08-مايو-2021

عذرًا منيف، نحن لسنا واحدة من "مدن الملح"، نحن بلد بـ"حكومة متملحة".. (صورة توضيحية/ Ricardo Funari/ Getty)

مقال رأي

 

تصدير: "قصدتُ بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد.." عبد الرحمان منيف عن سبب تسمية روايته "مدن الملح".


من وراء كمامته الصالحة للغسل مئات المرات ربما، رحّب بي سائق "التاكسي" وأنا أصعد إلى سيارته. إيذانًا من كلينا ببدء "الكورسة"، كي يبدأ معها تطبيقنا الآلي لإجراءات التوقي من فيروس كورونا، وما أدراك ما.. إجراءات التوقي!

أربعيني هو.. خطّ الشقاء على ما بقي ظاهرًا من ملامحه ما خطّ. لم ينبس بكلمة رغم قطعنا لربع المسافة تقريبًا. لكن كان عليّ أن أدرك أن هذا الهدوء المعلن، لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق.. كلمة رئيس الحكومة!

رئيس الحكومة هشام المشيشي يعلن حجرًا صحيًا شاملًا في تونس انطلاقًا من 9 ماي..

نعم، إنه الجمعة 7 ماي/ أيار 2021، موعد النطق بالإجراءات الجديدة التي اتخذتها الحكومة بتوصية من اللجنة العلمية لمجابهة فيروس كورونا.

ولدى نطق هشام المشيشي بجملة: "قررنا استغلال فترة العيد هذه لإقرار حجر صحي شامل ينطلق من يوم 9 إلى 16 ماي"، وسكت قليلًا قبل أن يضيف: "هذه الأيام السبعة ستتغير فيها الكثير من الأشياء".. انقلبت سحنة السائق وأطلق كلمة بذيئة، قبل أن يحمرّ وجهه ويصيح بغضب: "جمعة كاملة باش تسكّروا البلاد؟ لاباس؟".

تابعت معه بقية التفاصيل ونحن نستمع لخطاب رئيس الحكومة في الإذاعة، والذي أنهى حديثه ليحيل الكلمة إلى الناطقة الرسمية باسم الحكومة حسناء بن سليمان. كرّرت هذه الأخيرة ما مفاده أن إجراء الحجر لا يعدّ غلقًا كاملًا باعتبار أن نصف مدته هي عطلة رسمية أساسًا بمناسبة عيد الفطر.

وعند هذه النقطة لم يحتمل السائق أكثر. قرّر أن يوقف الكلام عند هذا الحدّ،  ليبدأ هو في الحديث. فأغلق الجهاز بيد منفعلة وهتف بي مستنكرًا:

"استمع إليها، تقول عطلة! عطلة؟ هي عطلة لها ولزملائها من الوزراء الذين تأتيهم جراياتهم وهم جلوس في بيوتهم. عطلة؟ أنا عملي قائم على تلك العطلة، فإن حبسوني في بيتي متى أعمل؟ هؤلاء لا يفكرون إلا في أنفسهم كموظفي دولة، أما نحن..! هل تظنّني أمتلك هذا "التاكسي"؟ ما أنا إلا "صانع"، أقبض بين 22 و27 دينارًا في اليوم الواحد. وهو مبلغ لا يكاد يكفي عائلتي، فهل حين يجبرونني على عدم العمل، فكروا في ابنتي؟ فكروا في زوجتي؟ من أين سأطعمهم؟ سلفة؟ من سيقرضني؟ كيف سأعيدها بعد ذلك؟ هل سيعطوننا 100 دينار حتى؟".

 أيُعقل ألاّ تفكر الدولة بطمّ طميمها في قطاعات بحالها لن تكون قادرة على الصمود لأسبوع في الحجر الصحي الشامل؟ وأيّ أسبوع! أسبوع عيد الفطر وما رافقه من مصاريف؟

بدا أن كل محاولة مني للتهوين عليه لن تزيده إلاّ غضبًا، فآثرت الصمت مكتفيًا بهزّ الرأس. على أنّ لساني لم يلبث أن قال بلا سابق تفكير: "بالتأكيد سيعلنون عن إجراءات مصاحبة". شعرت بالندم بعد نطقها خاصة وأنه نظر إليّ نظرات اتهام وشكّ وكأني محسوب عليهم أو أدافع عنهم، فتداركت: "صعب ألّا يفكروا في قطاعات بأسرها كقطاعكم، ربما أعلنوا عنها حين قطعتَ البث".

