تشغل تونس عضوية في مجلس الأمن على مدى سنتي 2020 و2021، وتعدّ العضوية غير الدائمة لدبلوماسية أي دولة من غير ذات العضوية الدائمة حدثًا دبلوماسيًا استثنائيًا. وتحصلت تونس على هذا الموقع للمرة الرابعة في تاريخها في دورية كل 20 سنة (بعد دورات 60/59 و81/80 و2001/2000) وهي ثاني أكثر بلد عربي يُمنح العضوية غير الدائمة بعد مصر التي تولتها 5 مرات على مدار تاريخها. والإشارة إلى أن أكثر من 60 بلدًا في العالم لم ينل العضوية على مر التاريخ.
عضوية تونس في مجلس الأمن هي أول عضوية منذ الثورة والتأسيس الديمقراطي، ويحلّ السؤال، في هذا الجانب، عن الموازنة التقليدية بين المصالح والمبادئ في مقاربتها للملفات المطروحة
توفّر عضوية مجلس الأمن، بداية، 3 فرص على الأقل للدبلوماسية التونسية:
- فرصة لتنشيط الجهاز الدبلوماسي عبر الحيوية التي تفرضها أجندة مجلس الأمن. وتفريعًا لذلك، هي مناسبة لإخراج تونس إلى دائرة الضوء في الساحة الدولية وبالتتابع طرح مواقفها من مختلف القضايا.
- فرصة لتمتين العلاقات الخارجية والتشبيك والتنسيق في الكواليس والعلن، بل أيضًا فرصة للقيادة، فتونس هي الممثل الوحيد للمجموعة العربية، وتقود داخل مجلس الأمن لجانًا فرعية وهذا عنصر يبدو غير مؤثر جوهرًا ولكنه مهم على المستوى الرمزي.
- فرصة لرئيس الجمهورية الذي يستفرد باختصاص العلاقات الخارجية أن يعرض تصوراته وتوجهاته أمام العالم بشكل مفتوح من بوابة مجلس الأمن. وتتجه الإشارة في هذا الموضع لمبادرة مشروع القرار حول هدنة إنسانية شاملة تتضمن الإيقاف الفوري والشامل للنزاعات المسلحة في ظل جائحة كورونا، والذي تم إقراره تحت عدد القرار 2532 يوم 1 جويلية/يوليو 2020 بعد تحوله إلى مشروع تونس فرنسي ورفع واشنطن تحفظاتها على المشروع الأولي.
ولكن تحمل هذه العضوية اختبارًا في نقاط ثلاث أيضًا على الأقل:
- اختبار لجهاز الدبلوماسية في علاقة بحسم قيام البعثة الأممية بمهامها: الكفاءة والنجاعة والتنسيق المُحكم والدوري بين البعثة والخارجية ورئاسة الجمهورية.
- اختبار عنوانه "واجب الموقف" بعيدًا عن "اللاموقف". وباتت تونس ملزمة بإصدار مواقف واضحة داخل مجلس الأمن من كل الملفات المعروضة، سواء بالدعم أو الرفض أو الامتناع، وهو ما يعني إحراجًا أو كلفة أحيانًا.
- هذه أول عضوية لتونس منذ الثورة والتأسيس الديمقراطي، ويحلّ السؤال، في هذا الجانب، عن الموازنة التقليدية بين المصالح والمبادئ. هل مقعد تونس سيكون، أساسًا، صوتًا للنظام العربي الرسمي المسيطر على المجموعة العربية في نيويورك أم للشعوب العربية التي تطالب بالحرية والكرامة منذ سنوات؟ هذه نقطة جوهرية واختبار حقيقي، مع الإشارة في هذا الموضع، إلى خطاب رئيس الجمهورية في خطاب القسم حينما قال في الجزء المخصص للعلاقات الخارجية "إننا نتطلع إلى عالم جديد وإلى المساهمة في صناعة تاريخ جديد يغلب فيه البعد الإنساني على سائر الأبعاد الأخرى".
