26-مايو-2020

هل يمكن للرئاسة التونسية باسم التحفّظ أن تصمت في الملف الليبي؟ (حازم تركية/وكالة الأناضول)

 

في يوم عيد الفطر لهذه السنة لم تُقم صلاة الجماعة، ولم يمكن للأئمّة في الجوامع وفي مناراتي القيروان والزيتونة دعوة النّاس لرصّ الصّفوف أو التّراحم. وهذا الجوّ النّفسي الجماعي الصّعب يبدو أنّه يتقاطع مع توتّر سياسي يتصاعد بقدر ما تهدأ عاصفة جائحة كورونا.

وإذا كان شعار الأشهر الأولى من انتشار الكورونا هو الوحدة الوطنيّة في مواجهة نُذر كارثة صحّية واقتصاديّة، فإنّ خطاب رئيس الجمهوريّة للتّهنئة في العيد لم يخل من تبادل رسائل تحذير سياسيّة لرئيس البرلمان.

ليس النّقاش التونسي حول حدود دور البرلمان في السياسة الخارجيّة جديدًا وسبقته نقاشات طويلة في تجارب مقارنة عديدة

ومع بداية الأزمة في شهر مارس/أذار لم يكن قد مضى على تشكيل الحكومة بضعة أسابيع برئاسة وقيادة "ديمقراطيّة اجتماعيّة" متحالفة مع حركة النّهضة. وفي حكومة يقود معركتها الصحّية عبد اللطيف المكّي ويرفع لواء مكافحة الفساد فيها محمّد عبو، كانت الصّورة العامّة توحي بوحدة وطنيّة مطمئنة للتونسيّين. وإذا كانت هذه الوحدة الوطنيّة قد اضطربت في سياق النّقاش حول تفويض البرلمان سلطة إصدار المراسيم للحكومة، فإنّ المفارقة تكمن في كون الإحساس العامّ بالانتصار النّسبيّ في "معركة الكورونا" قد رافقه اضطراب في نسيج "الوحدة الوطنيّة" المنشودة وتفاقم في حالة الاستقطاب السياسيّ.

وإلى حدّ كبير، يبدو أنّ تونس تعبر مرحلة غير معتادة من الاستقطاب قد يكون أخطر ما فيها هذا الاشتباك الحاد بين رهانات الدّاخل وتحدّيات الخارج داخل قبّة البرلمان نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: ماهي ضوابط الموقف الديبلوماسي التونسي في الملف الليبي؟

ظلال معركة ليبيا في باردو

بمجرّد إعلان سيطرة قوّات حكومة الوفاق على قاعدة الوطية الجوية الاستراتيجيّة بتاريخ 18 ماي/أيار الجاري والتي لا تبعد عن الحدود التونسيّة إلاّ ثلاثين كلم، سارع رئيس البرلمان وحركة النّهضة لمهاتفة رئيس حكومة الوفاق فائز السرّاج لتهنئته. وعلى غرار العادة في مثل هذه التحرّكات الدبلوماسيّة التي يختلط فيها الحزبي بالسياسي الوطني، فقد أثار هذا الاتّصال تحفّظات متعدّدة، سارعت أحزاب المعارضة لإصدار بيان إدانة لما اعتُبر تدخّلًا في صلاحيّة الشؤون الخارجية لرئاسة الجمهورية وتوريًطا في النّزاع الليبي. وحتى داخل الأحزاب المتحالفة في الحكومة، فقد نشر نواب حزب التيار الديمقراطي بيانًا يدينون فيه تجاوز رئيس البرلمان لصلاحيّاته وتدخّله في السياسة الخارجيّة وهي من اختصاصات رئيس الجمهوريّة.

وبعيدا عن الإسقاطات المُحتملة بخصوص شخص رئيس البرلمان وما إذا كانت ردود الأفعال بخصوص المكالمة مع السرّاج تندرج بإرادة أو بدون إرادة فيما يطلق عليه بعض مسؤولي حركة النّهضة "حملة منظّمة" لاستهداف راشد الغنّوشي، فإنّ هذه الحادثة تحيلنا على دور رئيس البرلمان والعلاقة بالخارج بصفة أعمّ.

