19-أغسطس-2018

مدخل داموس من دواميس سوسة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

كلما جبت طرقات مدينة سوسة وخاصة المنطقة الشمالية الغربية منها في منطقة "بو حسينة" خلف "جامع الغزالي" أغرق في تفاصيل الحياة وبناءاتها المتراصة، لا أرى في هذا المكان خصوصية عمرانية تذكر بل منازل وشقق ومدارس وطرقات معبدة وضوضاء الحركة المرورية، وأرى وجوهًا واجمة كل في حال سبيله. غير أنني أقف هناك على مبنى كتب عليه "دواميس الراعي الطيب" وأقف على علامات تشير إلى مدخل الداموس. حاولت أن أتطلع إلى ما يخفيه هذا المبنى ولكن لم أستطع لكونه مغلقًا منذ سنوات لأعمال صيانة داخله.

دواميس سوسة من أقدم المعالم التاريخية الأثرية في تونس وهي مدافن تحت الأرض تعود للقرن الثالث والرابع بعد الميلاد

وصادف يومًا أن دخلت هذا المبنى الصغير المؤثث بعلامات وصور وبيانات ومجسمات ودلائل عن تاريخية المكان. اكتشفت أنني على أعتاب مدافن لمدينة سوسة القديمة أو "حضرموت" كما كان يسميها القدامى، بيني وبين أهل "حضر موت" باب حديدي صغير وسلالم قليلة ستكون سبيلي للنزول إليهم والمرور عبر مئات الأمتار من الأروقة تحت الأرض. أمسكت الأنفاس في أولى سلالم النزول، وكلما نزلت درجًا إلا وغصت في الصمت وكنت أقاوم مخاوفي من رهبة الموت فيتقطع النفس كلما رأيت الهياكل العظمية.

عندما تعبر الأروقة ترى المدافن المحفورة في الصخر في شكل تجاويف في الحائط ويصل عدد القبور إلى أربعة فوق بعضها البعض، وفي كل قبر كانت الجثث تغطى بطبقة من الجير وتكفّن لمنعها التعفّن، ثم يقع غلقها بألواح فخارية.

أحد أروقة دواميس سوسة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

وخلال زيارة الموقع، لاحظنا وجود فتحات ضيقة في أسقف الأروقة تستعمل للتهوئة والإنارة حسب ما أكده لنا المرشد المرافق لنا من المعهد الوطني للتراث. وخلال اطلاعنا على تقرير المجتمع الأركيولوجي بسوسة الصادر سنة 1904 والمنشور بالمكتبة الوطنية الفرنسية، أكد المكتشفون أن بعض السراديب تعود إلى القرنين الثالث والرابع بعد المسيح وهي وثنية من خلال النقائش المنحوتة على اللوح الخزفي، في حين أن سراديب أخرى تعود إلى القرنين الرابع والخامس للميلاد ترسخ التواجد المسيحي وتؤكدها الأرضيات الفسيفسائية.

اقرأ/ي أيضًا: آثار تونس.. معالم تختزل التاريخ وتعاني التهميش

وقد تم كشف خمس مدافن تحت الأرض بمدينة سوسة اُتخذ لها أسماء مستوحاة من النقائش والزخارف المأتمية التي تم العثور عليها داخل الدواميس، والأربعة الأهم هي دواميس "الراعي الطيب" و"أجريبيا "و"هيرماس" و"سيفريوس".

تعود دواميس "هرماس" إلى القرن الثالث والرابع ميلادي، وتحتوي على العديد من المدافن العائلية ويبلغ طول أروقتها 545 مترًا وتضم أكثر من 2000 قبرًا من بينها 500 قبرًا محفورة في أرضية الأروقة. أما دواميس "سيفريوس"، فهي تعود إلى القرنين الرابع والخامس ميلادي ويبلغ طول أروقتها 1767 مترًا كما تحتوي 3738 قبرًا وبعض الأماكن المخصصة للمدافن العائلية وقاعات الاجتماعات. في حين أن داموس "أجريبا"، يعود إلى القرن الثالث للميلاد ويحتوي 18 رواقًا يبلغ طولها 170 مترًا وتشتمل على 172 قبرًا، حسب آخر الحفريات الاركيولوجية في المواقع المذكورة.