سياقات العضوية التونسية
يبدو مغربًا القول إن هذه العضوية في مجلس الأمن تأتي في سياق إقليمي ودولي غير مسبوق، ولكن هذا القول سيكون واقعًا من قبيل تبخيس سياقات وظروف العضويات السابقة على المستوى الداخلي وعلى المستوى الاقليمي والدولي بالخصوص.
اقرأ/ي أيضًا: هل تغيّر موقف رئيس الجمهورية من المشهد الليبي؟
فأول عضوية أي سنتي 1959 1960، داخليًا، كانت البلد تشق خطواتها الأولى بعد الاستقلال ولازال جزء من أراضيها تحت الاحتلال الفرنسي (في جهة بنزرت بالخصوص) ولم تكمل بعد صياغة دستورها مع بداية العضوية، وإقليميًا، كانت حرب التحرير مستعرة في الجارة الجزائر، ولازالت موجة تحرر الشعوب في أوجها، أما عالميًا، كانت الحرب الباردة تعرّف أحد فصولها. وفي عضوية 1980 و1981، كنات البلاد، داخليًا، على وقع انفتاح سياسي سُرعان ما وقع وأده في تشريعيات 1981 وتوتر مع ليبيا بلغ أوجه بعد أحداث قفصة 1980 التي يُرجح وقوف نظام القذافي خلفها، وكانت وقتها تونس مقر جامعة الدول العربية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد وتعليق عضوية مصر. أما في عضوية سنتي 2000 و2001، كان العالم على وقع فشل أجندة أوسلو التي كانت تفترض التوصل لاتفاق نهائي أواخر التسعينيات وثم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وبعدها أحداث 11 سبتمبر وانطلاق ما تسمى الحرب على الإرهاب.
احتفاء فريق البعثة التونسية بعد مصادقة مجلس الأمن على القرار عدد 2532 الذي قدمت تونس مشروعه الأولي
ولكن لا يجب تجاوز أن هذه العضوية الرابعة تأتي في سياق إقليمي ودولي، أقله أنه يحمل رهانات خاصة وليس في كل الأحوال أقل توترًا من سياقات العضويات الثلاث السابقة وتحديدًا في علاقة بصفقة القرن الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية مع الخروج الأمريكي عن مقتضيات الشرعية الدولية، والتوترات في البلدان العربية وتحديدًا ليبيا واليمن وسوريا والسودان. كما تأتي العضوية في سياق داخلي مميز هذه المرة، فعدا أنها أول عضوية بالنسبة لتونس منذ ثورتها وبناء ديمقراطيتها، فهي تأتي في سياق جدل متصاعد طيلة الأشهر الأخيرة حول المسألة الدبلوماسية بين الفرقاء السياسيين في الداخل يمكن حوصلته في نقطتين أساسيتين:
1- ممارسة الدبلوماسية: يتصاعد الجدل حول مسألة تمثيلية الدبلوماسية التونسية في ظل ما ظهر "تزاحمًا" بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي الساعي للعب دور نشط كلّفه إثر اتصال برئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية جلسة "مساءلة غير رسمية" تحت عنوان منافشة ملف "الديبلوماسية البرلمانية". ويشمل سؤال هذه الممارسة عن العلاقة بين رئاسة الجمهورية والبعثة الأممية، وتُستحضر في هذا الإطار البداية المتعثرة لعضوية تونس بعد إقالة الرئيس الأول للبعثة بعيد ما قيل سوء تنسيق بينه وبين وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية بخصوص إعداد مسودة مشروع قرار لإدانة "صفقة القرن". وهي بداية متعثرة من المهم عدم تجاوزها بالنظر لخطورة ما ورد في بلاغ الرئاسة وقتها حرفيًا ومنه مثلًا "إن من بادر بتقديم مشروع القرار، ومن أوعز إليه في الخفاء من تونس، على النحو الذي تم تقديمه به، لم يكن يسعى إلى تمرير هذا المشروع"، وأن "من قدم المشروع كان يعلم مسبقًا بأنه سيصطدم بحق الاعتراض من أكثر من دولة، وأن هدفه، الذي لا يخفى على أحد، كان الإساءة لتونس، ولرئيسها على وجه الخصوص". وحمل هذا البلاغ إجمالًا ثلاثة اتهامات مباشرة للمبعوث على الأقل: الإساءة لتونس ولرئيس الجمهورية، التشكيك في موقفه من الاحتلال الصهيوني، والاستقواء بعواصم أجنبية للبقاء في منصبه، وهي تفترض جملة من التساؤلات لازالت لليوم غير معلومة الإجابة: ماهي أسس هذه الاتهامات الواردة في بلاغ رئاسة الجمهورية؟ ألا تقتضي فتح تحقيق جزائي بالنظر لخطورتها؟ وهل تم فتح تحقيق إداري؟ وماهي نتائجه؟
2- مضامين الدبلوماسية: أصبحت المسألة الدبلوماسية نقطة رئيسية في الخلافات بين الفاعلين داخل البلاد بشكل جعلها يطغى على ملفات الشأن الداخلي بشكل واضح خاصة في الأشهر الأخيرة، وفي ظل تواتر استعمال آلية اللوائح البرلمانية على غرار لائحة ليبيا (المقدمة من كتلة الدستوري الحر) ولائحة اعتذار فرنسا (المقدمة من كتلة ائتلاف الكرامة)، وأيضًا في ظل تصاعد التوتر في ليبيا وآثاره في المشهد السياسي التونسي. وأيضًا، يُطرح سؤال مضامين الدبلوماسية ضمن الاكتشاف المتراكم للفاعلين السياسيين، وللتونسيين عمومًا، مواقف رئيس الجهورية، القادم من خارج الطبقة السياسية والتي تتسم بعض مواقفه بالغموض، والذي ظهر أنه يباغت بما كان غير منتظر على غرار موقفه "الذي ظهر صادمًا"، لدى فريق من أنصاره، من ملف اعتذار فرنسا.
تونس داخل هياكل مجلس الأمن
تونس هي الدولة العربية الوحيدة في مجلس الأمن سنتي 2020 و2021، وهي تمثل العالم الإسلامي مع النيجر وأندونيسيا التي ستغادر مجلس الأمن العام المقبل. وتنشط تونس في الأمم المتحدة ضمن 4 مجموعات نشطة: المجموعة العربية والمجموعة الإفريقية والمجموعة الإسلامية وبدرجة أقل المجموعة الفرنكفونية.
ولن ترأس تونس مجلس الأمن هذا العام (وهي رئاسة شهرية) لكنها المنتظر أن تتولى الرئاسة في العام المقبل وفق الترتيب الأبجدي للدول الأعضاء. والرئاسة إجرائيًا محدودة التأثير، فرئيس المجلس يتوافق حول برنامج العمل مع أمين عام الأمم ولكن له تقديم بيانات إعلامية عادة ما تلقى متابعة في الصحافة الدولية بصفته رئيسًا لمجلس الأمن، وهذا مهم على مستوى الزخم السياسي والدبلوماسي في عدة ملفات.
العضوية في مجلس الأمن هي فرصة لرئيس الجمهورية الذي يستفرد باختصاص العلاقات الخارجية أن يعرض تصوراته وتوجهاته أمام العالم بشكل مفتوح من بوابة الهيكل الأممي
في توزيع المسؤوليات داخل أجهزة مجلس الأمن وهو توزيع سنوي، ترأس تونس لجنة الفرعية لمكافحة الإرهاب (المؤسسة بعد أحداث 11 سبتمبر) وهي واحدة من أهم لجان المجلس إذ تضم مديريتها التنفيذية على سبيل الذكر أكثر من 40 موظفًا في الأمم المتحدة، وهي تقوم بتقييمات للدول وتقدم المساعدة التقنية وغيرها من المهام في مجال مكافحة الإرهاب. كما ترأس البعثة التونسية، عام 2020، الفريق العامل حول فرق حفظ السلام.
