10-مايو-2021

النص التونسي حاليًا محكوم أكثر من أي وقت مضى بسرد الخوف (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

مقال رأي

 

النص التونسي حاليًا محكوم أكثر من أي وقت مضى بسرد الخوف. شبكة من المخاوف البنيوية المتناحرة والتي يغذي بعضها بعضًا تتفرع إلى أيديولوجية قانونية (الخوف من تركيز المحكمة الدستورية، الخوف من عدم تركيز المحكمة الدستورية..)، مخاوف أخلاقية أساسًا (بسط نمط/خطاب معين على مساحة الراحة zone de confort في الحكم وهي هنا نمط الرئيس الشعبي التبشيري و"الثائر" الذي يقف على طرف النقيض مع فكرة البناء العقلي للدولة ضد نمط تقنوي هرمي  hiérarchique  قائم على التمعش المؤسساتي ووريث تركة تاريخية ثقيلة في إدارة الدولة الممثل في الائتلاف الحاكم).

لكن هذه المخاوف تحافظ على شكلها وعدم تجانسها عندما تنصهر في نموذج الخوف السائل الذي هيمن على العالم.

النص التونسي حاليًا محكوم أكثر من أي وقت مضى بسرد الخوف، شبكة من المخاوف البنيوية المتناحرة والتي يغذي بعضها بعضًا

شكل آخر من الخوف العارم والمعولم العابر للحدود -تمامًا كرؤوس الأموال- يفرغ الجيوب و يملأ القبور يرتقي لمستوى القلق (inquiétude) الحضاري من جهة والوجودي من جهة أخرى. الخوف من الآخر كفضاء ناقل للمعاناة، الخوف من شكل حديث "للفناء العنيف"، الخوف من استحضار آلام الإنسان الأولى في تلبية حاجياته الأساسية، الخوف من إخفاق الإنسان الحديث -مع كل إنجازاته- في صراعه مع الطبيعة. الإنسان الذي يحَارَب في بقائه وفي وجوده وفي رغبته الأزلية في اجتناب الألم، يحاول حصار الوباء عبر العزل والاعتزال والحجر، لكنه يفشل فشلًا ذريعًا في محاصرة الخوف.

اقرأ/ي أيضًا:  مسرحية "الخوف"... سيميولوجيا محضة حول الواقع التونسي

تقدم الدولة هذه المرة على إقرار حجر صحي شامل، بهدف شل شبه كلي لحركة الجسم الاجتماعي/الجماعة مصدر المعاناة. لكن حالة الفزع التي تلت الإعلان عن الحجر تطرح الاستفهام: أيهما أشد عدوى وأشد ضراوة: الوباء/الموت أم الخوف؟

رسالة الدولة ككيان سياسي من جهة لا تبلغ وجدان الشعب وإن كان السبب السياسي هنا مفهومًا لكن مقصد الدولة من جهة ثانية كجهاز مؤسساتي بدورها غزاها شبح الخوف (الإفلاس، انهيار المنظومة الصحية، العصيان وفقدان السلطة).

تقدم الدولة هذه المرة على إقرار حجر صحي شامل، بهدف شل شبه كلي لحركة الجسم الاجتماعي مصدر المعاناة، لكن حالة الفزع التي تلت الإعلان عن الحجر تطرح الاستفهام: أيهما أشد ضراوة: الوباء/الموت أم الخوف؟

عمومًا يواجه البشر دومًا وضعًا جديدًا بإجراء مقارنة أو الأصح عملية استحضار لحظة سابقة تشترك مع الزمن الحاضر في العلة (وفي هذه الحالة الألم) ولعل أقرب صورة للذاكرة هي صورة الحرب حيث تضحي الدولة بالأفراد والجماعات من أجل بقائها وقياسًا على ذلك يترسب في الأذهان أن كل إجراء تتحيزه الدولة هو بمثابة المحرقة البشرية.

اقرأ/ي أيضًا:  الترامبية، الماكرونية.. والسعيّدية: الوصفة الدعائية لرؤساء الجيل الرابع

أبعد من ذلك، الوباء الذي حمل معه جينات الفلسفة الليبرالية في أبعادها الفردانية، الفرد الذي انتقل بعبارة فتحي المسكيني من حروب الجماعة إلى حروب المناعة وفرض بذلك الألم أو الخوف من الألم تضحية الإنسان بـ(مدنيته) إلى فرضية أنثروبولوجية قائمة على مفهوم الإنسان غير الاجتماعي أي فرد داخل الجماعة يبحث عن توسيع الزمان والمكان بينهما وتتطور الحالة النفسية للفرد إلى عداء أخلاقي لأي شكل من الحميمية الاجتماعية (القبل، العناق، المصافحة..) وحتى المجالسة (الخوف من أيٍّ كان يسعل) لنصل في الأخير -خاصة مع تشظي فكرة الدولة بفعل العولمة- إلى حالة حديثة لما قبل الدولة عند هوبز، حالة حرب الكل ضد الكل.

مع ازدياد عدد الموتى والمرضى وإشراف النظام الصحي على الانهيار وأزمة النظام المالي وارتهان الدولة عند تكتلات اقتصادية عالمية تمتهن الابتزاز وتكديس الثروة أحادية القطب ووأد فكرة العدالة الاجتماعية.. إلخ، يجبر الوباء الدولة على التراجع لفائدة السوق العالمية التي تصير التنظيم المثالي للواقع الاجتماعي والحل الوحيد للبقاء، البقاء الذي تتحكم فيه شركات/عصابات الأدوية العابرة للقارات و تصير الدولة مجرد وسيط تجاري لوصول اللقاحات (وفي حالة الدولة التونسية وسيطًا متأخرًا عن الجميع).

الخوف أشد فتكًا من الموت /الوباء نفسه، لا يمكن قطعًا البناء فوق ومع وضمن الخوف، كل بناء في الخوف آيل للانهيار

إلى جانب الميل الجماعي لعصيان القانون الذي يفرض بعنف الدولة احترامه ويتصرف ضد إرادة الأفراد باعتبار الدولة عدوًا "برجوازيًا" على الأقل في الضمير الشعبي الجامع. زد عليه ضعفًا اتصاليًا مخزيًا وأزمة تصور فادحة لمعادلة الفعل ورد الفعل جراء إقرار الحجر/الشلل شبه الكامل من الدولة وإفلاسًا في الخطاب النفسي وفقدانًا للثقة المعمم في مكونات المشهد السياسي التي يطفو تصورها للدولة كفضاء للتمعش  وتصريف تركة الحكم التقليدية (محاباة وظيفية، قرابة دموية، ولاء حزبي) في توزيع اللقاح/الحياة، مع تكديس افتراضي للأرقام والصور وتعداد الوفيات على صفحات التواصل بما يخلق شبكة موازية للخوف النفسي تعقبها رغبة في أمان مالي وغذائي يدفع الأفراد للخروج ضمن كتل بشرية متراصة ومختنقة ومذعورة. كل هذا يدفع إلى الإفلاس الإجرائي والخراب الصحي والاحتضار الاجتماعي.

الخوف أشد فتكًا من الموت /الوباء نفسه، لا يمكن قطعًا البناء فوق ومع وضمن الخوف، كل بناء في الخوف آيل للانهيار.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

التونسي بين حق الملح ومدن الملح و.. حكومة "متملحة"

الخطة الاتصالية غائبة.. عزوف كبار السن عن التلقيح في تونس