23-يونيو-2020

فوزي محفوظ مدير عام المعهد الوطني للتراث (رمزي العياري/ألترا تونس)

في الطريق من باب البحر إلى مقرّ المعهد الوطني للتراث بدار الحسين بباب منارة، كانت المدينة العتيقة أو "البلاد العربي" تتهجى صباحها الندي، وقد شرع باعة الأسواق في ترصيف سلعهم بعناية ورائحة البنّ تفوح من المقاهي القديمة المتناثرة بنهج جامع الزيتونة وسوق الشواشين وسوق الترك ونهج الباشا. 

لكن هذه المدينة التي عرفت أوج ازدهارها مع الحفصيين بداية من سنة 698 ميلادي لم تكن بخير فلم تحافظ على بهائها في ظل الاعتداءات الصارخة على عتاقتها والتحويرات في ملامحها والتشويهات في معمارها. إسمنت كثير طغى على واجهاتها وأزقتها، وسيارات وجرّارات ثقيلة بأدخنتها تمرّ بالأنهج الضيقة فتفسد جمالها وتهدد أسسها. ويبدو أن هذه المدينة التي صنفتها اليونسكو ضمن لائحة التراث الإنساني سنة 1997 إلى خسران.

مدير عام المعهد الوطني للتراث فوزي محفوظ هو  أستاذ في التاريخ والحضارة الإسلامي وهو مختص في "تاريخ التمدّن" وشغل سابقًا خطة مدير المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر

ولذلك، قررت أن أبدأ حواري مع المدير العام للمعهد الوطني للتراث، التابع لوزارة الشؤون الثقافية، فوزي محفوظ حول المدينة العتيقة. ومحفوظ هو أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، وهو مختص في "تاريخ التمدّن". وقبل تولّيه الإدارة العامة للمعهد الوطني للتراث، شغل خطة مدير المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر. وهو يحتكم على عدّة دراسات وبحوث علمية منشورة، وأصدر كتابين هما "عمارة الخلفاء"(سنة 2013) و"أساطير قرطاجنّة" (سنة 2015).

التقى "ألترا تونس" مدير عام المعهد الوطني للتراث بدار حسين، وهو قصر فخم بعمارة أندلسية بنيت في بداية القرن الثامن عشر، وأصبح سنة 1858 مقرًا لأول مجلس بلدي لمدينة تونس بقرار من يوسف صاحب الطابع، وعرف القصر لدى عامة الناس باسم "القايد حسين" الذي شغل منصب أول رئيس بلدية للحاضرة.

وتمحور حوارنا مع محفوظ حول السياسة التراثية في تونس واستراتيجيات المعهد في السنوات القادمة، وأيضًا بخصوص ملف مجموعة التحف التونسية المهرّبة إلى باريس والتي كانت ستُعرض للبيع بالمزاد العلني قبل تدخل السلط التونسية المعنية لمنع العملية. وفيما يلي نص الحوار:


  • بدأت مدينة تونس العتيقة المصنفة كتراث إنساني عالمي في فقدان ملامحها وأصالتها وكثرت الاعتداءات على عمارتها ومخزونها التراثي. كيف السبيل إلى إنقاذها؟ وأي دور للمعهد الوطني للتراث في حمايتها؟ 

التراث وأهميته بالنسبة للمجتمع التونسي مرتبط أساسًا بالوعي بالذاكرة وتثمينها وحسن استغلالها. وتأسيس هذا الوعي يتطلّب بدوره وعيًا جماعيًا، فليس الأمر في ارتباط عضوي بالمعهد الوطني للتراث وبوزارة الشؤون الثقافية لوحدها، فهناك عدة وزارات ومؤسسات أخرى ضالعة في نشر هذا الوعي الجماعي مثل وزارة التربية ووزارة التنمية المحلية وزارة السياحة والمؤسسات الشبابية والنسيج المدني.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| منجي بورقو: ننتظر دعمًا سياسيًا لتصنيف جربة تراثًا إنسانيًا

 أمّا بخصوص ما يحدث في مدينة تونس العتيقة من اعتداءات صارخة، فإننا على بينة بما يحدث، ونحن على اتصال بجمعية صيانة المدينة وبلدية العاصمة ولنا خطط عمل مشتركة يهم بعضها الجانب التوعوي والبعض الآخر الجانب الردعي. علمًا أن ما أشرتم إليه، نجد له أمثلة بمدن تونسية أخرى ومواقع ومعالم عديدة بكامل البلاد، والمعهد يتدخل في كل مرّة لتطبيق القانون للحد من ظواهر غريبة باتت تهدد التراث الوطني.