وبخصوص لجان الجزاءات وهي لجان ضغط على دولة أو كيان من أجل إنفاذ قرارات مجلس الأمن، ويشمل نطاقها جزاءات تجارية واقتصادية وتدابير موجهة من قبيل حظر توريد الأسلحة وحظر السفر والقيود المالية أو الدبلوماسية، ترأس تونس لجنة الجزاءات الخاصة بغينيا بيساو (لجنة عقوبات تشكلت عام 2012 بعد الانقلاب في البلد المذكور)، كما تتولى خطة نائب رئيس في اللجنة المعنية بالصومال واللجنة المعنية بكوريا الشمالية.
تونس ورهانات ملفات الوطن العربي
طيلة الستة الأشهر الأولى من عضوية تونس في مجلس الأمن أي بعد انقضاء ربع مدة هذه العضوية، أصدر مجلس الأمن 27 قرارًا تم تمرير جلها بالإجماع وقد صوتت تونس لفائدتها جميعًا نحو ثلثيها قرارات تهم الوطن العربي. وفي هذا الجانب، توجد 7 ملفات مرتبطة بالوطن العربي حاضرة بشكل شهري بل أسبوعي أحيانًا على طاولة مجلس الأمن وهي: القضية الفلسطينية، والملف الليبي، والملف اليمني، والملف السوري، والملف السوداني، والملف الصومالي وملف تنظيم الدولة الإسلامية. وتمثل تونس في هذه الملفات أكثر دولة معنية بوصفها ممثلة المجموعة العربية أو ممثلة الحكومة العربية المعنية. وتوجد ملفات عربية أخرى تطرح من حين لآخر على مجلس الأمن منها الملف العراقي، والملف اللبناني (في علاقة ببعثة اليونيفيل) وملف الصحراء الغربية وأضيف مؤخرًا ملف سد النهضة الذي رفعته مصر لمجلس الأمن.
- الملف الفلسطيني.. رهان الجرأة
بخصوص الملف الفلسطيني الذي شهد طيلة السنوات الأخيرة تحولات عنوانها العام خروج واشنطن عن الشرعية الدولية، لا يطرح السؤال حول الموقف لكن حول مدى جرأة البعثة وحيويتها وفق هامش التحرك المتوفر؟
تتجه الإشارة، في هذا الموضع، إلى دور الكويت في مجلس الأمن في عضويتها سنتي 2018 و2019، في علاقة بالقضية الفلسطينية، بعد تحقيقها اختراقات لافتة منها إعداد مشروع قرار لحماية الفلسطينيين عبر بعثة أممية بعد مسيرات العودة لقي دعمًا من 10 دول منها فرنسا وروسيا والصين ما اضطر واشنطن لاستعمال الفيتو لاسقاطه في ثاني استعمال للفيتو من إدارة ترامب (استعملت واشنطن حق الفيتو في 4 مناسبات في آخر 14 سنة). كما أسقطت الكويت بيانًا أمريكيًا لإدانة محمود عباس بخصوص تصريحاته عام 2018 اعتبرت معادية لليهود مع الإشارة إلى أن بيانات مجلس الأمن تستلزم الإجماع. وونجحت في تمرير قرار إجرائي تاريخي ينص على وجوب حصول مشروع قرار أمريكي في جمعية الأمم لإدانة المقاومة الفلسطينية على أكثرية الثلثين لاعتماده وليس الاغلبية البسيطة، وهو ما تعذر على واشنطن تحقيقه في ديسمبر/كانون الأول 2018.
ويأتي الرهان تونسيًا على الأقل أن تنشط البعثة ليس بأقل من الحركية الكويتية اللافتة خاصة مع اللهجة المميزة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد تجاه "قضية شعبنا في فلسطين". لا يمكن تغيير موازين القوى قطعًا داخل المنتظم الأممي ولكن يوجد هامش تحرك يجب استغلاله للأقصى خدمة للقضية الفلسطينية، مع الإشارة لنقطة لزوم تقديم مداخلات بلهجة صارمة تقوم على تحميل المسؤوليات بعيدًا عن اللهجة الباردة. وإن تزامن العضوية مع بداية تنفيذ "صفقة القرن"، يضاعف من المسؤولية التونسية للتحرك، عبر مشاريع قرارات ودعوات لاجتماعات عاجلة وغيرها من الآليات المتوفرة في المجلس، وهي حركية قد تثير امتعاض بعثات داخل المجموعة العربية باعتبار أن دولًا عربية متواطئة بل مشاركة بصفة فعلية في إعداد "الصفقة" وفي تنفيذها.
