11-يناير-2023
الهادي التركي

شريط "حياة الشكل" كان رحلة ثقافية وفكرية ضرورية حتى ننظر للمنجز البصري للفنان المخلّد الهادي التركي

 

"إن الفنّ ليس تمثيلًا لشيء جميل بقدر ما هو تمثيل جميل لشيء"، هكذا تحدّث  فيلسوف القرن الثامن عشر الألماني إيمانويل كانط بعد طول تأمل وتفكير في العمل الفني. وقد عُدّ قوله ذاك دربًا فلسفيًا كشّافًا كان أول من سلكه بشجاعة نادرة الشاعر فريدرش هولدرلين الذي اعتبر أن الشعر يقول الحقيقة الغامضة للإنسان بأدوات جمالية بسيطة وليس فسحة بلاغية على ضفاف اللغة. وسار في الدرب العظيم من بعده كُتّابٌ وفلاسفة ومسرحيون ورسامون بحثًا عن النبوءات التي تتسامى بالناس. 

وقد أدى ذلك إلى تشكّل تصورات فلسفية جديدة اهتمت بالغائية الجمالية أو تلك الانخطافات التي تتيّه الجسد والروح والضوء واللغة والإيقاع والمشاعر. كلها معًا في دوائر التّسآل والمعنى، وأصبح الاشتغال على الأثر الفني درسًا فلسفيًا أساسيًا في حياة الإنسان المعاصر. وتفرّع عن الدرب دروب عديدة وخرج الإبداع الفني من الانطباعية الساكتة إلى حقول التفكير وبيادر الفلسفة الحديثة والمعاصرة. 

في الثقافة التونسية نخبة قليلة من المبدعين ممن التزموا بوعي بالقاعدة الفلسفية الكانطية وطوّعوا لها الواقع وحولوه إلى جمال فكري قابل للتأويل والقراءة والبحث والتأمل لعلّ أبرزهم الرسام  الفذّ "الهادي التركي"

وفي الثقافة التونسية الحديثة، فإن نخبة قليلة من المبدعين في مختلف المجالات الفنية ممن التزموا بوعي بالقاعدة الفلسفية الكانطية وطوّعوا لها الواقع وحولوه إلى جمال فكري قابل للتأويل والقراءة والبحث والتأمل. ولنا أن نذكر منهم اسمًا بارزًا وهو الرسام  الفذّ "الهادي التركي" (1922-2019) الذي تحتفي تونس هذه الأيام بالذكرى المائة لميلاده باعتباره علمًا صاحب منجز فني "رهيب" تسكنه الجسارة في التجريب والانسيابية في تحويل الواقع إلى نواة تحلم بمعانقة المطلق، حيث يقول تماهيًا مع مقولة إيمانويل كانط: "على المرء أن يدرك حياة الشكل وليس شكل الحياة" وهو قول لخّص من خلاله رؤيته العاتية والعفوية للفن والعدم والخلود والحرية والوجود.

وله أيضًا حضور متفرد بين الناس، فهو لا محالة يترك الأثر الطيب أينما حلّ  كالمتصوفة الدراويش ناثري البركات والابتسامات على ذرى القلوب المنكسرة. وهو بذلك يعتبر الرسام التونسي الأكثر قربًا من الشعب والأكثر دراية بمشاعره. 

صورة
ترك الرسام الهادي التركي زادًا فنيًا ثريًا أثث مسيرته

 

لكن الاحتفاء الحقيقي والملفت للانتباه بالذكرى المائة لميلاد الرسام "الهادي التركي" جاء من قبل عائلته التي نشرت منذ أيام قليلة لعموم التونسيين شريطًا سينمائيًا وثائقيًا حمل عنوان "حياة الشكل" يستعيد هذه الشخصية المركزية في الثقافة التونسية طيلة القرن العشرين ويقدمها ضمن صيرورة زمنية منتقاة كشفت لنا زوايا أخرى عن تاريخ الفن التشكيلي التونسي.

