29-يونيو-2020

صورة من لقاء سعيّد بعدد من ممثلي القبائل الليبية ديسمبر الماضي

 

لم يكن هذا السؤال ليُطرح قبل زيارة رئيس الجمهوريّة الأخيرة إلى باريس. وكان السؤال الأكثر إلحاحًا حول موقف تونس من المشهد الليبي وتحوّلاته الميدانيّة المتسارعة. وذلك بسبب الخلافات العميقة التي تشقّ الأحزاب والطبقة السياسيّة حوله، وقد عرفت ذروتها في البرلمان مع طرح لائحة "رفض التدخّل الخارجي" من قبل الحزب الدستوري الحر. وأريد منها أن تكون جلسة محاسبة لرئيس مجلس نواب الشعب، على إثر تهنئته فايز السرّاج، رئيس حكومة الوفاق بليبيا، بتحرير قاعدة الوطية وفكّ الحصار عن العاصمة طرابلس. محاسبته على ما اعتبروه تجاوز صلاحياته بتدخّله في الشأن الديبلوماسي وتكييفه باتجاه موقف منحاز إلى أحد طرفي الصراع المحتدم في ليبيا.

جدل الديبلوماسية التونسية وموقف الرئيس  

في توزيع السلطة بين مكوّنات النظام السياسي شبه البرلماني، تُعتبر الديبلوماسيّة والسياسية الخارجيّة من مشمولات رئاسة الجمهوريّة بالتشاور مع رئاسة الحكومة التي بيدها أهمّ الصلاحيات التنفيذيّة. غير أنّ ملابسات تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ، بعد سقوط حكومة الحبيب الجملي وفشل حركة النهضة الحزب الأوّل في منحها الثقة من البرلمان، أفضت إلى ما اصطلح عليه بحكومة الرئيس. وهي الصيغة التي وجدت صورتها الأولى في تشديد رئيس الحكومة المكلّف إلياس الفخفاخ على أن حكومته ستكون مشكّلة من الأحزاب التي صوّتت للرئيس قيس سعيّد دون غيرها.

كان منتظرًا أن تكون العناوين التي ترشّح بها قيس سعيّد لانتخابات الرئاسة مرجعًا لسياسة خارجيّة جديدة تنتصر بصوت أوضح للثورة والحلّ السياسي في ليبيا وتخرج من الانحياز الحذر في الديبلوماسيّة السابقة

في هذه الأثناء، كان المشهد الليبي يعرف تطوّرات مهمّة، مع بدء خليفة حفتر هجومه على العاصمة طرابلس، عشرة أيّام قبل انعقاد مؤتمر غدامس للمصالحة برعاية أمميّة. وبدا استقبال رئيس الجمهوريّة لفايز السرّاج في قرطاج وزيارة الرئيس التركي أردوغان المفاجئة إلى تونس ملامحَ لديبلوماسيّة تونسيّة لا تختلف كثيرًا عن سياسة البلاد الخارجيّة التي تبلورت مع الرئيس الباجي قايد السبسي. وهي سياسة حرصت على عدم الانحياز في الملف الليبي إلى أحد طرفي الاحتراب وتجنّب الانخراط في محاور الصراع الإقليمي المحتدم. ولكنّها انتصرت للحلّ السياسي دون أن تعمل على لعب أدوار أولى فيه رغم تشديدها، في كلّ مرّة، على أنّ الملف الليبي شأن داخلي وثيق الصلة بأمن تونس ومسارها الديمقراطي.   

هذه هي التركة التي ورثها الرئيس قيس سعيّد. وكان منتظرًا أن تكون العناوين التي ترشّح بها قيس سعيّد لانتخابات الرئاسة مرجعًا لسياسة خارجيّة جديدة تنتصر بصوت أوضح للثورة والحلّ السياسي في ليبيا. وتخرج من الانحياز الحذر في الديبلوماسيّة السابقة. وتلعب دورًا متقدّمًا في رسم مستقبل ليبيا ومنطقة المغرب العربي.

