24-فبراير-2019

مسرحية تغوص في المتغير الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع التونسي

 

"الفنّ ليس تمثيلًا لشيء جميل وإنما هو تمثيل جميل لشيء"، مقولة للشاعر الألماني فريدريش هولدرلين الذي قضى نصف حياته، خلال القرن التاسع عشر، مجنونًا لكنه ظل يكتب الشعر بمتانة وجزالة لآخر يوم في حياته.

فتنت مقولته تلك الفلسفة والأدب وخلقت نقاشًا فكريًا عميقًا لا يزال متواصلًا إلى اليوم حول الخلق الفني وقد تبناها جزء كبير من دعاة المدرسة الرومانسية. لقد أودعها الشاعر وهو في مرحلة صفاء النفس جرّاء الجنون روح الحرية، ولذلك نراها تسكن دواخل الفنان الحرّ.

جعل الجعايبي من الفلسفة والتفكير الحرّ منطلقاته في اتجاه خلق عوالمه المسرحية الشديدة الدّقة والتعقيد والتدمير لكل ما هو ثابت ومستقر ونمطي

مقولة هولدرلين استند إليها الفيلسوف مارتن هايدغير ليصوغ محاضراته الشهيرة في الجماليات وحول مأتى الفن ودوره، كما نراها فتنت الأديب التونسي محمود المسعدي الذي أشار إليها أكثر من مرّة في حديثه عن الأدب والكتابة.

ويبدو أن هذه المقولة التي قلبت مفاهيم الرومانسية لأكثر من قرن، جعلت المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي مفتون بها ويقف بثبات على أرضها.

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "كاليغولا" للفاضل الجزيري: أسئلة في الحب والحرية والإرادة

يبدو أن الفاضل الجعايبي، المعروف بدفاعه عن معاني الحرية والديمقراطية بواسطة فن المسرح، جعل من الفلسفة والتفكير الحرّ منطلقاته في اتجاه خلق عوالمه المسرحية الشديدة الدّقة والتعقيد والتدمير لكل ما هو ثابت ومستقر ونمطي. دروبه قد تبدو أحيانًا دونكيشوطية لكنها ضرورة حتمية لمسارات تاريخ هذا الوطن.

الفاضل الجعايبي تشاركه في مساراته الثقافية والفكرية وهواجسه وأحلامه المركّبة والطوباوية في بعض الأحيان، الفنانة الممثلة المسرحية جليلة بكّار ضمن شراكة فيها الكثير من التحدي والتكامل ونقاط الالتقاء حد التماهي حول تفاصيل قضايا المجتمع التونسي وقضايا الانسان أينما كان على هذه الأرض.

واصل الثنائي فاضل الجعايبي وجليلة بكار الاشتغال مخبريًا بعد الثورة بالمتغير الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع التونسي

واصل هذا الثنائي، الاستثنائي والألمعي في تاريخ المسرح التونسي الحديث، اشتغاله وبحثه بعد الثورة بنفس الوتيرة وذلك بانشغاله مخبريًا بالمتغير الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع التونسي، فكانت هناك مسرحيات جدلية ومنشدة للراهن مثل "تسونامي" و"عنف" و"الخوف". وهي عناوين ملتقطة من الحقل اللغوي اليومي للتونسيين بعد الثورة، التونسيون الذين اشتد بهم العنف واستبد بهم الخوف جراء غياب الاستقرار السياسي والاجتماعي والإقتصادي.

تعود هذه الأيام مسرحية "الخوف" لمنح نفسها للجمهور من جديد بقاعة الفن الرابع بشارع باريس بالعاصمة ضمن سلسلة من العروض هي الأولى خلال الموسم الثقافي الجديد، وقد تابع "الترا تونس" العرض الافتتاحي لهذه السلسلة من "الخوف"، وهي آخر إنتاجات مؤسسة المسرح الوطني التابعة لوزارة الشؤون الثقافية.

المعلّقة الإشهارية لمسرحية "الخوف"

"يخي موش كانت ثمة ثريّا لغادي" (ألم تكن توجد ثريّا هناك)، هي جملة دائمة التسلل لنصوص جليلة بكار والفاضل الجعايبي، تُقال دائمًا بنبرة الحسرة على المفقود ورحيل البهاء الذي كان سائدا فتتحوّل الثريّا إلى عنوان أمل منشود.

وينبني فعلًا معمار نصوص بكار والجعايبي على قاعدة المفقود والمنشود، الخراب والأمل وما بينهما من قدرات الذوات على التحدي والإيقاع بالظلمة الحالكة في شبكة خيوط الشمس البازغة.

"الخوف" جزء من الحياة ومقوم أساسي من مقوماتها، وهو أساسي في التركيبة النفسية للإنسان لكن أن يستبدّ الخوف بالشعوب والمجتمعات ويطيل البقاء فذاك هو الخطر الذي التقطه الثنائي بكار والجعايبي واشتغلا عليه فنيًا.

