تصدير: "من الصعب أن تعرفوا أين تنتهي الأسطورة وأين يبدأ وجهي لأن الحدود قريبة.."
عادة ما يكون "فعل الرسم" كفنّ مغيّر ومثوّر، وكشبكة مشعّة من المعاني والأخيلة والمشاعر المتأتية من المنحوتات وانحناءات الخطوط وتعريجات الزيوت المتلألئة على القماشات والخامات.. هو بمثابة غنائية ومؤالفة عجيبة تنمو عميقًا بين الألوان والأفكار تثبّت أحاسيس الفنان تجاه واقعه، وترجمة لدهشته المطلقة أمام سديم الكون وانفعالاته الغامضة والواضحة أمام أسئلة الوجود وقدر الإنسان أمام مصائره المحتومة، وربّما صلاة مليئة بالتجاويف تُرتجَل وتتنقل من خاطرة إلى خاطرة يوجهها حنينه الداخلي نحو الأبدية المرفوعة على أديم من الصوفية والغزل الروحي.
الرسام التونسي الراحل المنصف بن عمر (1943 - 1990) قدّم فلسفته الجمالية من خلال جملة من المعارض الفنية
لم يقدّم لنا فنّ الرسم كما الشعر مفهومًا واضحًا للعالم، وإنما قدّم لنا حالة ممجدة لا تخضع للزمنية البائدة وإنما تخضع لأزمة الخلود وهي ما سميّناه عالم الجمال، هذا العالم الذي وقانا من هول المعاناة والأسئلة الحارقة وأخذ بأيدينا نحو تخوم التاريخ حتى نفهم ما حدث.
لكن ثمة من الرسامين الفنانين من لم يكتف بحالته الممجدة تلك، فذهب بعيدًا إلى جغرافيا القلق الوجودي المعتّم التي حدثنا عنها الشاعر العربي "أبو الطيب المتنبي" اختزالًا في قوله: "على قلق كأنّ الريح تحتي أوجهها جنوبًا أو شمالًا".
انخرط المنصف بن عمر في الحياة المسرحية، فاشتغل مع المسرحي التونسي الكبير "علي بن عياد" في تصميم مناظر المسرحيات
ومن الرسامين التونسيين الذين عاشوا قلقهم الوجودي وخلقوا لغة تشكيلية محمّلة بالإشارات الإلهية والمكاشفات الشعرية، لغة تغاير لغة الحياة اليومية ومعانيها المعتادة، ومتسربلة بالكشف والحكمة، لغة تحملنا إلى أصقاع النور حيث يتكثّف الحنين فينسكب حممًا تذيب الروح لتنشئها من جديد.. ومن هؤلاء يمكن ذكر: "الماتر" الحبيب بوعبانة، الحبيب شبيل، الهادي التركي، الناصر بالشيخ، عبد الرزاق الساحلي، لطفي الأرناِوط، نجا المهداوي، نجيب بلخوجة، محمود السهيلي.. وغيرهم من أفذاذ الفرشاة التونسية.
لكن تبقى تجربة الفنان "المنصف بن عمر" هي المفازة الشفافة النقية الأسيلة الناتئة والأعمق فلسفيًا والأقرب إلى دوائر الاحتراق ومكاشفة شعرية الألوان على سديم البياض وحرقة السؤال حول جدوى الحياة، إنها عالم مستقل متصل ومنفصل مع ما يحدث في الجنبات والأثناء، وسفر روحي زاخم نحو اللاّمألوف في الرسم التونسي.
الرسام الراحل "المنصف بن عمر" (1943 - 1990)، متماسك الهشاشة، مترّع بالقلق لكنه سار بيننا ذات يوم وجالسنا في البارات والمقاهي ونظر إلينا متأملًا، لكننا في الزحمة لم نكن نراه، لم يستكن للحياة الأليفة والألوان المهللة فتحرّر بالموت ذات صيف بمرسمه بضاحية المنزه بالعاصمة تونس ولم ينتظر أن يأتيه الغيب، بل واجهه كنبيل، كعازفي الكمنجات في شريط "تايتانيك" تاركًا إيانا في العراء الجمالي، نحن يتامى من بعده!
لقد كانت الساحة الثقافية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين منشغلة بترتيب رتابتها وأحلامها الصغيرة عندما أقام بيننا الفنان التشكيلي المنصف بن عمر، وكان الطقس السياسي في تلك الفترة التاريخية مدلهمًا، معتمًا، يشي بغموض مفزع، وكانت النخب الثقافية تمارس لهوها الولوع مع الإيديولوجيات، وقد حاول الرسام في الأثناء تقديم فلسفته الجمالية من خلال جملة من المعارض الفنية التي بسطها أمام أعين المتلقين بقاعة الأخبار بالعاصمة تونس بين سنوات 1974 و1981.
