22-مايو-2019

جولة في أنهج وأزقة مدينة تونس العتيقة في ليالي رمضان الروحانية (Getty)

 

تصدير: "الليل أم الإنسان" (الكاتب اليوناني نيكوس كزنتزاكي)


المدينة العتيقة بتونس العاصمة أو "المدينة العربي" هي شقيقة دمشق وغرناطة. نشأت منذ أكثر من عشرة قرون من الحقب التاريخية والقصص والحكايات، إنها سيدة العهود وقاهرة الأزمان وماسكة الأساطير وصانعة الأمجاد والشاهدة على الخيبات. كلّ هذا تدفع به في متاهة أزقتها اللامتناهية فنعثر عليه في شقوق الجدران وفي المنعطفات والزوايا.

تتحوّل المدينة العتيقة بتونس أو "المدينة العربي" في ليلها الرمضاني إلى أمّ حانية تستقبل زائريها بابتسامتها المعهودة وكرمها اللامحدود

تبدو "الحاضرة" أو "ترشيش" نجمة ساطعة في ذاكرة التونسيين وبستانهم الخلفي الذي يعودون إليه حنينًا وفخرًا واستجمامًا، تنقصنا فقط تجاهها بعض اللّهفة وقليل من الحب لتصبح أجمل مدينة تراثية في العالم وهي التي صنفتها اليونسكو تراثًا إنسانيًا منذ سنة 1979.

وينسدل، في شهر رمضان الكريم، على المدينة العتيقة بهاء خاص فتشعر أن السماء أقرب إلى قلبك وأنك محمول على أجنحة الفراش، ويتحول ليلها الرمضاني إلى أمّ حانية تستقبل زائريها بابتسامتها المعهودة وكرمها اللامحدود.

رحلة التيه.. من باب سويقة إلى دار الأصرم

انطلقنا في تيه نحو ليل "المدينة العربي" من جهة "ربط باب سويقة" أو "بلاد الكافيشانطة" (مقاهي الغناء والرقص) حتى مطلع الفجر. ومن فرط التذكر والتجول في أروقة في تاريخ الموسيقى التونسية، تتناهى إلى مسمعك المعازف الخالدة لملك الكمان رضا القلعي وترنيمات شافية رشدي وصليحة ولويزة التونسية، ويتناهى إليك أيضًا صوت أحمد حمزة والهادي القلال وكذا رنّات خلخال الراقصتين الشهيرتين "زينة وعزيزة" حتى يخيّل إليك أنك في سهرة رمضانية في ثلاثينيات القرن الماضي عندما كان الفن والغناء ممارسة يومية للتونسيين.

 

ألعاب استعراضية في سهرة رمضانية في باب سويقة (صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

سلكنا درب "نهج الباشا" ومررنا أمام مدرسته الشهيرة الخاصة بتدريس الفتيات المؤسسة سنة 1900 والتي تخرجت منها أجيال من سيدات تونس العظام منهن توحيدة بالشيخ أول طبيبة تونسية، كما مررنا أمام منازل عامرة بالروائح ومرح الأطفال وجميلات يختلسن النظر من شرفات "البرمقلي" (النافذة المشبكة التقليدية في المعمار التونسي).

اقرأ/ي أيضًا: المدن العتيقة في الدراما والسينما: تيمة نجاح وأكثر من ديكور

تفوح رائحة التاريخ من "نهج الباشا" عندما تقف أمام "دار بن عاشور" المجاورة لمسجد العائلة إذ كانت العائلات الأرستقراطية أو ما يعرف بـ"البلديّة" تحدث لنفسها مساجد خاصة بها لا تلتحم بعامة الناس. وعائلة بن عاشور هي من أشراف الأندلسيين الذين استوطنوا تونس بعد التهجير القسري للمسلمين إثر سقوط ملوك الطوائف وسيطرة الأسبان المسيحيين، والمعلوم أن آل ابن عاشور هم سلالة من علماء الدين والمفكرين والسياسيين ولعل من أهم وجوهها الشيخ الجليل محمد الفاضل بن عاشور صاحب "التحرير والتنوير" الذي ترأس مشيخة جامع الزيتونة المعمور لسنوات طويلة. وقد تحول منزل العائلة إلى مكتبة عمومية فيما تتعالى من المسجد صلاة التراويح لتخيم على ليل المدينة العتيقة ترنيمات من السماء.

