حينما تتجوّل في مدينة تونس العاصمة متسللًا عبر الأزقة والشوارع التاريخية، تعاين قصر ابن أبي الضياف في "زنقة" سُميت باسمه، وغير بعيد "دار بن عبد الله" المهجورة، فيما يكشف لك الدخول خلسة إلى "تربة الباي" (مدافن العائلة الحسينية) تداعي جزء من السقف وسقوطه على القبور. وغير بعيد، تجد مبنى في "نهج الكوميسيون" تحوّل إلى مرحاض عمومي ومستودع للسلع مكتوب فوقه بالإيطالية "جوزيبي غاريبالدي" بطل توحيد ايطاليا.
تعاني عديد المعالم التاريخية والأثرية في مدينة تونس العاصمة من الإهمال في ظل ضعف تدخل الجهات المعنية لترميمها وتثمينها
تواصل السير في العاصمة، فتعترضك المباني التاريخية منها التي تعود للقرن التاسع عشر في شارع "لافيات"، حيث تعاين مباني تحوّلت إلى مؤسسات على الطراز العصري، ومباني أخرى من "فيلات" وبيوت مُهملة بعضها متداعي للسقوط، وتشاهد أحيانًا آلات ضخمة للهدم في هذه المنطقة.
"ألترا تونس" يفتح، في هذا التقرير، ملف المباني التاريخية المُهملة في مدينة تونس العاصمة مع أهل الاختصاص.
اقرأ/ي أيضًا: تيه ليليّ رمضانيّ في مدينة تونس العتيقة...
عدنان بالنجمة (عضو هيئة المعماريين التونسيين وناشط مدني): نحذر من قانون المباني الآيلة للسقوط
يتحدث عضو هيئة المعماريين التونسيين وعضو جمعية "معالم وذاكرات" عدنان بالنجمة لـ"ألترا تونس"، بخصوص المعالم التاريخية في تونس العاصمة، عن "تراث معماري على قارعة الإهمال" محذرًا من خطورة التهديد الذي تواجهه المباني المعمارية التاريخية غير المسجلة ضمن التراث التونسي أو حتى تلك المحمية في ظل "الاستخفاف بأهمية تاريخ البلاد بكل أجزائه وروافده".
عدنان بالنجمة (عضو هيئة المعماريين التونسيين): المباني المعمارية التاريخية غير المسجلة ضمن التراث التونسي أو حتى تلك المحمية مهدّدة
وذكّر أن وزارة التجهيز قدمت مشروع قانون متعلق بالبنايات الآيلة للسقوط لازال في أدراج البرلمان ينص على إمكانية تدخل المجالس البلدية لهدم البنايات الآيلة للسقوط طبقًا لدراسة من طرف فنيين، متسائلًا: "ما مدى إدراك هذا الفني لقيمة البناية؟ نحن نطالب بأن يكون المختصون في التراث هم المعنيون بتقييم المباني".
هيئة المعماريين التونسيين من مشروع قانون البنايات الآيلة للسقوط (Getty)
ويضيف محدثنا أن هيئة المعماريين التونسيين والمجتمع المدني المعني بالتراث مازالا متخوفين من تمرير هذا القانون الذي سيدعم بشكل قانوني هدم معمار القرنين 19 و20 في تونس وفق تأكيده.
وقال إن المصادقة على هذا القانون هو "إعلان محو لتاريخ البلاد" متسائلًا عن سبب عدم تشريك المختصين في التراث عند صياغته. ويضيف في هذا الجانب: "نشك في النوايا ويمكن أن نتحدث عن وجود مصالح للمضاربين العقاريين".
وأكد أن مصالح هذه الأطراف وإن كانت مشروعة، فهي تبقى غير شرعية بمنظار التراث والتاريخ مطالبًا كل الأطراف المتدخلة في الملف إلى ضرورة إدراك خطورة مشروع القانون المقدّم على محو تاريخ البلاد، وفق تعبيره.
زبير الموحلي (الرئيس السابق لهيئة "صيانة مدينة تونس"): ترميم عدة معالم ينتظر التمويلات
وتاريخ تونس العاصمة سعت هيئة "صيانة مدينة تونس"، بحسب رئيسها السابق والخبير في التراث المعماري زبير الموحلي، إلى المحافظة عليه عبر المساهمة في ترميم 26 سوقًا في قلب المدينة العتيقة، وترميم "الصوابط" (ممرات مغطاة)، والأقواس والكتاتيب مبينًا أن المدينة تضم أكثر من 400 "صبّاط".
اقرأ/ي أيضًا: أبواب تونس العتيقة.. حكايات التاريخ والحضارة
وقال، في حديثه معنا، إن الجمعية أتمّت مشروع ترميم وإحياء جامع الزيتونة المعمور، وسوقي "القماش" و"العطارين" المحاذيين بتمويل من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وهو مشروع أعاد لهذا المعلم جزءًا من زخارفه التي طمست بفعل تسقيف الأسواق المحيطة به، وفق قوله. وأضاف أنه من المشاريع المنجزة بناء المركز المتوسطي للفنون التطبيقية الذي تأويه كنيسة ودير الصليب المقدّس بنهج جامع الزيتونة.
زبير الموحلي (الرئيس السابق لهيئة "صيانة مدينة تونس"): المخزون التراثي المعلمي يرمي من جملة أهدافه إلى تنمية سياحة ثقافية في تونس
وبيّن الموحلي لـ"ألترا تونس" أن معالم تاريخية في تونس العتيقة بالغة الأهميّة تنتظر التمويلات لإنقاذها بعمليات ترميم وإعادة توظيف تبعث فيها الرّوح من جديد من بينها المدارس التكوينية في الحرف التقليدية التي أصبحت في حالة إنشائية متدهورة كـ"المدرسة المرادية" و"المدرسة الشماعية".