- الملف الليبي.. رهان حسن توظيف موقع مجلس الأمن
يحضر الملف الليبي دوريًا في مجلس الأمن عبر المواعيد القارة لتمديد نفاذ قرارات سابقة في مقدمتها قرار حظر الأسلحة وبالخصوص تمديد ولاية البعثة الأممية وتقديمها لإحاطات. ويمثل تموقع تونس في مجلس الأمن فرصة حيوية بما تبدو لصبغ المقاربة التونسية حول الملف الليبي، مع الحديث عن التنسيق مع الجزائر، على قرارات المجلس الأممي الذي تبنى مؤتمر برلين والذيي يمثل حاضرًا المنصة الدولية الحاضنة للملف الليبي والمتقاطعة مع المسار الأممي وذلك بالنسبة للفاعلين الدوليين والإقليميين.
بخصوص الملف الفلسطيني الذي شهد هذه السنوات تحولات عنوانها العام خروج واشنطن عن الشرعية الدولية، لا يطرح السؤال حول الموقف لكن حول مدى جرأة البعثة وحيويتها وفق هامش التحرك المتوفر؟
غير أن المسألة أكثر تعقيدًا، إذ أصدر مجلس الأمن في فيفري/شباط 2020 قرارًا لوقف إطلاق النار في ليبيا وهو الأول منذ هجوم قوات حفتر على طرابلس في ربيع 2019، وتلاه لاحقًا القرار التونسي الفرنسي في جويلية/يوليو 2020 لوقف النزاعات المسلحة في جائحة كورونا، وهما قراران يجدان صعوبة في تنزيلهما، وما يعنياه في الوقت الحاضر بالخصوص من مطالبة حكومة الوفاق بوقف تمددها الحالي نحو الشرق لتحريرها من مجموعات حفتر، وهو ما ترفضه حكومة طرابلس التي تعتبر أنها من حقها بسط سيطرتها على كل الأراضي الليبية.
ويُشار، في الأثناء، إلى أن تونس تحفظت في اجتماع وزراء الخارجية على البيان الختامي بالخصوص حول فقرة من البند السابع نصها "التحذير من مغبة الاستمرار في العمل العسكري لتحريك الخطوط التي تتواجد عليها الأطراف حاليًا تفاديًا لتوسيع المواجهة"، أي اختصارًا المطالبة بوقف الأعمال العسكرية بما يعني ظاهرًا تنزيل القرار الأممي السابق ذكره. ولكن ما يبدو ازدواجية في الموقف التونسي، بدعم القرار الأممي والتحفظ على البيان العربي، ليس إلا جوهرًا تأكيدًا على اختلاف السياقات بينهما، إذ أن دعم وقف النزاع المسلح في ليبيا كمبدأ عام يتخالف مع "التحذير من مغبة الاستمرار في العمل العسكري" في البيان العربي الذي جاء إثر اجتماع بدعوة مصرية استهدف أساسًا تبني مبادرة عبد الفتاح السيسي ورفض التدخل التركي، وتعني موافقة تونس عليهما اصطفافًا صريحًا مع الطرح المصري. ويبيّن كلّ ذلك تعقيدات تقدير الموقف التونسي في مقاربة الملف الليبي، فيما تظل العضوية في مجلس الأمن، سنتي 2020 و2021، ورقة هامة للدبلوماسية التونسية لتثبيت دورها، تحديدًا تجاه الفاعلين الإقليميين وحتى الدوليين، في مسار صياغة الحل تحت الغطاء الأممي.