ومثله مثل الرسامين الزبير التركي والحبيب شبيل، انخرط المنصف بن عمر في الحياة المسرحية الضاجة والمعتملة، فاشتغل مع المسرحي التونسي الكبير "علي بن عياد" في تصميم مناظر المسرحيات وكان لا يغيب عن جلسات التفكير حول الأعمال المسرحية، ويذكر أنه صمم مناظر مسرحية "شهداء الحرية" التي أخرجها الفنان البشير الدريسي ووضع موسيقاها المايسترو "محمد القرفي".
لقد كان الرسام المنصف بن عمر سهمًا ممشوقًا مرشوقًا في تاريخ الفن التشكيلي التونسي والعربي لا ينظر إلا إلى ما بعد تفتت الصخرة.
لم يترك الرسام التونسي المنصف بن عمر مدونة وفيرة من حيث العدد، لكنه ترك إطلالة فريدة وتركنا في العراء الجمالي، نحن يتامى من بعده!
لم يترك الرسام التونسي المنصف بن عمر مدونة وفيرة من حيث العدد، لكنه ترك إطلالة فريدة على مرج معلق في السحاب يشبه قرية "ماتشو بيتشو" البيروفية، تأتي أعماله في صميم الشعرية، تنتمي إلى حدود الخارق، بل هي قصائد تُحبّ لذاتها لا للموضوعات التي تتناولها، ساحرة وباذخة، تتعتعنا ولا تقول خباياها، إنها تلاقٍ عجيب بين الذاتي والأسطوري، إنها لا تشرح عقليًا بل تشرح بدءًا بالحساسية التي تتخارج منك لتلتقط ضربات الفرشاة على القماش.
إن الأعمال التشكيلية الفريدة للمنصف بن عمر تراوح بين التجريدي والتشخيصي لتذكرنا بالخصوصيات الفنية لمدرسة الرسام الإسباني "سلفادور دالي" ذات الانفعالات العجائبية وبالمشاعر الإنسانية البسيطة والمعقدة والغامضة والواضحة التي نعيشها في الواقع وفي الحلم فيقولها الفنان بدلنا، إننا نرانا في أعماله.
رسوماته لا تحاول إعادة خلق الواقع بل تتحدث معه بلغة غير اللغة، ولا يهمها أن يأتي الحديث متلاحمًا مترابطًا بقدر ما يهمها أن يأتي الحديث مخلصًا للأفكار والمبادئ والمعاناة المجنونة.
عندما تشخص وتنظر طويلًا في أعمال الرّسام الراحل المنصف بن عمر، ينتابك للتو شعور غريب فيما يشبه النداء العظيم الذي يعلو عميقًا آسرًا، كأنه يتدافع من أطراف العالم الأربعة ليشعرنا بالنبض الكوني الهائل.. إنها أعمال مشحونة بطاقات جمالية تتموج كالريح وكمروج الأقحوان بسهول الشمال الغربي التونسي، كما لو أنها تريد أن تعانق غيرها لتكتمل به وإنما لتكتمل بالكون كلّه.
هذا السفر الذي يمنحنا إياه الرسام الراحل المنصف بن عمر إلى ما وراء الواقع انطلاقًا من درب الآلام لا يعنى الهروب من الواقع نفسه، بل هو عتبة ثانية للعودة والسفر المعاكس، إنه إياب آخر يا سادة، فالرسام هنا لا يبحث عن واقع آخر كي يغيب خارج الواقع في الخيال والحلم والرؤيا، بل نجده يستعين بومضات مستترة لفرشاته وهي تهوي بالألوان على القماشات فتتلبس ببعضها البعض على نحو صميمي، فيكون بذلك قد اقتحم اليومي الرتيب الركيك سواء أكان سياسيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، فيفككه ليعيد بناءه من جديد، هكذا ينهض الرسام والواقع في نفس الوقت في نوع من العناق الرمزي.
تذكرنا أعمال المنصف بن عمر بالخصوصيات الفنية لمدرسة الرسام الإسباني "سلفادور دالي" ذات الانفعالات العجائبية وبالمشاعر الإنسانية البسيطة والمعقدة
الشكل الفكري للمفردة التشكيلية عند الرسام الراحل المنصف بن عمر هو حضورها الجمالي في مواجهة القبح الساري في المجتمع قبل أن تكون إيقاعًا وألوانًا ولعبة ظلال في مخاتلة الضياءات، وأيضًا حضورها كوحدة رمزية وفلسفية متناغمة بموجبها تختزل المسافات السحيقة بين الشيء وضدّه، لقد كان غرامشيًا يريد تغيير الحياة لكن القبح كان أعتى.
قد لا تُذكر كثيرًا رحلة الرسام التونسي الراحل المنصف بن عمر، لكنها خالدة مخلّدة كـ"أثر الفراشة":
"أثر الفراشة لا يرى..
أثر الفراشة لا يزول..
هو جاذبية غامض يستدرج المعنى ويرحل
حين يتضح السبيل.
هو خفّة الأبدي في اليومي..".
(محمود درويش)