26-أبريل-2021

تشهد مراكز التلقيح إقبالًا ضعيفًا في صفوف كبار السن لعوامل عديدة (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

خلال شهر رمضان المعظّم وببهو أحد مراكز التلقيح ضد فيروس كورونا بالعاصمة تونس يقف العمّ سالم وهو شيخ ثمانيني على سديم العمر كمحارب عتيق جابه الحياة بعتوّ المجالدين فتارة ينتصر فيسعد وطورًا ينهزم فيحزن. غير مدرك تمام الإدراك بما يحدث حوله في هذا الفضاء الصحّي، يبدو مأخوذًا حدّ الدّهشة بتتالي أحداث قصّة كورونا التي تقول عيناه إنها بلا نهاية.

لا أحد يقترب من العم سالم من الأطباء أو الممرّضين أو من أصحاب السترات البيضاء ليحسن استقباله أو يحدّثه أو يجلس إلى جانبه للتخفيف من هواجسه المخيفة جرّاء هذه الجائحة الغريبة ومن وطأة ما هو مقدم عليه في مركز التلقيح. يجلس في صالة انتظار فسيحة عكاّزه الخشبي بيمناه وهاتفه النقّال البسيط بيسراه، تسنده ابنته الكبرى لكنه يبدو مهمومًا وحيدًا كصفصافة متعبة في ثنايا قصة كورونا، إنه كقارب طوّحت به الرياح على شاطئ مجهول.

العم سالم الذي التقاه "الترا تونس" بمركز التلقيح بالعاصمة هو واحد من 223 ألف شخص تفوق أعمارهم 80 سنة من مجموع السكان التونسيين الذين لم يتجاوز عددهم 11 مليونًا و700 ألف نسمة وذلك وفق آخر تعداد عام للسكان والسكنى قام به المعهد الوطني للإحصاء.

الإقبال على التطعيم من قبل كبار السن منذ انطلاق الحملة الوطنية للتلقي في مارس 2021 يبدو ضعيفًا إلى أبعد الحدود وذلك لعوامل عديدة تقنية واتصالية

يبدو المشهد في مركز التلقيح ضد فيروس كورونا عاديًا حيث لا وجود للاكتظاظ والزحمة بالرغم من أن تونس تعيش موجة ثالثة لتفشي فيروس كورونا وصفها مؤخرًا أعضاء اللجنة العلمية بـ "المخيفة" و"القاتلة"، وذلك لتميزها بظهور السلالات الجديدة وخاصة السلالة البريطانية.

وكانت تونس وبعد تأخر نسبي في وصول الدفعات الأولى من التلاقيح المتنوعة المصادر والمخابر قد شرعت منذ أزيد من شهر في عملية تطعيم المواطنين وأعطت الأولوية ضمن خطتها في التلقيح لكبار السن اللذين يصل عددهم الجملي إلى 403 ألف شخص منهم 180 ألفًا تتراوح أعمارهم بين 75 و79 سنة في حين تتراوح أعمار البقية بين 80 و90 وحتى الـ 100 سنة فما فوق.

اقرأ/ي أيضًا: مصابو الأمراض المزمنة وجائحة كورونا: معاناة مضاعفة

لكن الإقبال على التطعيم من قبل هذه الفئة العمرية منذ انطلاق العملية في شهر مارس/آذار 2021 يبدو ضعيفًا إلى أبعد الحدود وذلك لعوامل عديدة منها ما هو تقني في علاقة بالمنصة الإلكترونية "إيفاكس" وهي البوابة الوحيدة التي تسمح لكافة التونسيين بالتسجيل من أجل تلقي التلقيح. كما أن عدم وجود الإنترنت وضعفها أحيانًا في بعض الجهات يُعدّ عائقًا للتسجيل أمام عديد الفئات وخاصة كبار السن، وأيضًا منها ما هو اتصالي لأن التعريف بالمنصة والحثّ على الانخراط فيها والذهاب طواعية للتلقيح يتطلب مجهودًا إشهاريًا واتصاليًا موازيًا وهو ما لم يتم الاشتغال عليه بالقدر الكافي.

يبدو المشهد في مركز التلقيح ضد فيروس كورونا عاديًا حيث لا وجود للاكتظاظ والزحمة (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

في مركز التلقيح، يبدو العم سالم واجمًا ومرتبكًا بعض الشيء رغم تظاهره بالصلابة، اقتربت منه وسألته عن التلقيح فقال: "ما نعرفش ها الكورونا منين جاتنا.. ربي لا تموتنا مغروقين ولا محروقين وألطف بينا دنيا وآخرة". وأضاف: "برشة كلام على التلقيح وما عاد فاهمين شي، هاني باش نلقح ومولاها ربي". 

وهنا تدخلت ابنته التي كانت ترافقه وتسنده في صالة الانتظار موضحة أن والدها لم يكن يرغب في ذلك، بل كان خائفًا، لكن العائلة أقنعته بضرورة التلقيح بعد مدة من الإقناع. كما أعلمتنا الابنة أن والدها مريض بالقلب والسكري، وأن عائلتها تقطن بمنطقة شعبية تشهد تفشيًا كبيرًا للفيروس وبعض حالات وفاة في صفوف كهول وشيوخ يعرفهم والدها وكان يلتقيهم في جامع الحي وهو ما أحبط والدها وجعله لا ينام. 