لم تعرف السياسة الخارجيّة مع الرئيس قيس سعيّد التطوّر المتوقّع حتّى بعد إقالته وزير خارجيّة الباجي خميّس الجهيناوي. وعَرف الملفّ الليبي معه ركودًا مثيرًا، سوى ما كان من استقباله وفدًا قيل إنّه يمثّل قبائل ليبيا. وتبيّن فيما بعد أنّ تمثيليّته غير متأكّدة. ولم تكن هذه الأنشطة القليلة لتُفصح عن سياسة خارجيّة لتونس في ليبيا، رغم التطوّرات الخطيرة المتسارعة. واستقرّ الموقف عند رفض التدخّل الأجنبي في ليبيا والامتناع عن موقف منحاز في صراع الأشقّاء. 

بقدر ما كانت سياسة الباجي قايد السبسي في الملفّ الليبي أقرب إلى "الوضوح الحذر" كانت سياسة قيس سعيّد أقرب إلى "الغموض المثير".

اقرأ/ي أيضًا: الدبلوماسية التونسية على ضوء تحولات المشهد الليبي نحو الحل السياسي

زيارة باريس وتوضّح الموقف 

يشير العارفون بالدبلوماسية وبتقاليدها في المغرب العربي وبمركزيّة الجزائر فيها إلى أنّه كان بإمكان الرئيس قيس سعيّد أن يمرّ بالعاصمة الجزائر وهو في طريقه إلى فرنسا، لِمَا لهذه الزيارة/التحيّة من دور في رسم ملامح الموقف التونسي وثوابته العامّة قبل الحديث مع فرنسا المهمّشة في ليبيا والباحثة عن منفذ ملائم تعود به إلى المشهد. وخسارة فرنسا لا يعني أنّها خارج الصورة في المشهد الليبي. فهي ما تزال مكوّنًا فاعلاً في حلف معلن منطلقه الإمارات ومنتهاه حفتر مرورًا بالإمارات والسعوديّة ومصر.

موقف الرئيس سعيّد من الملفّ الليبي لم يتغيّر وكان دور زيارة فرنسا أنّها سلّطت عليه ضوءًا كاشفًا، بعد أن كان محاطًا بالغموض

موقف الرئيس سعيّد من الملفّ الليبي لم يتغيّر. وكان دور زيارة فرنسا أنّها سلّطت عليه ضوءًا كاشفًا، بعد أن كان محاطًا بالغموض. ولئن عبّر معسكر حفتر ووسائل الإعلام المصريّة والإماراتية والسعوديّة الداعمة عن ارتياحها إلى موقف الرئيس سعيّد فإنّ حكومة الوفاق لم تجد للتعبير عن صدمتها أبلغ من الترحّم على الرئيس الباجي قايد السبسي. وتولّى رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي الردّ المفصّل على كلمة الرئيس، مركّزًا على أنّ ليبيا ليست قبائل متناحرة حتّى يَقترح  "لوياجيرڤا" تكتب دستورها. ففي ليبيا أبعاد قبليّة ومناطقيّة وجهويّة بلا شكّ ولكنّها أيضًا مراكز حضريّة ونخب علميّة سياسيّة جيّدة التعليم. وهي مهد أوّل جمهوريّة في البلاد العربية وأفريقيا أسسها الزعيم الوطني والمصلح سليمان الباروني (1918). ولليبيا لجنة من أجلّ القضاة وأكفأ الجامعيين وخبراء القانون الدستوري لصياغة الدستور قاربت على الانتهاء من صياغة مسوّدته، رغم حالة الحرب.  

يتلخّص موقف الرئيس سعيّد، فيما ورد في كلمته في لقاء صحفي جمعه بالرئيس ماكرون بحديقة الإيليزي وفيما أدلى به من مقابلات صحفيّة على قناة فرانس 24 العربيّة والفرنسيّة، في أنّ تونس ترفض التدخّل الأجنبي في ليبيا وأنّ الحلّ يجب أن يكون بين الليبيين. وأشار على القبائل الليبيّة بأن تجتمع لكتابة دستور.

اختلاف المواقف 

اختلفت ردود الفعل في المشهد السياسي التونسي حول موقف الرئيس. ولكنّ الجامع بين هذه المواقف أنّها لم تفصل بين موقفه والسياق الذي تنزّل فيه، وهو زيارة العمل التي أدّاها إلى فرنسا. كما لم تُفصل عن مجمل ما صرّح به من مواقف وأهمّها اعتبارُه الاحتلال الفرنسي لتونس من 1881 إلى 1956 حماية لا تستوجب الاعتذار. ويكفي لطيّ الصفحة أن تكون من فرنسا مساعدة في المجال الاقتصادي والتنموي. وهو يشير إلى لائحة اعتذار فرنسا عن سنوات احتلالها  كان تقدّم بها ائتلاف الكرامة ولم تحظ بالمصادقة عليها.