  لا يمكن الجزم بثانويّة دور البرلمان في السياسة الخارجيّة ألا تمرّ كلّ الاتّفاقيّات والمعاهدات الدّوليّة بقبة البرلمان؟

في الواقع ليس النّقاش التونسي حول حدود دور البرلمان في السياسة الخارجيّة جديدًا وسبقته نقاشات طويلة في تجارب مقارنة عديدة. وخلافًا لما يبدو مُسلّمًا به تونسيًا، فإنّه لا يمكن الجزم بثانويّة دور البرلمان في السياسة الخارجيّة: ألا تمرّ كلّ الاتّفاقيّات والمعاهدات الدّوليّة بقبة البرلمان رغم أنّ رئيس الجمهورية هو المسؤول الأوّل عن رسم السياسة؟

اقرأ/ي أيضًا: الأحزاب التونسية والأزمة الليبية.. اختلافات حد التناقض

ومن هذه الزاوية قد تكون النقاشات في السياق الفرنسي نفسه، الرئاسوي إلى النّخاع، ذات معنى بالنّسبة لتونس. وهي نقاشات حول الأفق الرحبة الممكنة للدبلوماسيّة البرلمانيّة، ومنها ما يتعلّق بديناميكيّة ونشاط دبلوماسية الكتل داخل البرلمان الأوروبي التي تعبّر دوريًا عن مواقف مناقضة للحكومات دون أن يثير ذلك الاستنكار أو الاستغراب أو النّقاش حول الصّلاحيات.

والأرجح إذًا في التّقاليد الديمقراطيّة هو أنّه من حقّ البرلمان أن يُعبّر عن رأيه في السياسة الخارجيّة ناهيك عن أن يتواصل أعضائه مع دول شقيقة أو صديقة. لكن ماذا عن رئيس البرلمان؟ وبمنأى عن مسألة الحقّ والصلاحيّات الدستوريّة وهي موضوع اجتهاد إلى أن تبتّ فيه المحكمة الدستوريّة التي لم تر النّور بعد، فإنّ الوجاهة السياسيّة، خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بليبيا، هي التي تهمّنا في هذه السّطور.

الانقسام حيث لا يجوز الانقسام

إذا كانت العلاقة التونسيّة الليبيّة أخطر وأهمّ من أن تشقّها خلافات تكتيكيّة أو سياسويّة، فإنّ التّعبير عن موقف من طرف رئيس البرلمان لا يكون مفيدًا إلاّ إذا عبّر عن إجماع أو أغلبيّة على الأقلّ. وعلى نفس النّحو يكون مضرًا إذا ما أدّى إلى هوّة وانقسام على غرار الموقف الحاصل.

لا يهمّنا من هذه الزّاوية إن كانت تهنئة رئيس حكومة الوفاق موقفًا مصيبًا ولعلّها كذلك، ولا يهمّنا في هذه الأسطر أن نجادل في الدّستوريّة من عدمها، ما يهمّنا هو أنّه لا يصحّ أن يبرز في تونس انقسام عميق في قضيّة دولة هي أكثر من دولة جارة إذ هي الجار التّوأم. لا يليق ذلك بتونس ولا يساعد ليبيا في تجاوز صعابها. ربّما كان على رئاسة البرلمان أن تفتح نقاشًا برلمانيًا منذ مدّة بخصوص موقف ليبيا، وإن تعذّرت بلورة موقف موحّد فالأجدر هو أن يتحمّل حزب رئيس البرلمان ممثّلًا في رئيس كتلته على سبيل المثال مسؤولية التعبير عن موقف أكثر وضوحًا باعتباره موقف كتلة حزبيّة.

 يجب أن نقرّ بأنّ وهم الحياد وسلوك الانسحاب قد تركا الدبلوماسية التونسية دون لون أو رائحة وفي حالة فراغ

في المقابل، يجب أن نقرّ بأنّ وهم الحياد وسلوك الانسحاب قد تركًا الدبلوماسية التونسية دون لون أو رائحة وفي حالة فراغ. إذ خلت الاتصالات والأنشطة الرئاسية الرسمية من البعد الليبيّ تمامًا رغم التطوّرات الأخيرة الخطيرة. وكان يمكن لرئيس الجمهوريّة أن يتّصل برئيس حكومة الوفاق وبرئيس البرلمان عقيلة صالح أمّا الصمت التامّ فهو الانسحاب والفراغ حيث لا مكان للفراغ. وإلى حدّ مّا فإنّ الموقف التونسيّ لا يبدو أنّه قد التقط المُستجدّ الكامن في كون حفتر قد نصّب نفسه حاكمًا للبلاد وأسقط الاتّفاق السياسي.

هل يمكن للرئاسة التونسية باسم التحفّظ أن تصمت وأن تكتفي بغياب القول، أيّا يكن الموقف؟ عبثيّة هذا الانسحاب الغريب المريب هي تحديدًا ما يفتح الباب أمام إمكانيّة وربّما ضرورة تعبيرات أخرى قد يؤدّي بعضها إلى انقسام أكبر وأكثر حدّة. وهو للأسف انقسام حيث لا يجوز للانقسام، أو التنوّع، أن يكون بهذه الحدّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السياسة التونسية تجاه ليبيا تحت مجهر البحث والدراسة

أطفال ونساء تونسيون في سجون ليبيا.. استغاثة أمام مماطلة الدولة التونسية