10-يونيو-2020

تواصلت جرائم المحتل الفرنسي بعد سنة 1956 على التراب التونسي (جيتي)

الترا تونس - فريق التحرير

 

لم تنحصر جرائم الاحتلال الفرنسي في تونس على مدى سنوات الاحتلال المباشر من 1881 إلى 1956 فقط، بل تمتد إلى سنوات ما بعد الاستقلال ومنها بالخصوص قصف قرية سيدي يوسف سنة 1958 على الحدود التونسية الجزائرية، ومعركة بنزرت سنة 1961 عدا عن ارتكابها جرائم ضد المقاومين المسلحين في جبال تونس وأريافها ممّن عارضوا مسار الاستقلال الداخلي منذ سنة 1955.

وأفادت هيئة الحقيقة والكرامة أنها تلقت بخصوص جملة الانتهاكات التي رافقت خروج الاحتلال الفرنسي من التراب التونسي، 1782 ملفًا من المقاومين من بينهم 367 امرأة، مضيفة أن عددًا من الملفات أشارت إلى وجود رفات مقاومين متناثرة في مناطق جبلية من الجنوب التونسي.

لم تنحصر جرائم الاحتلال الفرنسي في تونس على مدى سنوات الاحتلال المباشر من 1881 إلى 1956 فقط بل تمتد إلى سنوات ما بعد الاستقلال 

وارتكب جيش الاحتلال، سنوات ما قبل الاستقلال، جرائم حرب ومجازر في مناطق مختلفة من التراب التونسي حيث قام بإعدامات عشوائية، واغتصاب النساء وقتلهم، والاعتداء على الممتلكات ومصادرتها، والاعتداء على المساجد إضافة لهدم المنازل بالجرافات.

كما قام المحتل، قبيل الدخول في مفاوضات الاستقلال، بالتصفية الجسدية لعدد من القيادات الدستورية والزعماء الوطنيين في مقدمتهم مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد، والزعيم الوطني الهادي شاكر، والطبيب المناضل عبد الرحمان مامي، وذلك على يد منظمة "اليد الحمراء" الفرنسية.

اقرأ/ي أيضًا: فرنسا مطالبة بالاعتذار والتعويض عن جرائمها بحق التونسيين.. هل ترضخ؟

وانتهج سياسة الاغتيالات والتصفيات لبث الرعب في صفوف القيادات الوطنية، ولكن الملفت للانتباه هو بقاء هذه الاغتيالات دون محاسبة رغم بيان فاعليها والمتورطين فيها. بل والأغرب من ذلك هو ما ذكره المقاوم حمادي غرس بأنه تم إطلاق سراح أعضاء عصابة اليد الحمراء من طرف السلطة التونسية بعد الاستقلال، وفق ما طالعناه في تقرير هيئة الحقيقة والكرامة.

وفيما يلي عرض لأهم جرائم المحتل الفرنسي في تونس بعد الاستقلال:

معركة جبل أقري سنة 1956.. قصف فرنسي بعد شهرين من الاستقلال

شهدت جبال الجنوب الشرقي سنة 1956 سلسلة من المعارك عبر مطاردات من المستعمر الفرنسي من جهة والمقاومين الذين لم يسلموا أسلحتهم من جهة أخرى، وقد تزايدت أعداد المقاومين الرافضين لاتفاقية الاستقلال الداخلي، خاصة بعد دعوة بن يوسف لمواصلة الكفاح، وتركز هؤلاء المقاومون على الجبال الواقعة على تخوم ذهيبة ورمادة وتطاوين وغمراسن وبني خداش فيما يُعرف بسلسلة جبل الظاهر التونسي.

المقاوم أحمد المسعودي يتحدث في جلسة استماع بهيئة الحقيقة والكرامة عن معركة أقري 

 

ولعلّ من أهم المعارك التي جدت بعد الاستقلال هي معركة جبل أقري، الواقع في الناحية الغربية من قرية شنني في تطاوين. وجرت هذه المعركة بين 29 ماي/أيار 1956 والأيام الأولى لشهر جوان/يونيو، أي بعد أكثر شهرين من إمضاء بروتوكول الاستقلال، بقصف سلاح الجو الفرنسي للمقاومين، البالغ عددهم بين 300 و700 مقاومًا، مدعومًا من لجان الرعاية التابعة للحكومة التونسية الجديدة. وتعدّ أكبر مجموعة من المقاومين تلك التي قادها المقاوم العجمي المدوّر وتضم 70 رجلًا. وجرت إثرها معركة غار الجاني التي قادها المقاوم الناصر المدني مع مجموعة تضم بين 30 و40 مقاومًا وقد تمت إبادتهم جميعًا بالقصف الفرنسي ولم ينج إلا مقاوم وحيد هو بلقاسم السديري، وفق ما ورد في تقرير هيئة الحقيقة والكرامة.