  • منذ الاستقلال إلى اليوم، أنجزت تونس كل خرائطها ما عدا "الخارطة الأثرية". فما هي أسباب ذلك؟

ورثت تونس عن المستعمر الفرنسي "خارطة أطلس ما قبل التاريخ"، وهي خارطة أعدّها الجيش الفرنسي في النصف الأول من القرن العشرين. أما الخارطة الشاملة والتي تسمّى "الخارطة الأثرية"، فهي مشروع وطني كبير عُهد به منذ 1992  إلى المعهد الوطني للتراث، وهو يتمثل في القيام بمسح طوبوغرافي علمي لكامل جغرافيا البلاد التونسية التي تم تقسيمها في البداية إلى 290 مربع مساحة كل الواحد 25 كلم مربع.

فوزي محفوظ: معهد التراث على بيّنة من الاعتداءات الصارخة على مدينة تونس العتيقة ونحن نتدخّل للحد من ظواهر غريبة باتت تهدد التراث الوطني

 ويتم مسح كل مربّع من تلك المربّعات طوبوغرافيًا قبل التنقل في كامل أرجائه مشيًا على الأقدام من قبل خبراء وعلماء المعهد، فيرقّمون كل المواقع والمعالم الموجودة داخله، وينجزون الجذاذات العلمية ثم يعدّون كتابًا خاصًا بالمربّع ليتمّ تجميعها فيما بعد للحصول على الخارطة النهائية للمواقع والمعالم.

وأنجزت تونس منذ عام 1992 إلى اليوم، نصف الخريطة بميزانية سنوية خاصة بالخارطة لا تتجاوز 30 ألف دينار وبفريق صغير يملك سيّارة إدارية واحدة، علمًا أن فريق الخارطة فضلًا عن دوره الأساسي يتدخل في كل برامج التهيئة والتعمير التي تهم البلديات ووزارة التجهيز.

  • كثر الإتجار خلسة مؤخرًا بالآثار وكثرت الاعتداءات على المواقع والمعالم من شمال البلاد إلى جنوبها، وعادة ما توجه أصابع الاتهام بالتقصير والتهاون إلى المعهد الوطني للتراث. كيف تتعاملون مع هذا الملف؟ 

تملك تونس أكثر من 6 آلاف موقع ومعلم ذات تصنيف وطني وعالمي، منها 1200 موقعًا ومعلمًا من درجة أولى، وبعضها يمتدّ على مساحات شاسعة تتجاوز 80 هكتارًا مثل مواقع قرطاج، وأوذنة، وبلاريجيا، وميستي، وأوتيك وتيبوربوماجيس. زد على ذلك ضخامة المدن التاريخية أو ما نسميه بـ"المجموعات التقليدية" مثل صفاقس، وتستور، وكسرى، ومدينة تونس العتيقة، ومدينة تبرسق ومطماطة.

وتتم حراسة كل هذه المواقع ب 500 حارسًا فقط، وهو ما يجعل مواقعنا ومعالمنا عرضة للتدمير والاعتداء بأنواعها. فإذا ما رمنا حماية التراث، لابدّ من ضرورة مضاعفة الإمكانيات المادية والبشرية حتى يتم تأمين المواقع والمعالم بتجهيزها بكاميرات مراقبة وتكثيف الحراسة وبالتالي إنقاذها والمحافظة عليها.

مراسل "ألترا تونس" مع مدير عام المعهد الوطني للتراث فوزي محفوظ

 

  • أي دور تلعبه جمعيات صيانة المدن في معاضدة دور الدولة في حماية التراث وتثمينه؟ 

 قبل مراجعة قانون الجمعيات في تونس، كان النسيج الجمعياتي المتصل بموضوع التراث بما في ذلك جمعيات صيانة المدن ينشط بكثافة ويستجلب التمويلات الخارجية التي تذهب لصيانة وترميم المعالم والمواقع تحت اشرافنا، وتعاضد مجهود المعهد بالتطوع والاقتراح والإشارة للأخطار المحدقة بالتراث الوطني. لكن الآن تعطل كل شيء، وأصبحت الجمعيات نفسها تنتظر التمويل العمومي بما يحمله من تعقيدات وإداريات، فخفت بريقها بما فيها أعرق جمعية وهي جمعية صيانة مدينة تونس.