 

تظهر شرفات "البرمقلي" والقناديل المعلقة على أغصان الأشجار في المدينة العتيقة (رمزي العياري/ألترا تونس)

 

ولا يكتمل التجوال الرمضاني بمدينة تونس العتيقة دون التوقف بساحة "التريبونال" حيث القناديل الخضراء معلقة على أغصان الأشجار وحيث معرض "قصر خير الدين" الذي لا تشبع قاعاته وجدرانه من الأعمال الفنية والتشكيلية التونسية والعالمية، وقد تقضي نصف السهرة الرمضانية وأنت مدهوش بما غدّرته الفراشي على بياض قماشات الفنانين.

لا يكتمل التجوال الرمضاني بمدينة تونس العتيقة دون التوقف بساحة "التريبونال" حيث القناديل الخضراء معلقة على أغصان الأشجار

تورطك في جمال مكونات هذه الساحة الفاتنة يجعلك في حيرة من المسالك والدّروب لكنك في لحظة ما تقرر زيارة "دار الأصرم"، القصر المهيب الذي بناه حمودة الأصرم بين 1812 و1819 وهو عسكري من أعيان حكم العائلة الحسينية التي حكمت تونس لثلاثة قرون متتالية.

والدار التي تحولت ملكيتها إلى بلدية العاصمة منذ سنة 1969 تشغل حاليًا المقر الرئيسي لـ"جمعية صيانة مدينة تونس" لكنها لا تتردد في فتح فضاءاتها ذات الطراز المعماري الأندلسي والعثماني للأنشطة الثقافية وخاصة فعاليات "مهرجان المدينة" الذي بعث سنة 1984 لينشط في رمضان ويعطي للسهر الرمضاني أبعادًا فنية وثقافية ذات مزاج روحاني. فمن داخل "دار الأصرم" ولعقود، صدحت أصوات أبرز الفنانين والمطربين التونسيين والعالميين لكن تبقى "نوبّ المالوف" التي تتردد في صحن القصر بهجة للروح فتزيد من خفتها ورفعتها وسموّها.

 

"مهرجان المدينة" هو مهرجان سنوي ينتظم في ليالي رمضان (رمزي العياري/ألترا تونس)

 

وفي أول انعطافة جنوب "دار الأصرم"، تظهر "دار الجزيري" التي عرفت الاجتماع الأول للحزب الدستوري الجديد بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة ومجموعة من الشباب بعد الانشقاق عن الحزب القديم بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، ولذلك يعدّ هذا البيت جزءًا من تاريخ الحركة الوطنية التونسية ضد المستعمر الفرنسي. وقد حوّلت وزارة الثقافة هذه الدار منذ سنة 1993 إلى "بيت الشعر"، وهو أول بيت للشعر في الوطن العربي أداره في سنوات التأسيس الشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد.

معالم القصبة.. تاريخ خالد وروحانيات عامرة

تغادر المكان في اتجاه القصبة مرورًا بمدرسة بئر الأحجار التي كانت مبيتًا لطلبة جامع الزيتونة الذين يأتون من البلدان العربية والإفريقية لطلب العالم، لكنك تتوقف في "ساحة رمضان باي" وهو المكان الذي شهد أحداثًا تاريخية هامة أيام الاستعمار لموقعه الإستراتيجي، لكن ارتبط التونسيون به خصوصًا لأنه شهد تصوير إحدى أشهر المسلسلات الدرامية التونسية في تسعينيات القرن الماضي وهو "الخطّاب على الباب". ولم يبق الآن من ذاك الحدث الفني سوى بعض الأطياف والذكريات التي يرددها سكان الأنهج المتفرعة عن الساحة الصغيرة الساحرة.

يزدحم نهج "سيدي بن عروس" بعشاق السهر الرمضاني الذين يأتون من كل فجّ عميق لاستكناه "المدينة العربي" والتمتع بالجلوس في مقاهيها وترشف قهوتها العربية واستنشاق رائحة نارجيلتها

شاهد/ي أيضًا: فيديو: مع جمال بن سعيدان..رحلة في عشق تونس العتيقة

ثم تتوغل في جولتك في اتجاه نهج "سيدي بن عروس" المزدحم بالتاريخ وعشاق السهر الرمضاني الذين يأتون من كل فجّ عميق لاستكناه "المدينة العربي" ليلًا والتمتع بالجلوس في مقاهيها وترشف الشاي المنعنع وقهوتها العربية الأصيلة واستنشاق رائحة نارجيلتها. وأول ما تراه عينك بهذا الزقاق الصغير هو جامع حمودة باشا المرادي بصومعته المثمنة المهيبة، وقد شهد أول صلاة في رمضان 1655 وهي سنة انتهاء أشغال بنائه، وهو من أهم جوامع المذهب الحنفي في عصره ويحتوى داخله على تربة العائلة المرادية. وينتشر جلاّس المقاهي الرمضانية في هذا النهج فيتعالى ضجيجهم وأصوات أسمارهم، لكن أغلبهم لا يعلم أنهم يجلسون في رحاب الوليين الصالحين "سيدي بن عروس" و"سيدي الكلاعي" ومقاميهما الموجودين هناك.