وأضاف أن من بين المعالم المعنية بالترميم والتهيئة أيضًا المدرسة المغربية، و"زاوية سيدي الكلاعي"، و"دار الحيدري"، و"دار بلحسن"، و"دار بيرم التركي". كما تحدث عن تهيئة "فندق الفرنسيس" لإيواء "شهر الصورة" وورشات للفنّانين الأجانب الذين يشاركون في تربصّات وتدريبات بنهج "الديوانة القديمة".
معالم تاريخية عديدة في تونس العاصمة بحاجة إلى الترميم (Getty)
وأكد أيضًا على ضرورة ترميم "الكونسارفاتوار" القديم بنهج "زرقون"، ونهج "فبريكات الثلج" وتخصيصه لنفس الوظيفة السابقة، الى جانب إعادة تهيئة المكتبة الوطنية السابقة في "قشلة العطارين القديمة" وتحويلها إلى مركز ثقافي ومتحف للمخطوطات النادرة ومدرسة لفنون الخطّ.
ويطالب الخبير في التراث المعماري بإعادة المعالم التي كانت مفتوحة للزوّار في المسلك السياحي القديم كـ"دار بن عبد الله" (متحف العادات والفنون التقليدية) وتربة البايات. وقال إنه توجد معالم مغمورة كانت ترمّم ثمّ تغلق حتّى تتدهور حالتها من جديد مثل "متحف سيدي بو خريصان– ميضاة السلطان"، داعيًا إلى تهيئة وترميم مركز ثقافي ووثائقي بـ"دار خريّف" وعنوانه 15 و17 نهج "سيدي زهمول".
وبين الرئيس السابق لهيئة "صيانة مدينة تونس"، في ختام حديثه معنا، أن المحافظة على هذا المخزون التراثي المعلمي يرمي من جملة أهدافه إلى تنمية سياحة ثقافية وهو خيار اقتصادي أساسي، وفق تأكيده.
اقرأ/ي أيضًا: آخر سكّان "الوكايل"... انتظار الموت تحت سقف متداعي؟!
المعهد الوطني للتراث: التدخلات اللازمة أكبر من إمكانياتنا
وتوجه "ألترا تونس" إلى الجهة الرسمية المعنية بالمعالم التاريخية في تونس، والحديث عن المعهد الوطني للتراث الذي يُعنى بالمعالم التاريخية بالمنطقة المحمية للمدينة كتراث عالمي والمسؤول عن ترميم معالمها من مدارس وجوامع وزوايا وترب.
وأكد لنا محافظ مدينة تونس، ممثل المعهد، منتصر جمور أن المحافظة لا يمكن أن تتدخل إلا لترميم المعالم المصنفة بقرار صادر بالرائد الرسمي، مبينًا أن مساهمتها في أشغال الترميم لا تتجاوز 50 في المائة حسب الإمكانيات المتاحة.
دعوات لتثمين المعالم التاريخية في تونس في المجال السياحي (Getty)
وأوضح، في هذا الجانب، أن التدخلات التي يجب أن تقوم بها المحافظة تفوق عشرات المرات الإمكانيات المتوفرة كاليد العاملة، والمعدات إلى جانب الاعتمادات المالية مشيرًا إلى أن عملية الترميم مكلفة جدًا، ومبينًا أن اليد العاملة يجب أن تكون مختصة وكذلك مواد الترميم.
وأشار إلى أن العديد من القصور والديار التاريخية الموجودة تعود ملكيتها للخواص ولا يمكن التدخل لترميمها مبينًا أن كل ما يمكن فعله من جهة المحافظة هو المتابعة والتنسيق في الملف الفني والتقني لهذه المعالم.
وفيما يتعلق بأشغال الهدم لبنايات تاريخية في العاصمة وبالخصوص في "لافيات"، نبّه محدثنا أن أصحاب هذه البنايات تحصلوا على رخص من البلدية دون العودة لمعهد التراث، ودون التمكن من التنبيه بأنها معالم تاريخية.
منتصر جمور (المعهد الوطني للتراث): محافظة مدينة تونس في المعهد لا يمكن أن تتدخل إلا لترميم المعالم المصنفة بقرار صادر بالرائد الرسمي
وكان قد تأسس، في مارس/آذار 2019، مركز "معالم وتاريخ مدينة تونس" في القصبة، وهو يعدّ، بحسب المحافظ المستشار ثريا العامري إحدى المشرفات عليه، "بوابة للتونسيين والسياح يتعرفون عبر التجوال في أروقته على أبرز المواقع التاريخية للمدينة العتيقة إلى جانب اكتشاف كل مراحلها التاريخية".
وتؤكد العامري، لـ"ألترا تونس"، على أن الحفاظ على تاريخ المدينة ومعمارها يتطلب وعيًا مواطنيًا يساعد مجهود المعهد الوطني للتراث والوكالة الوطنية لحماية التراث على اعتبار أن محاولة طمس خصوصية هذه المعالم تجري من قبل مالكي بعض البيوت التاريخية أو بعض الأجوار. وأضافت أن الحفاظ على هذه الثروة التاريخية مسؤولية وطنية تعني الجميع، وفق تعبيرها.
اقرأ/ي أيضًا:
"الماجل الأزرق" و"خزان السُّفرة".. معالم مائية تاريخية تصارع من أجل البقاء