- الملف اليمني.. رهان الاستقلالية عن المجموعة العربية
يستعيد الملف اليمني، الذي يجب الوقوف عليه مليًا، السؤال أولًا عن مدى كثافة عنصريْ المبدئية والانسانية في التوجه الدبلوماسي التونسي وثانيًا مدى استقلالية هذا التوجه عن المجموعة العربية في نيويورك في هذا الملف بالذات. في مارس/أذار 2020، ناقشت مجموعة عمل "الأطفال والنزاع المسلح" فقرة حول اليمن يبدو أنها أثارت دور التحالف السعودي الإماراتي في ارتكاب خروقات ويبدو أنها لم تتحفظ عليها تونس ما أثار تململًا إماراتيًا سعوديًا في نيويورك ومظهره ما كتبه رئيس مجلس تحرير القناة الإخبارية التي تمثل الذراع الإعلامي للمحور السعودي الإماراتي (قناة "العربية")، إذ كتب مقالًا، نُشر في أكثر من وسيلة إعلام سعودية وإماراتية، بعنوان "تونس ومجلس الأمن" انتقد فيه بشدة موقف البعثة التونسية. إذ بدأ هذا الصحفي مقاله بجملة "أن البلد الذي وقف مع المجموعة العربية، ليس الشقيقة تونس، بل النيجر"، واعتبر أن ممثل تونس "لا يعرف دوره"، وهو قارب عضوية تونس بمنطق "الوكالة" بوجوب تبنيها، وفق قوله، موقف المجموعة العربية وقرارات الجامعة العربية أي عمليًا موقف الرياض وأبو ظبي في القضية اليمنية.
تمثل القضية اليمنية، إذًا، إحدى تحديات الدبلوماسية التونسية في مجلس الأمن، هل ستتبنى تونس مقاربة تميل للبعدين الإنساني والحقوقي في حده الأدنى على الأقل أم ستتبنى مقاربة المجموعة العربية وتحديدًا الحلف السعودي الإمارتي بما قد تعنيه أساسًا من تجاوزًا للانتهاكات؟ خلال السنة والنصف المتبقية، يعدّ ملفّ اليمن اختبارًا لتونس من هذا الجانب، وهو امتحان عسير في ظل ما ظهر تململًا إماراتيًا سعوديًا حتى الآن من مجرد فقرة في تقرير لمجموعة عمل داخل مجلس الأمن.
- الملف السوري.. رهان "الموقف الواضح"
يُطرح الملف السوري على طاولة مجلس الأمن أساسًا من زاوية البعد الإنساني تحديدًا في علاقة بإيصال المساعدات عبر المعابر التي دائمًا ما تثير اصطفافًا دوليًا بين موسكو وبكين من جهة والعواصم الغربية من جهة أخرى، أو الإحاطات الأممية والمتابعات الدورية لقرارات المجلس. ولكن في هذا الملف، انتظمت جلستان سريتان في أفريل/نيسان وجوان/يونيو 2020 حول برنامج إزالة الأسلحة الكيميائية في سوريا، وتقود بالخصوص بريطانيا وألمانيا خطًا يطالب بمساءلة النظام السوري عن جرائمه على خلاف روسيا والصين التين قاطعتا هذه الجلسات. ولا يعرف موقف البعثة التونسية باعتبار سرية الجلسات مع عدم إعلان موقفها وبالخصوص مدى انخراطها في مطلب مساءلة نظام الأسد عن جرائمه، وهي مواقف ستوضح تحديدًا مسافة رئاسة الجمهورية زمن قيس سعيّد من مقاربته للأزمة السورية وبالخصوص المسافة من النظام وسط محاولات داخل الجامعة العربية لإعادة منحه مقعد سوريا.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| الطيب البكوش: اتحاد المغرب العربي لم يمت وليبيا تعيش حربًا بالوكالة
- ملف الصحراء الغربية.. رهان "الحياد الإيجابي" تحت أبصار الجزائر والمغرب
ملف الصحراء الغربية هو امتحان جدّي للديبلوماسية التونسية وهو على درجة كبيرة من الحساسية لعلاقته بمحيطها المغاربي. فمن المنتظر في أكتوبر/تشرين الأول القادم أن ينظر مجلس الأمن في تمديد مهمة البعثة الأممية المخصصة لإعداد الاستفتاء (المينورسو)، وهو ليس مجرد قرار إجرائي روتيني بل يحمل دائمًا مضمونًا سياسيًا حول المقاربة الأممية للملف، ولذلك يمثل هذا القرار في كل مناسبة محل تجاذب في أروقة الأمم المتحدة بين الجزائر والمغرب وممثلي "البوليساريو" مع سعي كل فريق لتبني مجلس الأمن لمقاربته.