المصدر: التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة

 

وتبلغ حصيلة المعركتين، جبل أقري وغار الجاني، 100 شهيدًا و100 أسيرًا و100 مفقودًا وفق مذكرات المقاوم العجمي المدوّر. وتفيد هيئة الحقيقة والكرامة أن أحد المهتمين بتاريخ تطاوين أكد أنه حين زيارته لجبل أقري بداية التسعينيات أعلمه إبراهيم الحداد، المصور الذي دُعي لتصوير الجثث بعيد المعركة، أنه أحصى 65 شهيدًا في اليوم الأول فقط، وأكثر من 25 شهيدًا في اليوم الثاني. فيما أعلنت جريدة الصباح وقتها أن حصيلة "عملية المطاردة" أسفرت عن مقتل 53 شخصًا وجرح 11 وأسر "رئيس العصابة" العجمي المدوّر. فيما قدرت جريدة العمل عدد الشهداء بـ160 شهيدًا.

كما تحدثت الهيئة أنها تحصلت على وثائق أرشيفية من مركز الأرشيف الديبلوماسي بمدينة نانت بفرنسا تشير لأعمال استنطاق فرنسية لأربعة عشر أسير من هؤلاء المقاومين الذين شاركوا في المعركة، وهو ما يطرح السؤال حول كيفية قيام السلطات الفرنسية تونسيين والحال أن البلد مستقلّ حينها؟

رفاة المقاومين كما وُجدت في السنوات الأخيرة على سفح جبل آقري بتطاوين

 

وفيما يلي الانتهاكات الحاصلة أو المرتبطة بمعركتي جبل أقري بعد الاستقلال:

  • إعدام المقاومين: أكدت شهادات شفوية أنه تم إعدام مقاومين رميًا بالرصاص وأيضًا ضربًا بالحجارة حتى الموت. وأشارت شهادة إلى أن فرقة من "الجيش الصحراوي" من المرتزقة المغاربة قام بإعدام الجرحى.
  • عدم دفن الجثث: لم تستطع عدة عائلات الصعود للجبل لدفن جثث المقاومين خوفًا من بطش السلطة الجديدة وبقيت العظام متناثرة ولم يتم دفنها إلا بعد ثورة 2011. وتفيد أحد الشهادات أن مواطنًا صعد للجبل بحثًا عن جثمان عمه بعد أشهر فلم يجد منه غير أكوام من العظام وملابس ممزقة بعد نهش السباع للحمه.
  • عدم التنصيص على وفيات الشهداء بالبلديات.
  • السجن التعسفي والتعذيب: إلقاء القبض على كل مشتبه بتعاطفه أو تعاونه مع المقاومين في جبل أقري وزج الكثير منهم في معتقل بثكنة تطاوين في ظروف قاسية ومن ذلك رش مسحوق الحشرات على أجساد المساجين والتحقيق معهم تحت التعذيب. وقد أفرج الحبيب بورقيبة عن عدد منهم في زيارته لتطاوين في جوان/يونيو 1956.
  • حرمان أسر الشهداء من المساعدات الاجتماعية واستثناؤهم من الرعاية الاجتماعية بمختلف أشكالها.

أحداث سيدي يوسف سنة 1958

تعدّ أحداث سيدي يوسف، التي جدت يوم 8 فيفري/ شباط 1958، والتي ذهب ضحيتها 68 مدنيًا من تونس والجزائر لتختلط دماء الشعبين إثر قصف قوات المستعمر الفرنسي للسوق الأسبوعية في القرية، واحدة من أبرز جرائم فرنسا على التراب التونسي بعد الاستقلال.

اقرأ/ي أيضًا: الجرائم الفرنسية ضدّ التونسيين والثأر غير المنسي

وتقع ساقية سيدي يوسف على الحدود التونسية الجزائرية وتتبع ولاية الكاف، وهي قريبة جدًا من مدينة لحدادة الجزائرية التابعة إداريًا لولاية سوق أهراس. وشكّلت القرية التونسية آنذاك منطقة استراتيجية لوحدات جيش التحرير الوطني المتواجد على الحدود الشرقية وتمّ استخدامها كقاعدة خلفية للعلاج واستقبال الجرحى، الأمر الذي دفع فرنسا إلى اعتماد "أسلوب العقاب الجماعي" وذلك بضرب القرية الحدودية الصغيرة.