وفي اتجاه "سوق الترك"، يجد الزائر نفسه في حضرة درّة المدينة العتيقة وتاج معالمها وهو جامع الزيتونة المعمور الذي بناه حسّان بن النعمان فاتح تونس في القرن الأول للهجرة وتحديدًا سنة 699 ليكون بذلك ثاني الجوامع بالبلاد التونسية بعد جامع عقبة بن نافع بالقيروان.

 

عائلات جالسة على عتبات جامع الزيتونة المعمور في إحدى ليالي رمضان (Getty)

 

يجلس الشباب على عتبات بوابته الرئيسية للسهر وتجاذب أطراف الحديث، عتبات وطأتها أقدام العلماء والشيوخ العظام وهي تحث الخطى للصلاة وطلب العلم. وكانت الساحة الموجودة أمام جامع الزيتونة فيما مضى ولقرون طويلة سوقًا تباع فيها الكتب وتقام فيها المزادات للكتب النادرة المستجلبة من مطابع الشرق.

وليس بعيدًا عن جامع الزيتونة المعمور وفي اتجاه المدينة العصرية، يوجد باعة الحلويات التونسية الأصيلة من مقروض، وبقلاوة، وكعك ورقة، و"وذنين القاضي" و"قراوش"، هي ألوان من البهاء التونسي لا يحلو السهر الرمضاني من دونه.

 

محلّ لبيع الحلويات التقليدية التونسية في ليالي رمضان (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مرورًا بأشهر مقاهي "المدينة العربي"، مقاهي "الزيتونة"، و"الترك"، و"مرعي"، و"المرابط" وكذا مقهى سوق الشواشين وجميعها دائمًا ما تكون مزدحمة، تنتهي رحلتنا بالمدينة العتيقة بالعاصمة بالوصول الى ساحة القصبة أين يوجد قصر الحكومة أو "دار الباي" الذي بُني بين 1613 و1666 واتخذه الصادق باي من مقرّات الحكم خاصة في شهر رمضان لقربه من جامع الزيتونة، والمكتب الذي يدير منه رئيس الحكومة اليوم الحكم في تونس هو نفسه مكتب الصادق باي "صاحب المملكة التونسية".

 

تزدحم مقاهي "المدينة العربي" في ليالي رمضان (Getty)

 

وتحوي ساحة القصبة أو مربّع الكنوز والتاريخ اليوم مجمّعًا وزاريًا أغلب مقرّاته كانت قصورًا مرموقة للحكم الحسيني، وتضم معالم أهمها مستشفى العزيزة عثمانة، والمدرسة الصادقية، و"مشيخة المدينة"، وضريح الزعيم النقابي فرحات حشاد، عدا عن جامع القصبة الذي بناه أبو زكرياء الحفصي سنة 1292 عندما أعلن استقلال تونس عن الدولة الموحدية بالمغرب الأقصى، وسميّ "جامع القصبة" لأنه بني داخل قلعة تضم قصرًا للحكم وحيًا سكنيًا صغيرًا هو الآن مقر وزارة الدفاع الوطني.

مدينة تونس العتيقة بالعاصمة، أو "البلاد العربي" كما يحلو للعديد تسميتها، هي كون تونسي عامر بالتاريخ وجمال المعمار والذوق الرفيع، يروي قصة الإنسان التونسي ورحلته مع الدين والحضارة والفن والثقافة. كون يتحوّل في شهر رمضان المعظّم الى مزار زاخر بالروحانيات فيمنحك تيهها حلولًا في بحار الجمال والحب، حينما يزهى ليلها ويينع قرنفلها على الشرفات وتتصاعد من أفنية جوامعها أدعية المحبة الخالصة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المدير الفني لمسرح الربط: هدفنا إحياء المدينة العتيقة ولم نتلق دعمًا (حوار)

من منسيات تونس.. قبر الجندي المجهول