ملف الصحراء الغربية هو امتحان جدّي للدبلوماسية التونسية وهو على درجة كبيرة من الحساسية لعلاقته بمحيطها المغاربي
فقرار التمديد الأخير الذي قدمته واشنطن بدعم من باريس في أكتوبر/تشرين الأول 2019، اعتبرته المغرب انتصارًا ديبلوماسيًا خاصة بعد إسقاطه لمبدأ تقرير المصير واعتماد عبارات "الواقعية" و"التوافق"، عدا عن التمديد للبعثة لمدة سنة كاملة وليس 6 أشهر فقط أي تقليص مناقشة قضية الصحراء في المنتظم الأممي على خلاف رغبة جبهة البوليساريو. وقد أثار هذا القرار غضب البوليسارو الذي اعتبرته "نكسة خطيرة " وأضافت أنه "لم يعد أمامها أي خيار سوى إعادة النظر في مشاركتها في عملية السلام برمتها". كما أثار حفيظة الجزائر التي اعتبرت نص القرار "غير متوازن"، مع الإشارة إلى أن الجزائر سعت خلال السنوات الماضية لتوسيع مهام البعثة الأممية لتشمل مراقبة وضع حقوق الإنسان في الصحراء وهو ما ترفضه المغرب بشكل قاطع.
والقرار المنتظر حول بعثة "المينورسو" هو أول قرار منذ صعود الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي أبدى اهتمامًا واضحًا بقضية الصحراء الذي بات ضمن صلاحيات رئاسة الجمهورية في إطار وكالة التعاون الدولي المحدثة، ومن المنتظر أن تسعى الدبلوماسية الجزائية لاستهداف القرار الأممي القادم بالسعي لتأثير مقاربتها على مضمون القرار أو لهجته. أما بخصوص المغرب، تُستذكر واقعة رفض الملك المغربي محمد السادس، عام 2017، لقاء رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد بسبب تحفظ الوفد التونسي في الرباط على فقرة في البيان الختامي للجنة العليا التونسية المغربية تشير إلى تبني تونس للموقف المغربي في قضية الصحراء، والمُراد قوله هو سعي المغرب دائمًا لاختطاف موقف تونسي لصالحها.
يوجد بذلك ترقب جزائري ومغربي مرتقب من الموقف التونسي داخل مجلس الأمن، وتونس هي كمن يمشي على البيض في هذا الملف، إذ لا ينتظر أن تتورط في تبني مقاربة تثير إزعاج المغاربة أو الجزائريين، مع تواصل تبني لهجة هادئة وفق "ثوابت" الديلوماسية التونسية، ولكن يكمن الشيطان في التفاصيل. وربما قد تطمع الجزائر أو الرباط في دور تونسي ما داخل مجلس الأمن رغم الإقرار أن الحسم في هذا الملف ودونه ليس بيد تونس أو بيد أي دولة من الدول غير دائمة العضوية.
- رهانات ملفات أخرى منها سد النهضة
ملفات عدة أخرى مطروحة على مجلس الأمن منها ملف الانتهاكات ضد أقلية الروهينغا في ميانمار وتونس هي واحدة من ممثلي المجموعة الإسلامية التي تتبنى هذا الملف، وكذا ملف إصلاح مجلس الأمن المجمّد على الرفوف منذ سنوات، وإذ لا يُنتظر أن تحقق تونس اختراقًا ولكن ذلك لا يحول دون الدفع بهذا الملف بالتنسيق الحثيث مع الدول الإفريقية والأسيوية والقوى الإقليمية والدولية من غير خماسي العضوية الدائمة مع الإشارة إلى أن المجموعة العربية تطرح مقاربة قوامها ضمان تمثيلية مناسبة للوطن العربي في في فئة المقاعد غير الدائمة.