قبر مفتوح في دواميس سوسة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

وجدير بالذكر أن هذه الدواميس المذكورة غير مفتوحة للعموم وظلت مغلقة إلى اليوم لا ينفذ إليها أي شخص، في حين أن الداموس الوحيد المفتوح جزء من سراديب "الراعي الطيب". وقد اكتشف مقبرة "الراعي الطيب" الكولونيل فانسون سنة 1888، ويضم هذا الداموس 115 رواقًا ويبلغ طولها 1557.5 مترًا ويحتوي على 4924 قبرًا ومدفنين عائليين وقام المطران أوغستين لينود بمواصلة عملية التنقيب منذ سنة 1901.

الكولونيل فانسون والمطران لينود: رحلة الكشف عن سراديب الموتى

تحدثت عديد المقالات عن دعوات لحج المسيحيين إلى سراديب الموتى بسوسة باعتبارها إرثًا مسيحيًا بالغ الأهمية فهي الأهم في إفريقيا والمنافس الأكبر لمثيلتها في روما والأكثر صيانة وحفاظًا على معالمها الأولى. وقد رافقت هذه الدعوات حملة للتنصير والتبشير بالديانة المسيحية في ربوع تونس وإفريقيا باعتبارها تضم إرثًا مسيحيًا ضخمًا.

وفي مقال لألكسندر بون نشر في جريدة "الصليب" ( La croix) الفرنسية بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1913، اعتبر المستعمر الفرنسي أن الدواميس هي ثروة مستقبلية لفرنسا ناهيك عن ذكرى المسيحيين التي استيقظ عليها علماء الآثار، و قد دعا رجال دين مسيحيين إلى تنظيم رحلات منظمة من فرنسا والجزائر لأصدقاء الفنون والاطلاع على ثروات دواميس "الراعي الطيب" من فسيفساء ونقوش موزعة بين المتاحف داخل السراديب مستغلين في ذلك اعتدال الطقس بسوسة. كما قال إن زيارة هذه الدواميس ستحيي التراث العلماني والمسيحي باعتبار الطابع الوثني لاثنين من الدواميس، والطابع المسيحي لثلاثة آخرين وذلك من ضمن الدواميس الخمسة المكتشفة.

استغل الفرنسيون سراديب سوسة باعتبارها إرثًا مسيحيًا في حملة للتنصير والتبشير بالديانة المسيحية في تونس 

وقص الكسندر بون في نفس المقال رواية اكتشاف الدواميس قائلًا: " اكتشف الكولونيل فانسون من القيادة العسكرية الرابعة السراديب لأول مرة حين شاهد ثقبًا دائريًا صغيرًا على سطح الأرض لا يسع فأرًا للدخول إليه فاتصل برجاله لتوسيع الفجوة بالقدر الكافي وسرعان ما رأوا بناء لقبر روماني مسطح داخل القبو". وأفاد بون أن المطران أوغسطين لينود السكريتير السابق للكاردينال لافيجري في سوسة استأنف سنة 1901 أعمال فانسون في التنقيب، باعتبار أن المطران كان شغوفًا بسراديب الموتى بمساعدة الدكتور كارتون وهو عالم آثار متميز ومؤسس للجمعية الأثرية بسوسة.

المطران أوغيستين لينود

ويواصل الكسندر بون روايته، التي اطلعنا عليها، قائلًا: "كنا نحتفل بالأسرار التي تخبؤها السراديب فندخل في متاهة الأزقة والتقاطعات المتشابكة ويوصينا لينود بالتقدم بحذر فهذه المتاهة مخيفة فعلًا ونحتار كل مرة أي طريق نختار".