الاحتفاء الحقيقي والملفت للانتباه بالذكرى الـ100 لميلاد الرسام "الهادي التركي" جاء من قبل عائلته التي نشرت شريطًا سينمائيًا وثائقيًا بعنوان "حياة الشكل" يستعيد هذه الشخصية المركزية في الثقافة التونسية طيلة القرن الـ20

"حياة الشكل" لم يكن الهدف منه إحراج الدولة أو اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين على اعتبار أن التركي كان أبًا مؤسسًا له وأحد الناشطين الفاعلين في صلبه لسنوات عديدة، لكنه أحرجهما بطريقة غير مباشرة لأن الأصل في التكريم والاحتفاء بالشخصيات الثقافية المركزية للمجتمع تقوم به الدولة وأبناء القطاع بدرجة أقل. وهنا يُلحّ السؤال ويتراءى أفقه جليًا وهو: متى ستنتبه الدولة للأسماء التي لمعت في المجتمع التونسي عبر التاريخ  وتقدم رمزيتهم للأجيال؟

شريط "حياة الشكل" الذي لم يتلقَّ دعمًا مباشرًا من الدولة طيلة سنوات إنتاجه انبرى له بالتفكير والتدبير في الإنتاج كل من "حيدر التركي" حفيد الرسام و"سميرة التركي" ابنته وأخرجه "رامي الجربوعي".

صورة
كان الرسام منشغلًا بقضايا الهوية وهموم الأمة العربية الإسلامية وخصوصًا القضية الفلسطينية

 

الشريط لم يعزل المحتفى به عن سياقات عصره ويقتصر على تقديمه لذاته والتركيز على منجزه الفني باعتباره أحد رموز الحركة التشكيلية التونسية فحسب، بل استعرض أيضًا حياة الرسام ضمن حركة التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي التونسي، ففهمنا من الفيلم ما كان يحدث في تونس قبل الاستقلال وبعده، خصوصًا مرحلة بناء دولة الاستقلال، فبدت شخصية الفنان الهادي التركي شخصية تونسية صرفة متماهية مع ثقافتها المحلية، ومنشغلة بقضايا الهوية وهموم الأمة العربية الإسلامية وخصوصًا القضية الفلسطينية وتواقة نحو الأفضل، وذلك رغم انحدار التركي من عائلة "بلدية" فبدا قريبًا من الناس يجالسهم ويخالطهم ويناقشهم ويستمع إليهم، فحق له لقب "رسام الشعب".

شريط "حياة الشكل" لم يقتصر على تقديم الرسام والتركيز على منجزه الفني كأحد رموز الحركة التشكيلية التونسية فحسب، بل استعرض أيضًا حياته ضمن حركة التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي التونسي

حاول صنّاع الشريط استيعاب كل تجربة للفنان الهادي التركي في بعديها الشخصي والفني، لكن طولها وغزارتها وتشعبها في بعض المراحل جعلهم في حيرة من أمرهم في بعض الأحيان  فاقتصروا على عملية الانتقاء جعلتهم وقوفًا أمام الأهم  في المسيرة المتوجة وفي قرارة أنفسهم أن حياة التركي لا يمكن أن يستوعبها شريط سينمائي.

 

 

وقد ساعدهم في ذلك عدد من المستجوبين من عائلة التركي على غرار سمير التركي ومن أصدقائه على غرار علي اللواتي وزبير الأصرم، وهي شخصيات كانت لها أدوار في الحياة الثقافية التونسية فقدمت شهادات حية أو وجهات نظر شخصية عن مسيرة الفنان، لكن تبقى أهمها شهادة الرسام "الناصر بالشيخ"، وهو من معاصري التركي وجمعتهما صداقة حافلة بالنقاشات والاختلاف والمعارك الفنية التي تحولت إلى نقاش فكري على أعمدة الصحافة في فترة ثمانينات القرن العشرين. لقد أعطت شهادة بالشيخ للشريط روحًا استثنائية وصدقًا ونبلًا واعترافًا ورقيًا من النادر أن نلقاه بين المثقفين. 