ولعلّ آخر الملفات المطروحة هو ملف سد النهضة والتعويل على تونس لتبني هذا الملف بشكل مطلق دفاعًا عن حقوق الشعب المصري وأمنه المائي والقومي مع الإشارة إلى أن أثيوبيا تفضل إبقاء الملف تحت راية الاتحاد الافريقي فيما تسعى مصر لتدويل الملف وجعله كملف مهدد للأمن والسلم الدوليين أي تحت مظلة الأمم المتحدة، وهو ما ترفضه دول في مقدمتها الصين التي تشهد نزاعات مائية مع جيرانها، ولا تريد الدفع نحو "سابقة" قد تهدد مصالحها لاحقًا.
في ضرورة الاستثمار في العضوية
أمام تونس فرصة لاستثمار عضويتها في مجلس الأمن لإشعاع دبلوماسيتها وتعزيز تموقعها وعلاقاتها وشبكاتها على المستوى الدولي، وصبغ مقارباتها أمام العالم حول مختلف الملفات المطروحة. وهو ما يستلزم بداية عرض خطة عمل طيلة مدة العهدة تتضمن الأولويات وبرامج العمل والأهداف، مع نشرها للعموم وعرض تقييم دوري لها (حسب الممكن نشره) في إطار تدعيم الشفافية والتشجيع لفتح نقاشات دورية في المجال البحثي. كما يُستوجب أيضًا الاستثمار من رئاسة الجمهورية في فريق البعثة فيما يخصّ الإمكانيات المادية والبشرية من مستشارين ومختصين وتوفير كل الظروف الملائمة لحسن أداء البعثة لعملها.
أمام تونس فرصة لاستثمار عضويتها في مجلس الأمن لإشعاع دبلوماسيتها وتعزيز تموقعها وعلاقاتها وشبكاتها على المستوى الدولي
وليس أقل أهمية إعداد خطة اتصالية واضحة للترويج لنشاط البعثة، مع الإشارة إلى ضعف هذا الجانب في وزارة الخارجية التي خصصت "نافذة" في موقعها الإلكتروني حول هذه العضوية، لا تتضمن حاليًا إلا خبرين فقط يعودان لشهر جانفي/كانون الثاني 2020، ولا توجد أي معلومات باللغة الفرنسية أو الأنجليزية وهو ما يستوجب التدارك في ظل أهمية الإعلام بأنشطة البعثة ومواقفها، في مختلف المنصات الرقمية، سواء للمواطنين المحليين وبالخصوص للمتابعين والباحثين والدبلوماسيين الأجانب.
ووجب، في جانب متصل، تكوين فريق عمل على مستوى رئاسة الجمهورية يضم مستشارين في قرطاج مع ممثلين وزارة الخارجية للمتابعة المستدامة للبعثة في نيويورك، مع وضع خط ساخن في الجلسات ذات الصبغة الاستثنائية خاصة حال تقديم مشاريع من البعثة أو إذا كان الأمر يتعلق بملفات حساسة (قضية الصحراء/القضية اليمنية/القضية الليبية/إلخ).
وختامًا، إن تونس، التي تمثل الديمقراطية الوحيدة في الوطن العربي والنموذج المثالي للانتقال السياسي بعد الثورات، والذي صعد إليها رئاستها أستاذ قانون دستوري مستقلّ من خارج الطبقة الكلاسيكية، تمثّل عضويتها في مجلس الأمن امتحانًا في ظل رهان التمايز عن النظام الرسمي العربي الذي يهيمن على المجموعة العربية في نيويورك، وذلك بأن تنحاز إلى قضايا الأمة وتمثل اختراقًا، على قاعدة ميثاق الأمم المتحدة أساسًا، للشعوب الحرة في العالم عمومًا والشعوب العربية خصوصًا، وذلك وفق هامش التحرك الممكن مع الموازنة مع المصالح الاستراتيجية العليا للبلاد. ولذلك، إن عضوية تونس في مجلس الأمن، على مدى سنتي 2020 و2021، هي فرصة ثمينة واختبار عسير في نفس الوقت.
اقرأ/ي أيضًا:
عندما تلتقي السلفية بالشعبوية: ائتلاف الكرامة ومرونة السلفية السياسية في تونس