وفي سراديب "هيميريس" كما تنتشر الأموات بالآلاف، تفنن النقاشون في الرسم والنحت بنقوش باللاتينية والإغريقية توثق أسماء المتوفين وأعمارهم وتواريخ ترسيم موتهم مردفة بعبارة "ارقد بسلام" (In pace). إذ ألهبت سراديب الموتى المكتشفين فالكلمة الغالبة على النقوش التي أعيدت إلى النور هي "pace" أي السلام، وهكذا غُلف الصمت بالجص المكسور بعد مئات السنين، ولعل الدقات على الصخور كالنقر على الرفوف ولكن الموتى لا يستيقظون.

 تفنن النقاشون في الرسم والنحت بنقوش باللاتينية والإغريقية توثق أسماء المتوفين وأعمارهم وتواريخ ترسيم موتهم مردفة بعبارة "ارقد بسلام"

ويكشف لينود عن الصور والرموز التي شملتها السنة الأولى من أعمال التنقيب، ومن بين ذلك شجر النخيل الصغيرة على القبر وطائر ذو منقار طويل يبدو مثل البجعة وهو رمز قيامة المسيح. كما تتواتر صور الحمام وهي رمز لرسول السلام، أما الصلبان فهي تحت الشكل القديم لـ "تاو" اليونانية، كما تظهر في الفسيفساء السمكة الصغيرة وقد نقلت لوحة فسيفسائية تجسد "ايخستوس" نفسه في مرساة "فيليبس" إلى كنيسة سوسة.

"الراعي الطيب" لسراديب الموتى

يبقى الاكتشاف الأكبر لأوغستين لينود هو الطاولة الرخامية للراعي الصالح الملتحي الذي يشهد للمسيحيين الأوائل استخدامهم للصور المنحوتة كما أن الراعي الصالح المكتشف في سوسة من الرعاة المرتدين لفستان قصير به طيات كثيرة رسمت بعناية ويلتف بحزام يمسك جنبيه مقدمًا يده اليسرى فهو في موقف المشي وراميًا على كتفيه كبشًا، ويستسلم رأسه واقعًا على جهة واحدة. أما القوائم الأربعة فهي على الصدر من الراعي الذي يمسكهم بإحكام. ويصف الكسندر بون الراعي قائلًا "يظهر الراعي الصالح الإفريقي بمزيج من الفرح والحزن والحنان وبروح المؤمن الصادق، إنها تداعيات حميمية أكثر من مجرد نحت رائع ما يخبرنا بالرخام يأتي من شيء عميق منه".

اقرأ/ي أيضًا: جولة في المعالم الأثرية للقيروان.. ذاكرة الحضارة الإسلامية

وقد تم العثور على نحت الراعي الطبيب، وفق مصادر أخرى، بتاريخ 31 مارس/آذار 1905 حين  تحدث عنها لينود في إحدى رواياته قائلًا : "قام بعض الرجال بالجثو على ركبهم على الأرض الرطبة في محاولة لمسح ألواح الرخام ولاحظ الرجال شظيتين من الرخام ملقاتين على الأرض فأخذاها للتنظيف عند بؤرة ضوء منفتحة علوية وفجأة تعالت ضحكات أحد العرب قائلًا "أووه ها هو شخص يحمل خروفًا" فركضت على الفور ورأيت بوضوح  صورة كنا نتوق إلى لقائها في سراديب الموتى لدينا لتأكيد قداسة أفضل صورة للراعي الصالح، أرجل عارية مثل رعاتنا الرحل وشعر طويل مجعد ولحية قصيرة مدببة ،إنه الراعي الصالح الذي يقود إلى المهد المفقود" .

المنحوتة الشهيرة لـ"الراعي الطيب" في دواميس سوسة

ويذكر بون، في ذات الإطار، أن عدة زخارف ولوحات فسيفسائية نقلها فانسون إلى متحف اللوفر في فرنسا، وأنه تم تسليم موقع سراديب الموتى في نوفمبر/تشرين الثاني 1908 إلى بلدية سوسة، وقد تمكن عدد من ضباط الصف الرابع والقساوسة وأبرشية قرطاج من زيارة المكان.

