة؟
ومحصّل الأمر أنّه إذا كان لكلّ دولة جيشُها فإنّ للجيش المصري دولته. وما يعنيه من أنّ هذه المؤسسة فوق الدولة وفوق القانون. وفي ذلك تأكُّد البنية الثلاثيّة للاستبداد: مجتمع/دولة/مؤسسة عسكريّة. وكثيرًا ما تخضع هذه المؤسسة للزعيم. ولئن أمكن للثورة في تونس الإطاحة بهذه البنية الثلاثيّة ( مجتمع/دولة/بن علي) لتصبح بنية ثنائيّة (مجتمع/دولة) وهي شرط الانتخابات الحرّة والنزيهة (انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011)، فإنّ في مصر كانت "الإطاحة" بهذه البنية ظرفيّة.
تواجه ثورة 25 يناير صعوبات حقيقيّة، رغم الأمل في الخلاص من الدكتاتوريّة، لا الخلاص من حكم المؤسسة العسكريّة على المدى المتوسّط على الأقل. فوضع المؤسسة العسكريّة في مصر لا يكاد يشبهه وضع المؤسسة نفسها في الأقطار العربيّة
فعندما أدركت قيادة المؤسسة العسكريّة في مصر أنّه لا يمكن لها الوقوف بوجه تيّار الثورة الجارف، اختارت أن تخفّض من التوتّر المتصاعد بإزاحة حسني مبارك، والدخول في مفاوضات مع جانب من الحراك الثوري.
وإذا كان هناك رفض لهذا المنحى من شباب الثوة فإنّ الأحزاب السياسيّة وتحديدًا الإخوان دخلوا في مفاوضات مع العسكر قسّمت الصف الثوري وأدّت إلى مغادرة الميادين. وهو ما تريده المؤسسة العسكريّة. وقام جدل بين موقفين: موقف يدعو إلى تنقيح الدستور (الإخوان والجيش)، وموقف يدعو إلى دستور جديد (شباب الثورة) ومن ثمّ الدخول إلى مرحلة تأسيسيّة. وحُسِم هذا الخلاف بإجراء استفتاء أقرّ الموقف الأوّل. وكانت الانتخابات نزيهة وديمقراطيّة لتوفّر الشرط المذكور، ولكن يبدو أنّ المؤسسة العسكريّة تخطّط للإطاحة بهذه التجربة خوفًا من أن يُفضي استمرارها إلى التقدّم في بناء الديمقراطيّة وترسّخ مؤسساتها. وهو ما سيقوّض البناء الثلاثي المذكور الذي تنازلت عنه مؤقّتا لتتبيّن اتجاهاتِ الرأي وموازين القوى السياسيّة. وأمكن لها الإطاحة بالتجربة بعد سنة من حكم الإخوان.
ما بين الثورتين في تونس ومصر من تشابه واختلاف
تشير بعض الدارسات المهتمّة بـ"أصول الانتقال الديمقراطي" إلى ما بين التجربتين في تونس ومصر من تشابه. وتتميّز الدراسة التي أنجزها المفكّر العربي عزمي بشارة بسعيها إلى إنتاج معرفة في الموضوع، ومنه توقّفها عند أسباب استمرار التجربة التونسيّة. وتتمثّل في أسباب ثلاثة: إجماع على فكرة الدولة، والتقاء في الوسط بين قوى الاعتدال من القديم والجديد، ومؤسسة عسكريّة ليس لها طموح سياسي وبعيدة عن التجاذبات والرهانات. وهو ما لم يتوفّر من جهة المؤسسة العسكريّة التي تتحكّم بالسياسة والاقتصاد وأسباب العيش.