وتُعَدّ اللائحة مستوى جديدًا من الفرز على قاعدة الموقف من تاريخ احتلال تونس. وهو موضوع كان يُظَنّ أنّه محلّ إجماع. فقد اختلفت الطبقة السياسيّة منذ القديم حول استقلال تونس. فهو عند البعض مجرّد بروتوكول لم تُكشف كلّ بنوده، ومعه كان الخروج من احتلال مباشر إلى احتلال غير مباشر. وعند البعض الآخر هو استقلال حرّر البلاد وبنى الدولة وغيّر مستوى العيش ونمطه. وهو عند طرف ثالث مسار استقلال عرف نجاحات في تلطيف العيش ونشر التعليم والرعاية الصحيّة وتحرير المرأة كما عرف انحرافات وقصورًا عن تحقيق الحريّة والعيش الكريم والسيادة الوطنيّة. ولكنّ الرئيس قيس سعيّد يفتح موضوعًا آخر حين يسمّي الاحتلال حماية كما سمّى نفسه. في تقيّد ظاهري بشكلانيّة النصوص القانونيّة. 

الفئة الواسعة من النخبة الجامعية والأكاديمية سكتت عن مسّ الرئيس بما كان يمثّل عندها "تراثًا جامعًا" ليس محلّ نزاع ومحرّم إعادة التفكير فيه (اعتباره الاحتلال الفرنسي حماية)

هذا الموقف من موضوع الاحتلال كيّف ردّة الفعل من موقف الرئيس قيس سعيّد من الملفّ الليبي، وكشف عن علاقة الطبقة السياسيّة بفرنسا، وعن تأثير فرنسا في أوساط النخبة. فالفئة الواسعة من النخبة الجامعيّة والأكاديميّة سكتت عن مسّ الرئيس بما كان يمثّل عندها "تراثًا جامعًا" ليس محلّ نزاع ومحرّم إعادة التفكير فيه. وكانت تصدّت بمؤرّخيها الأفذاذ لهيئة الحقيقة والكرامة حين أشارت إلى بنود في وثيقة الاستقلال تُلزم تونس بمصالح فرنسية تنتقص من سيادة البلاد واستقلالها. ولكنّها تسكت عن تصريحات الرئيس الأخيرة في باريس، بعد أن رأت فيه قوّة من داخل الدولة ملائمة لمواجهة خصومها الإيديولوجيين وكلّ الأصوات التي تنتصر للثورة وأهدافها. وقد كانت نعتت مواقفه بالدوعشة ووقفت إلى جانب منافسه في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة.

عقدة فرنسا الموروثة

فرنسا المنهزمة في ليبيا والمورّطة في إفريقيا والفاقدة لمكانتها في الصراع الإقليمي الدولي والمنهكة بجائحة كورونا تجد الحظوة عند النخبة التونسيّة ومن يمثّلها في أعلى هرم السلطة. وترضى بمقايضتها الكرامة بالتنمية. وليس هذا بغريب عن نخبة طالب بعض رموزها الحقوقيين بالتدخّل الفرنسي العسكري عشيّة الإعلان عن نتائج الانتخابات التأسيسيّة في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 في أول انتخابات ديمقراطيّة وحرّة في تاريخ تونس. وهي النخبة نفسها التي يقف أبطالها قادةُ "الحوار الوطني" صاغرين كالتلاميذ متوسطي النجابة، أمام الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ليمنحهم أعلى أوسمة الدولة الفرنسيّة. بعد أن كانوا مُنحوا جائزة نوبل للسلام جزاء إيقافهم مسار التأسيس. 