حرك رأسه في إشارة إلى أنه لا فائدة في الحديث معي. لسان حاله يقول "ما يحس بالجمرة  كان اللي يعفس عليها". بلغتُ وجهتي أخيرًا فأعاد لي الباقي من الأجرة وهو يغمغم: "ثق أنهم لم يعلنوا عن إجراءات مصاحبة ولن يفعلوا.. (متملحين منا يا صاحبي)". "متملحين"؟

نزلت من "التاكسي" وأنا أضرب أخماسًا في أسداسًا، أيُعقل ألاّ تفكر الدولة بطمّ طميمها في قطاعات بحالها لن تكون قادرة على الصمود لأسبوع في الحجر الصحي الشامل؟ وأيّ أسبوع! أسبوع عيد الفطر وما رافقه من مصاريف. وصلت إلى وجهتي أخيرًا فصافحت بعينيّ بعض الأصدقاء الأعزاء قبل أن يطلب مني أحدهم أن يحادثني على انفراد، خيرًا؟

عاد بي صديقي هذا إلى الجدل الذي أحدثته صورة متداولة على موقع فيسبوك، وهي لسيارة فخمة كُتب عليها "حق الملح"، وهذه العادة هي تكريم خاص بالمرأة التي تعبت في تجهيز شتى أصناف المأكولات في رمضان، خاصة مع اضطرارها أحيانًا إلى تذوق درجة ملوحة الطعام وهي صائمة. فيكون جزاؤها هدية يقدمها لها زوجها بعد صلاة عيد الفطر.

اقرأ/ي أيضًا: "حق الملح".. عادة تونسية في طريقها إلى الاندثار

وبعد جدل حول هذه العادة المتوارثة ورمزياتها ودلالاتها، اشتكى لي من أنّ "العين بصيرة واليد قصيرة"، فبعد أن كان يمنّي نفسه بمفاجأة زوجته بهدية بسيطة رمزية تحمل عنوان "حق الملح"، فوجئ بأنّ تلميحاتها تنصبّ في إطار "هناك أزواج يُهدون سيارات، وأزواج يُهدون منازل وفيلات، وأنا لن ينوبني حتى قطعة ذهب"، وقال: "تصوّر! اسمه 'حق الملح'، لكنها تريده أن يصبح من الذهب، ألا تعلم 'حق الذهب'؟ ألا ترى بنفسها كيف أنفق على: حق الكراء، حق فاتورة الماء، حق فاتورة الكهرباء، حق الانترنات، حق بنزين السيارة، حق الدروس الخصوصية، إلى آخر ذلك من الحقوق؟ ألا تدري هي أن 'حق الملح' اليوم أصبح لمن استطاع إليه سبيلًا؟".

وافقته أيضًا بهزّة من رأسي.. حق الملح؟ وقبل قليل أخبرني السائق عن "المتملحين"؟

عبد الرحمان منيف: مدن الملح عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر سوف نكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال

لدى عودتي إلى البيت سمعتُ أن وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي قد أعلنها صراحة.. لا إجراءات مصاحبة! فهو أسبوع وسيمرّ.. لا أعلم حينها لماذا تذكّرت سائق التاكسي "متملحين منا يا صاحبي".. ثم "حق الملح". أتكون بلادنا واحدة من "مدن الملح"؟ أذكر أنه عندما سئل الكاتب السعودي المولود بالأردن عبد الرحمان منيف عن سبب اختياره "مدن الملح" عنوانًا لروايته المكوّنة من 5 أجزاء قال إنه "عندما يفكر الإنسان للوهلة الأولى لاختيار عنوان لهذه الرواية فسيقع اختياره على مدن النفط، لكني قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة (النفط)".

وتابع منيف: "هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح. فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، إلا أن أي زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدنًا استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم، وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى. وكما قلت مرارًا، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر سوف نكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال وليست مكانًا طبيعيًا لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل".

عذرًا منيف، نحن لسنا واحدة من "مدن الملح"، نحن بلد بـ"حكومة متملحة".. نشأت في غفلة من الشعب.. بمعنى ليست نتيجة حوار وتوافقات واتباع للدستور

منيف كان يتحدث عن البلدان النفطية وكيف ساهم النفط في انتقالها من البداوة إلى الحضارة بطريقة مفاجئة، وكيف أنّ فقدان هذا العامل كفيل بانهيار هذه الأنظمة! كلها رأسًا على عقب، هل نحن ذاهبون في سيناريو "مدن الملح" نفسه، خاصة مع التوجه نحو التخفيض في كتلة الأجور ورفع الدعم عن بعض المنتوجات بما يعني ارتفاع أسعارها، وتسريح عدد من الموظفين؟

عذرًا منيف، نحن لسنا واحدة من "مدن الملح"، نحن بلد بـ"حكومة متملحة".. "نشأت في غفلة من الشعب بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة حوار وتوافقات واتباع للدستور، إنما هي عبارة عن حكومة من الانفجارات نتيجة المحاصصات الحزبية الضيقة، أدت هذه المناكفات إلى قيام أبراج عاجية لكل من رأسي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وأصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها صندوق النقد، وعندما تنقطع عنها إمداداته أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر، سوف نكتشف أنّ هذه (الحكومة المتملحة) هشة وغير قادرة على الاحتمال، وليست في مكانها الطبيعي لإنقاذ دولة تستطيع أن تستوعب شعبها وأن تغير طبيعة حياتهم نحو الأفضل".. عذرًا منيف.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

الملح "ربح" والفحم "بياض".. ميراث التخلّف في تونس