أثار قصف سلاح الجو الفرنسي لقرية سيدي يوسف سنة 1958 (كيستون/جيتي)

 

وقد اختار المستعمر الفرنسي يوم 8 فيفري/ شباط لتنفيذ الغارة الجوية رغم معرفته أن هذا اليوم هو يوم سوق أسبوعية بساقية سيدي يوسف. إذ داهمت عشرة أسراب من الطائرات القاذفة والمطاردة الفرنسية القرية واستهدف القصف دار المندوبية آنذاك (مقرّ المعتمدية حاليًا) والمدرسة الابتدائية وغيرها من المباني الحكومية ومئات المنازل فيما كانت المطاردات تلاحق المدنيين.

وتواصل القصف الفرنسي حوالي ساعة من الزمن لتتحول إثر ذلك القرية إلى خراب ويسقط 68 قتيلًا من بينهم 12 طفلًا أغلبهم من تلاميذ المدرسة الابتدائية، و9 نساء وعون من الجمارك، في حين بلغ عدد الجرحى 87 جريحًا.كما تمّ تسجيل عديد الخسائر المادية.

وتزامن القصف الفرنسي على ساقية سيدي يوسف مع وجود مندوب الصليب الأحمر الدولي آنذاك الذي صرّح أن القاذفات الفرنسية دمّرت ساقية سيدي يوسف وحطّمت ثلاث عربات تابعة للصليب الأحمر السويسري وشاحنة تابعة للهلال الأحمر التونسي، والتي كانت مشحونة بالملابس المعدّة لتوزيعها.

معركة بنزرت سنة 1961

قامت الدولة الفرنسية بأمر من رئيسها شارل ديغول، الذي قرر أن يعطي "درسًا" إلى تونس، بجريمة حرب في بنزرت صيف 1961 حينما خاضت بلاده، وهي ثالث أقوى دولة في العالم وقتها، بشن حرب غير متكافئة قُتل فيها آلاف التونسيين الأبرياء وذلك من أجل إبقاء سيطرته على أرض خارجة عن سيادتها. وأعلنت هيئة الحقيقة والكرامة أنها تلقت 41 ملفًا يتعلق بالانتهاكات المرتبطة بهذه المعركة التي خلفت 5 آلاف شهيد.

تعمدت القوات الفرنسية خلال معركة بنزت قتل المدنيين العزل من نساء وأطفال والتمثيل بجثث القتلى من قطع للأعضاء التناسلية ودفن الجرحى أحياء 

وبدأت خيوط المواجهة بعد تعمد الأميرال ماوريس أمان، المشرف على قاعدة بنزرت، الشروع في أشغال تمديد مهبط المطار العسكري متجاوزًا الحدود التونسية بـ150 مترًا، ليسدي بورقيبة أوامره لوالي بنزرت بمطالبة قائد القاعدة بإيقاف الأعمال الجارية. وتتالت المراسلات آخرها بين بورقيبة وديغول إلى غاية إعلان الإذاعة الوطنية في 19 جويلية/يوليو 1961 أن الجيش التونسي تلقى تعليمات بمنع تحليق الطائرات الفرنسية في المجال الجوي التونسي وقامت المدفعية التونسية بتدمير طائرة فرنسية في القاعدة، ليأتي الرد الفرنسي عنيفًا أمام حداثة الجيش التونسي في بلد نال استقلاله منذ 5 سنوات فقط.

ارتكبت فرنسا جرائم حرب في معركة بنزرت (دومينيك بريتي/جيتي)

 

وتعمدت القوات الفرنسية خلال المعركة قتل المدنيين العزل من نساء وأطفال، وربط أيدي الأسرى برباط من المعدن وقتلهم من مسافة قريبة، والتمثيل بجثث القتلى من قطع للأعضاء التناسلية وقطع الأيدي والأرجل، ودفن الجرحى أحياء وحرق جثث القتلى وحرق الفارين من القتال بالصواريخ في سياراتهم، وذلك وفق التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة.

وطالت انتهاكات المحتل الفرنسي الأملاك العامة والخاصة حيث تركز القصف الجوي على البنية التحتية الصناعية بتدمير مصنع الإسمنت ببنزرت، وتدمير مصحة متعددة الاختصاصات، وتدمير معدات مدرسية ومقر الكشافة في "الرمال"، وتدمير مركزي الأمن والحرس في بنزرت المدينة، وتدمير 60 عربة قطار منها التي تحمل مؤونة من القمح والسكر عدا عن إتلاف المحاصيل الزراعية في المنطقة وغيرها من الانتهاكات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطيب الزلاق والطيب غرسة.. تخليد ذكرى مناضليْن أسقطهما "تاريخ السلطة"

"فوّهة الحنجرة".. البعد الفني للمقاومة المسلحة زمن الاستعمار