فرنسا المنهزمة في ليبيا والمورّطة في إفريقيا والفاقدة لمكانتها في الصراع الإقليمي الدولي والمنهكة بجائحة كورونا تجد الحظوة عند النخبة التونسيّة ومن يمثّلها في أعلى هرم السلطة وترضى بمقايضتها الكرامة بالتنمية

ومن مظاهر عقدة الطبقة السياسيّة ما شقّ الائتلاف الحاكم من تناقضات، فكتلة النهضة التي لم تمنح "لائحة الاعتذار" كلّ أصواتها شدّدت على أنّ الذي كان من فرنسا هو أبشع أنواع الاحتلال. في حين تبنّت سامية عبو قياديّة في حزب التيّار ونائبة عن الكتلة الديمقراطيّة التي صوّتت لفائدة "لائحة الاعتذار" حديث الرئيس قيس سعيّد عن الاحتلال والحماية. وأمّا حركة الشعب فقد فضّلت الصمت أو التعليق المقتضب.                          

يمثّل الرئيس قيس سعيّد حالة توتّر في الدولة ونظامها السياسي وفي المجتمع. وهو يصدر في مواقفه عن تصور شكلاني حاول سحبه على المشهد السياسي في تونس ومن خلاله كان نقده النظام السياسي والديمقراطيّة التمثيليّة واقتراح بدائل غائمة تزيدها إحالتها على "إرادة الشعب" إبهامًا وتنصّلاً من مواجهة المشكلات الفعليّة بالجملة المفيدة والمسؤوليّة المطلوبة. 

ومن تطبيقات بديله الشكلاني دعوة القبائل الليبيّة إلى كتابة الدستور. ولم يجد هذا اعتراضًا من ماكرون الحداثي الديمقراطي مادام موقف الرئيس سعيّد لا يخرج عن موقف فرنسا وتحالفاتها في ليبيا بنكهتها الإسرائيليّة. 

عقدة النخبة التونسيّة من فرنسا موروثة عن تجربة الدولة في تونس منذ حكم البايات. وتتمثّل في ارتهان شقّ حركة الإصلاح والحركة الوطنيّة. ولم يكن مطلب الاستقلال أولويّة في الحركة الوطنيّة، بل لم يكن بالوضوح الكافي. وكان نضال الحركة الوطنيّة في مجمله من داخل ثقافة المستعمر ثقافة الانقسام والعلاقات السياسيّة العموديّة (الدولة)، وكانت المقاومة الأهليّة الشاهد الأقوى على حقيقة الاحتلال وبطلان صفة الحماية. فقد انطلقت، منذ أن وطأ عسكر فرنسا الديمقراطيّة أرضَ تونس، دفاعًا عن الحمى وعن الحقوق وعن هويّة انتظام سياسي أهليّة. 

موقف قيس سعيّد لا يخرج عن خطى نخبة مازالت لم تتحرّر من اللوجيسيال الفرنسي. فغدا "الشعب يريد" عنوانًا بلا رصيد ولكنّ الأمل باقٍ ما بقي سقف الحريّة المعمّد

نظرة الطبقة الحاكمة والنخبة المثقّفة لفرنسا ولقوى الاستعمار القادمة من ضفّة المتوسّط الشماليّة تفسّر إجهاض الثورات والانتفاضات في تاريخ البلاد، وفي مقدّمتها ثورة علي بن غذاهم  (1864) "باي الشعب"،  مثلما ألحّت الحشود المنتفضة عند حصارها حاضرة تونس. وهي من الثورات الوطنيّة المعاصرة في حوض المتوسّط بمنوال أهلي متميّز كان يمكن أن يقترح انتظامًا سياسيًّا مغايرًا أقرب للعدل والحريّة ولإنسانيّة الإنسان. ولكنّها أجهضت مثلما يحاول اليوم إجهاض ثورة الحريّة والكرامة ومقترحها الفذّ في تأسيس الديمقراطيّة مشروطة بالحريّة لأوّل مرّة في التاريخ. 

موقف الرئيس قيس سعيّد لم يتبدّل، ولكنّ بعض السياقات ساهمت في توضيحه. وهو موقف لا يخرج عن خطى نخبة مازالت لم تتحرّر من اللوجيسيال الفرنسي. فغدا "الشعب يريد" عنوانًا بلا رصيد. ولكنّ الأمل باقٍ ما بقي سقف الحريّة المعمّد، فهو الشرط الأساسي في منح التحرّر إمكانه التاريخي ومداه الأبعد.                                       

 

اقرأ/ي أيضًا:

سعيّد في باريس.. ملاحظات بعد زيارة استثنائية

تونس.. ديبلوماسية الهواة