فوزي محفوظ: مواقعنا التراثية عرضة للتدمير والاعتداء ومن الضروري مضاعفة الإمكانيات حتى يتم تأمينها بتجهيزها بكاميرات مراقبة مع تكثيف الحراسة

وأحيطكم علمًا أن تغيير القوانين في السنوات الأخيرة حرم نسيج التراث الوطني من دعم المجالس الجهوية والمجالس البلدية ووزارة السياحة، وبالتالي لابدّ من آلية دقيقة توضح العلاقات من جديد بين المعهد وجميع المتدخلين في مسألة التراث. 

  •  هل كفّ المعهد الوطني للتراث عن القيام بأحد أدواره الأساسية وهو الترميم؟

 الترميم مكلف جدًا، ورصد ميزانية خاصة به وتنزيلها في صلب ميزانية المعهد مرتبط بتقديرات وزارة المالية. في ميزانية 2019 مثلًا، لم يُخصّص أي ملّيم للترميم وهو أمر مستغرب رغم أن هناك ترميمات مستعجلة لعدة معالم بالشمال والجنوب. وفي اعتقادي أن الأمر مرتبط أساسًا بضرورة بعث استراتيجية وطنية تخص حماية التراث والتفكير حوله وجعله يرقى إلى مستوى الأمن القومي.

اقرأ/ي أيضًا: آثار تونس.. معالم تختزل التاريخ وتعاني التهميش

  • تشوب سياسة المتاحف عدة هنات في مستوى صيانتها وتثمينها وغياب أدلتها، ونجد متاحف مبجلة وأخرى منسية رغم ما تحويه من كنوز مثل متحفي شمتو وبلاريجيا. هل تؤيد هذا القول؟ 

توجد إدارة خاصة بالمتاحف في المعهد الوطني للتراث هي "إدارة التنمية المتحفية"، وهي تسعى قدر الإمكان إلى تطوير المتاحف والمحافظة على محتوياتها وتطويرها وذلك بقدر ما يتوفر لها من خبراء وإمكانيات مادية.

فوزي محفوظ: الترميم مكلف جدًا ولم تخصّص ميزانية 2019 مثلًا أي ملّيم للترميم وهو أمر مستغرب رغم وجود ترميمات مستعجلة لعدة معالم

كما لا يفوتنا أن نذكر بأن المتاحف ذات تصرف مزدوج بين المعهد ووكالة إحياء التراث التي تتولى الاستغلال وتضع الخطط الاتصالية والترويجية من أجل التعريف وجلب الزوار، وهي تستغل إلى حد الآن 52 متحفًا وموقعًا ومعلمًا. 

ولا بد من الإشارة الى أن مجموعة متاحفنا بما فيها المتحف الوطني بباردو قد تقادمت، وبالتالي لا بد من تطويرها حسب المواصفات العالمية ومراجعة خطط العرض داخل المتاحف والقطع مع الدخول المجاني وغرس ثقافة الذهاب للمتحف عبر مجال التربية والتعليم، وأيضًا عبر خطة إعلامية طويلة المدى مع تركيز منظومة للمتاحف الافتراضية. 

  • لماذ أصرّت اليونسكو قبل الثورة على سحب الموقع الأثري بقرطاج من لائحة التراث الإنساني؟ ولماذا تكتمت الدولة التونسية عن ذلك؟ 

لم تتكتم الدولة التونسية عن هذا الموضوع وليس في الأمر سرًا، فكل ما في الأمر أنّ اليونسكو باعتبارها مركز التراث العالمي قامت بتفقد الموقع الأثري بقرطاج قبل الثورة وخاصة عندما تناهى إليها الاعتداء الذي قام به "الطرابلسية" (أصهار بن علي) على الأرض الأثرية بالمعلّقة، وكانت غير راضية عن إدارة الدولة التونسية للموقع. فوجهت عدة ملاحظات ثم عادت لتزوره بعد الثورة، ووجدت أنّ الدولة التونسية أوفت بالتزاماتها ونفذت كل ما طلب منها فيما يتعلق بالموقع، وتدخلت بقوة  بتطبيق القانون بخصوص المخالفين ومازالت بصدد معالجة الموضوع إلى اليوم. وإثر ذلك، تراجعت اليونسكو عن فكرة سحب الموقع من لائحة التراث الإنساني. 