مسرح الجعايبي دائمًا ما ينطلق من الواقع المحلّي فيرمّزه ويشفّره ونجد رجل السياسة يطل برأسه من ثنايا المسرحية

ضمن مناخ تراجيدي عام لمسرحية "الخوف" التي تمتد لمدة ساعتين، تهب عاصفة رملية على مخيّم كشفي لتزعزع كل ثابت فتختلط الأوراق وتضيع الأدلة وتنكشف حقيقة الأنفس ويتجلى الوحشي فينا الذي أبى الترويض والتدجين فيغيب العقل وتحضر القوة والعنف.

مسرح الجعايبي دائمًا ما ينطلق من الواقع المحلّي فيرمّزه ويشفّره لمزيد الانتباه بأن الأمر يعنينا ويعنيهم وربما قد يعني مجتمعات أخرى لها نفس مآسينا، فنجد رجل السياسة يطل برأسه من ثنايا المسرحية واضحًا وجليًا فيبدو الفاعل السياسي اقصائيًا متناحرًا، مهملًا لقضايا الشعب ومنشغلًا بأناه المدمّلة.

اقرأ/ي أيضًا: "ثورة دون كيشوت": ثالوث المال والسياسة والإعلام.. وثنائية العقل والجنون

كما يتبدّى الجانب النفسي الاجتماعي خاصة عندما تشير المسرحية إلى مسألة ضياع القيم الإنسانية الكبرى من خلال ترديد الأغاني الكشفية التي تدرّب الكشّاف على الخير والتضامن والتآخي والتكامل، وتمكنه من إرادات تسهل العيش الكوني المشترك مثل التحدي والمثابرة.

تنطلق مسرحية "الخوف" ومسرح الجعايبي عموماً من مسرح الحياة الواسعة، من الآن وهنا، من الواقع بتشعباته المختلفة ومن قضايا الإنسان. وما عدا ذلك هو تحريف وتزييف ولهو ونوع من العشوائية المسرحية المسيئة لأعظم فن إبتدعه الإنسان وهو المسرح، لذلك نجد حقلًا سيميولوجيًا أو سلسلة من العلامات الاجتماعية المترابطة لها مدلولها المقصود مثل الاشارة لإستمرار الحط من وضعية المرأة داخل المجتمع التونسي الذي كانت له الريادة عربيًا في منح المرأة كامل حقوقها ومواضيع أخرى مثل الجنس والدين.

المعالجة الضوئية في "الخوف" هي معالجة سينمائية وهو ما أدّى لجماليّات مشهدية مسرحية مبهرة قلّما نجد لها نظيرًا في مسارح أخرى

ويبدو أن فاضل الجعايبي، في المستويات التقنية لمسرحية "الخوف"، لم يتخلص من أحلامه القديمة المتعلقة بالسينما حيث نراها تنعكس بقوة على جلّ أعماله المسرحية. فالمعالجة الضوئية في هذا العمل هي معالجة سينمائية وتقطيع المشاهد فيها وترتيبها وتركيبها بدا شبيها بتقطيع الصورة السينمائية، وهو ما أدّى لجماليّات مشهدية مسرحية مبهرة قلّما نجد لها نظيرًا في مسارح أخرى.

أمّا أداء الممثلين، فبقدر الانسجام الذي يسكن الفريق إلا أن الثلاثي الخبير والمتمرس بالخشبة والحديث عن جليلة بكار وفاطمة بن سعيدان ورمزي عزيز بدا هو عماد مسرحية "الخوف". فهم في حالة تماه مع النص ومع الشخصيات إلى درجة تشعر أنهم خلقوا لأداء تلك الأدوار.

مسرحية "الخوف" هي إغناء مرموق للمشهد المسرحي التونسي والعربي ونظرة بنائية لواقع لا يزال يتخبط في أزماته

خلقت مسرحية "الخوف" لنفسها بواسطة الرسائل التي أرادت إيصالها للمتلقي كينونة خطاب منفتحة على سياق إبداعي اختاره الفاضل الجعايبي وجعل له حلقات ترابط من خلال أعماله المسرحية سواء بمسرح الجنوب بقفصة أو بالمسرح الجديد أو فاميليا للإنتاج والآن بمؤسسة المسرح الوطني.

هذا الخطاب الذي يقوم على جملة من القواعد مثل الحرية وحق الاختلاف والمساواة وبناء ذوق عام لرفيع. ختامًا، "الخوف" هي إغناء مرموق للمشهد المسرحي التونسي والعربي ونظرة بنائية لواقع مازال يتخبط في أزماته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"سيكاتريس".. مسرحية عن الصحفي والنظام وجدلية الحرية والتحرير

مسرحية "تقاسيم على الحياة".. "تشيكوف" يلاعبنا ويحملنا إلى ذواتنا المهشمة