اقرأ/ي أيضًا: تونس: تحوّلات محلية وإقليمية وصعوبات في مسار بناء الديمقراطية
ويمكن الإشارة إلى عنصر تشابه مهمّ من جهة الوظيفة (رغم ما يبدو فيه من غرابة) بين دور المؤسسة العسكريّة في مصر ودور المجتمع المدني في تونس. فـ"الانقلاب العنيف" على الديمقراطيّة الذي قادته المؤسسة العسكريّة في مصر قابله "الانقلاب اللطيف" الذي دشّنه المجتمع المدني بقيادة أربع من منظماته على رأسها اتحاد الشغل. فقد كان الحوار الوطني انقلابًا على الاختيار الشعبي الحر، وإسقاطًا لحكومة منتخبة حلّت محلّها حكومة تكنوقراط معيّنة. والفرق بين الانقلابين أنّ الأوّل (في مصر) استعاد نظام الاستبداد وعودة القديم في أبشع أشكاله وبروح ثأثريّة مجرمة. في حين كان مع الثاني (في تونس) خروجٌ من التأسيس إلى مسار انتقال ديمقراطي، وتحوّلٌ من واجب محاسبة القديم على قاعدة العدالة الانتقاليّة إلى واقع منافسته على قاعدة التوافق.
"الانقلاب العنيف" على الديمقراطيّة الذي قادته المؤسسة العسكريّة في مصر قابله "الانقلاب اللطيف" الذي دشّنه المجتمع المدني بقيادة أربع من منظماته على رأسها اتحاد الشغل في تونس
المجتمع المدني في تونس سليل الدولة وأداتها. ولهذا علاقة بتجربة الدولة في تونس. فقد كانت مركزيّتها سببًا في عجزها عن أن تغطّي كلّ مجالها الثقافي الاجتماعي. فكان الانقسام مضاعفًا : هوويًّا واجتماعيًّا.
فتغطية الدولة كانت تقتصر على "مجتمعها المدني" وتركت "المجتمع الأهلي للعراء. وهو الذي سيصبح الهامش المفقّر ومنه سيكون الانتفاض الاجتماعي المواطني ونجاحه في كسر نظام الاستبداد.
وإذا كان المجتمع المدني قبل الثورة، في معظمه جزءًا من النظام ( لا يمنع هذا وجود توترات بسبب مواقف حقوقيّة أو غيرها، أو إضرابات قطاعيّة منفلتة) فإنّه بعد الثورة انحاز إلى ما عرف بالدولة العميقة ( السيستام).
في مصر، مازال تجاوز بنية الاستبداد الثلاثيّة بعيدًا. وفي ظلّ هذه البنية لم يكن بإمكان الرئيس مرسي أن ينفّذ القليل من برنامجه. ولذلك يبدو الانقلاب عليه مجانيًّا. إذ كان يمكن محاصرته ثمّ إزاحته دون الحاجة إلى الانقلاب الدموي، والزجّ بآلاف النشطاء والكوادر السياسيّة في السجون. وبعد تصفية الإخوان حمل السيسي على كلّ من سانده في انقلابه من شباب الثورة ومن النشطاء السياسيين ومن الأحزاب وحوّل المحروسة إلى سجن كبير.
وإلى جانب غياب الواجهة السياسيّة الموحّدة للمعارضة المصريّة، فإنّ الأمر يعود إلى ما دون نقطة الصفر مقارنة بما كان عليه الوضع في ظلّ نظام حسني مبارك. وهذا الانحدار تحت وطأة الاستبداد يستدعي استئنافًا جديدًا وشروطًا مخالفة للتي انطلقت ضمنها ثورة 25 يناير. فالهدف هو الذي رسمته الثورة في 2011 ولكنّ الأسلوب سيكون مختلفًا بلا شكّ. والشعب المصري قادر على إبداع نهجه في الثورة من أجل الحريّة والكرامة. والاستبداد رغم سطوته وبطشه فإنّ نقاط ضعفه لا تحصى وقد ينهار في أجل لم نتوقّعه وبطريقة مثيرة.
اقرأ/ي أيضًا:
الديمقراطيّة والتطبيع في بلاد المغرب العربي
10 سنوات "ربيع عربي": تقييمات ألمانية لمآلات الثورة التونسية