اقرأ/ي أيضًا: قصور الجنوب التونسي.. هل تخرجها قائمة التراث العالمي من التهميش؟

  • دائمًا ما يذكر خبراء التراث في تونس بأنّ "مجلة حماية التراث" غير كافية وتتطلب مراجعات، هل تؤيد هذه الفكرة؟ زفيما تتجلى نقائص هذه المجلّة؟ 

نعم، باتت مسألة مراجعة مجلة حماية التراث التي صدرت سنة 1994 مسألة استعجالية لأنها تحتوى العديد من النقائص. فهي مثلًا لا تتعرّض إلى ذكر المتاحف والمؤسسات المرجعية في التراث والجرد الوطني والتراث اللامادي. وإذا قارنّاها بمجلة حماية التراث الفرنسية، نجد أن البون شاسع في عدد الفصول والمواضيع التراثية، فمجلتنا لا تتجاوز 7 صفحات في حين أن المجلة الفرنسية تتجاوز 300 صفحة. ولا أخفيكم سرًا إن ذكرت بأن أهل التراث في تونس يفكرون بجدية في مشروع قانون متكامل لحماية التراث.

  • بخصوص حادثة تهريب القطع الأثرية والمتحفية لفرنسا ومحاولة بيعها بالمزاد العلني. كيف تعامل المعهد الوطني للتراث مع هذا الملف النوعي؟ وهل ستتغير سياسته مع جامعي التحف والآثار التونسيين؟  

علاقتنا بجامعي التحف والآثار هي قديمة وينظمها القانون. فمنذ صدور مجلة حماية التراث، طالبت الدولة كل الجامعين بتقديم سجلاتهم حتى يظبط المعهد الوطني للتراث جردًا وطنيًا، لكن لم يتقدم للتصريح سوى 120 جامعًا فقط وهو في اعتقادي عدد قليل في مدة تقارب 26 سنة. ويبيع هؤلاء الجامعون لبعضهم البعض بعقود قانونية ومعلومة، كما يمكن للدولة أن تشتري من قبلهم إن أرادوا ذلك.

فوزي محفوظ: تضمّ القطع المهربّة إلى باريس والتي تمت إعادتها قطع لا تقدّر بثمن مثل مصحف المنصف باي، ومراسلة رسمية صادرة عن خير الين باشا ومراسلة بإمضاء العلاّمة الشهير حسن حسني عبد الوهاب

وبخصوص البيع خارج تونس، يمنع القانون ذلك منعًا باتًا. وما حدث مؤخرًا مع عائلة الجلّولي، كان مفاجأة لأن المرحوم أحمد الجلّولي كان يتعامل بجدية مع المعهد ونستعير منه أحيانًا بعض القطع من مجموعته لعرضها داخل تونس وخارجها. 

والـ114 قطعة أثرية التي هربّها أحد ورثة العائلة المذكورة للبيع في دار المزادات الباريسية تملك منها عائلة الجلولي لوحدها 105 قطعة، فيما تعود بقية القطع لجامع تونسي آخر وقد عادت جميع القطع لتونس والملف إتصل به القضاء. وأهم القطع من هذه المجموعة والتي لا تقدّر بثمن فهي مصحف المنصف باي، ومراسلة رسمية صادرة عن خير الين باشا ومختومة بختمه، ومراسلة أخرى تحمل إمضاء العلاّمة التونسي الشهير حسن حسني عبد الوهاب. 

  • البحوث الجامعية المتعلّقة بالتراث هل يستفيد منها المعهد الوطني للتراث ويوظفها في تدخلاته ويستعين بها في سياساته؟ 

طبعًا. المعهد يستعين بالبحوث التي تنتجها الجامعة التونسية التي تتعلق أساسًا بالمواقع والمعالم والتراث اللامادي. كما ينتج المعهد بحوثه الخاصة به والتي تصل إلى 120 بحثًا ودراسة علمية ينتجها 50 باحثًا يشتغلون بالمعهد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معالم المذهب الإباضي في جربة.. من فرادة المشهد المعماري إلى فضاء العيش المشترك

دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"