صورة
"حياة الشكل" تفوق في تقديم العمق الإنساني لهذا المثقف الاستثنائي

 

"حياة الشكل" تفوق في تقديم العمق الإنساني لهذا المثقف التونسي الاستثنائي (رسام الشعب) فكان الإجماع على سماحته ولطفه وجنوحه إلى الطيبة المتأصلة فيه. لكنه أغفل الجانب السياسي من حياة الهادي التركي فقد صمت المتدخلون في شهادتهم في  الشريط عن الممارسة السياسية للفنان ومواقفه مما يحدث في البلاد في الزمنين البورقيبي والنوفمبري.

 

 

مقابل ذلك تعمق الشريط في تبيان أن الرسام الهادي التركي وبعد رحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1959 أحدث قطيعة إبستمولوجية في الحياة التشكيلية التونسية بتبنيه "للتعبيرية التجريدية" التي تؤثر بأهم رموزها في العالم "جاكسون بولوك" الذي قاد ثورة في العالم للقطع مع اللوحة الكلاسيكية الموروثة عن عصر النهضة والذهاب نحو التجريد كأرض واسعة الدلالة فيما يشبه الحرية المطلقة. 

شريط "حياة الشكل" كان رحلة ثقافية وفكرية ضرورية حتى ننظر للمنجز البصري للفنان المخلّد الهادي التركي الذي طبع قرنًا من الفن التشكيلي التونسي بحضوره الكبير وفلسفته العفوية وترسيخه للمفردة التشكيلية الخاصة به

ووقف الشريط على الصعوبة التي واجهها الهادي التركي عندما بدأ في نشر أعماله ولوحاته بأسلوبه الجديد وخاصة مع جماعة مدرسة تونس المحافظة والتي يتزعمها شقيقه الرسام زبير التركي وعبد العزيز القرجي. لقد كانت مواجهة شرسة سانده فيها عدد من الرسامين الكبار على غرار نجيب بلخوجة.

وفي أوج دفاعه عن أسلوبه الجديد كان التركي يمارس عادته اليومية في الشوارع التونسية والأمكنة العامة في رسم الوجوه وما تحمله من تعابير إنسانية فكان لا يبخل على أحد برسم لوحة خطية ومنحه إياها بكل محبة، حتى أن عائلته لم تستطع تقديم إحصاء نهائي لرسوماته المنتشرة بالمئات في ديار التونسيين من الشمال إلى الجنوب. لقد كان جديرًا بلقب "رسام الشعب".

لقد لمسنا من خلال الشريط أن صراعات الهادي التركي مع مجايليه من المثقفين والرسامين كانت من أجل نموذج آخر للحقيقة. حقيقة الفن والحقيقة الغامضة لوجود الإنسان وعلاقته بنفسه وبالعالم، تمامًا كما كان يفكر مارتن هيدغر بخصوص العمل الفني: "العمل الفني وحدة جمالية مستقلة للمعنى والإحساس.

صورة
كان الهادي التركي جديرًا بلقب "رسام الشعب"

 

لقد كان التركي كانطيًا وهايدغاريًا من دون أن يقصد أن يكون كذلك، فكانت حياة الشكل هاجسًا قويًا لا يفارقه وقد مشى به أشواطًا أخرى نحو أرض جديدة غير متوقعة في عالم الرسم التونسي وهي أرض التأمل فيما يشبه التصوف اللوني فكان يضع ستارًا شفافًا في جل رسوماته الأخيرة قبل أن ينقطع تمامًا عن الرسم في السنوات الأخيرة. هذا الستار كان حاجزًا يحمي الرائي والمتلقي البسيط من قسوة الواقع وألم الحياة  المقدّر. كان الفنان يريد أن يقينا من لفح حار. نعم يريد أن يقي أرواحنا الصغيرة حتى تمرّ عواصف الحياة. لقد كان الفنان يرى ما نرى. 

شريط "حياة الشكل" كان رحلة ثقافية وفكرية ضرورية حتى ننظر للمنجز البصري للفنان المخلّد الهادي التركي الذي طبع قرنًا من الفن التشكيلي التونسي بحضوره الكبير وفلسفته العفوية وترسيخه للمفردة التشكيلية الخاصة به. وهنا نخلص مع شريط  "حياة الشكل" إلى نفس ما خلص إليه الفيلسوف مارتن هيدغر بأنه "إذا كان أصل العمل الفني هو الفنان، فإن أصل الفنان هو الأثر الفني نفسه".