غير أننا عثرنا على نداء استغاثة وجهه لينود الذي عُين مطرانًا للكنيسة في الجزائر على أعمدة يومية فرنسية تصدر في الجزائر "l’effort algérien" في عدده الصادر بتاريخ 23 جوان/يونيو 1928 يطالب فيها رئيس فرنسا التدخل لصيانة السراديب وحمايتها وتوظيف المعالم المسيحية التي عثر عليها في سوسة لتكون قبلة الزوار من كافة أنحاء العالم حتى لا تذهب مجهوداتهم في التنقيب سدى حسب تعبيره.

دواميس سوسة خارج الخدمة السياحية

لم تحض دواميس سوسة بالترويج السياحي والثقافي والتعليمي اللازم في العقود الأخيرة، ولم يتخذ هذا المعلم التاريخي القيّم المكانة التي يجب أن يكون عليها كمنتوج حضاري متميز على المستوى الدولي والإفريقي. فقد ظل الموقع رهين سياسات التجاهل، بل أن الجزء الوحيد الذي فُتح للعموم من دواميس "الراعي الطيب" منذ بدايات القرن الماضي تم إغلاقه سنة 2014.

مدخل دواميس "الراعي الطيب" بداية القرن العشرين

وقد أفاد رياض الحاج سعيد المتفقد الجهوي للتراث بالساحل، في تصريح لـ"الترا تونس" أن سبب إغلاق موقع دواميس الراعي الطيب، وهو الوحيد الذي كان مفتوحًا للعموم، يعود للأمطار الغزيرة سنة 2014 قائلًا "أثرت الأمطار سلبًا على حالة الموقع، وقد أثرت بالخصوص على سقفه الذي تسربت منه المياه مما اضطر وكالة إحياء التراث والمعهد الوطني للتراث ووزارة الثقافة لاتخاذ إجراء القلق المؤقت إلى حين إعادة تهيئته".

وأقر الحاج سعيد، في الأثناء، بالمردودية الاقتصادية والسياحية والثقافية والتربوية للموقع مؤكدًا أنها مردودية بالغة ومعربًا عن أمله في استعادة المعلم لمكانته وإدماجه ضمن المسلك السياحي القادم لمدينة سوسة باعتباره جزء من حضارة تونس حسب تعبيره.

يُذكر أنه تم تخصيص اعتمادات بقيمة 250 ألف دينار لمشروع ترميم الموقع ومنها أشغال الصيانة وتغطية السقف بالإسمنت المسلح بسمك 10 صم، مع دعم السقف وشذ الطبقات المتأكلة من الحجارة وتغطية المسلك بالحصى الصغيرة. وقد حُددت وقتها مدة الإنجاز بستة أشهر غير أن المشروع ما يزال إلى اليوم خارج الخدمة.

دواميس سوسة معلم تاريخي عالمي لم تستغله تونس للترويج للسياحة بالشكل المطلوب وقد اُغلقت دواميس "الراعي الطيب" أمام العموم منذ سنة 2014 وإلى اليوم

مثل اكتشاف "دواميس سوسة" أو سراديب الموتى كما كان يسميه الفرنسيون بؤرة ضوء في الحضارة الإنسانية، بل هو اكتشاف نادر لحضارة تحت أرضية لم نبلغ بعد جزءًا ولو بسيطًا من كشف أسرارها المخفية. راهن المحتل الفرنسي وكذلك الكنيسة الكاثوليكية على هذا المعلم لكي تضع موطن قدم في تونس، وجعله قبلة للحجاج المسيحيين وما "الراعي الطيب" إلا "الراعي الصالح" أو المسيح.

أرادت الكنيسة أن تصنع من سراديب سوسة منافسًا لدواميس روما المماثلة، وكان حلم المطران لينود أن يجعل من سوسة قبلة للعالم سياحيًا وثقافيًا كما أثبتته منشوراته ومدوناته لكن الزمن أبى إلا أن يعيد الظلمة إلى القبور من جديد بعد أن رأت بصيصًا من نور ليعود رقود الكهوف إلى النوم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أقدم القرى المأهولة في تونس.. "اللّاس" زهرة لا تبصر جمالها

قصور منوبة البديعة: عزلتها الجمهورية الأولى.. فهل تنصفها الجمهورية الثانية؟