داخل نفس مركز التلقيح، التقيت العم مصطفى وهو مدير مدرسة متقاعد ويبلغ من العمر 71 سنة وقد جاء مرفوقًا بابنه البكر. وبسؤالي إياه عن فهمه لكورونا وعن التلقيح وظروفه في تونس. قال: "البشرية تعيش الآن سنوات الكوفيد ونحن كتونسيين نجد أنفسنا في قلب العاصفة دون إمكانيات ولا أسلحة، وحتى دروس الوعي بخطورة هذا الفيروس لم نستوعبها جيدًا".

العم مصطفى (71 عامًا) لـ"الترا تونس": البشرية تعيش الآن سنوات الكوفيد ونحن كتونسيين نجد أنفسنا في قلب العاصفة دون إمكانيات ولا أسلحة، وحتى دروس الوعي بخطورة هذا الفيروس لم نستوعبها جيدًا

وأضاف أنه تابع جيدًا عبر وسائل الإعلام حرب مخابر الأدوية العالمية وتسابقها المميت من أجل الفوز بأولوية تسويق اللقاحات، لكن ذلك وفق قوله لم يخلُ من تجارة ومغامرة، "ونحن كدول ضعيفة ومستهلكة لا تصنع ولا تبيع، لا حول لنا ولا قوة"، حسب تعبيره.

وتدخل ابنه قائلًا إن والده لم يكن متحمسًا قطّ للتلقيح وذلك من فرط الأخبار المتضاربة التي أشيعت حول هذا اللقاح أو ذاك في إطار حرب المخابر. وأشار الابن إلى أن والده كان مصرًّا على آلية التوقّي دون غيرها، لكنّنا وبمساعدة طبيبه الخاص أقنعناه بضرورة الذهاب إلى التطعيم خاصة بعد ارتفاع أرقام المصابين والموتى في ظل الموجة الثالثة التي تشهدها تونس هذه الأسابيع. وأوضح ابن العم مصطفى أن كبار السن لم يتم العناية بهم بالشكل الكافي وخاصة الإحاطة النفسية والاجتماعية.

كما اتّصل "الترا تونس" بعائلة أحمد الطرخاني وهو موظف ببنك عمومي استقبلنا بمنزله الكائن بمدينة منوبة من أجل لقاء والدته الخالة لطيفة التي تبلغ من العمر 67 عامًا والتي رفضت رفضًا قاطعًا الذهاب لتلقّي التلقيح وذلك خوفًا من تداعيات سلبية قد تصيب جسدها وهي المريضة بضغط الدم وانسداد في شرايين القلب. 

الإقبال على التطعيم في صفوف كبار السن يبدو ضعيفًا (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

كانت الخالة لطيفة تجلس في غرفة الجلوس بيدها سبحة بحبات عسلية اللون وتضع خمارًا أبيض وفوقه شالًا ملوّنًا. بعد أن سلّمت عليها سألتها عن كورونا وعن أسباب امتناعها عن التلقيح، عدّلت من جلستها وردّت قائلة إنها تستغرب فكرة التطعيم في سنّ متقدّمة، مضيفة أن المسألة لا تعدو أن تكون سوى أمر مدبّر لكبار السن في العالم قصد التخلّص منهم لما يشكلونه من عبء على منظومات الصحة في العالم ومراكز إيواء كبار السن.

اقرأ/ي أيضًا: لقاح كورونا من الإمارات إلى الرئاسة التونسية.. فتح تحقيق ودعوات لمزيد الشفافية

وأضافت أنها قررّت ألّا تذهب للتلقيح حتى تبقى حية ترزق مع عائلتها وأحفادها لأنها لا تثق فيما يقومون به قائلة: "وقت يهز ربي أمانته خلّي يهز أما أنا ما نمشيش". 

الخالة لطيفة (67 عامًا) لـ"الترا تونس":  مسألة التلقيح لا تعدو أن تكون سوى أمر مدبّر لكبار السن في العالم قصد التخلّص منهم لِما يشكلونه من عبء على منظومات الصحة ومراكز الإيواء

ومن جهته، أكّد أحمد الطرخاني أن والدته، رغم تظاهرها بالشّجاعة وحتمية الموت ورغم المحاولات المتكررة بإقناعها بضرورة التلقيح حتى تحمي نفسها من الجائحة، إلا أنها مصرة على رفضه ولو أنها في قرارة نفسها تبدو خائفة للغاية، مشيرًا إلى أن العائلة تفكر بجدية في الاتصال بمختص في علم النفس وبسط أمرها بين يديه.

هذه الحالات التي اتصل بها "الترا تونس" هي عينة بسيطة من آلاف كبار السن الذين داهمتهم سنوات كورونا لتحبطهم وتحط من معنوياتهم دون أن تراعي الدولة ضمن خطة التلقيح التي أعدتها وزارة الصحة برامج للحماية والمرافقة النفسية والاجتماعية ضمن تمشٍ واضح ومدروس وله نتائجه التي تحمي هذه الشريحة العمرية.

نوفل بوصرة (مختص في علم النفس: لابد من خطة مرافقة مستعجلة تحمي كبار السن

عرضنا مسألة العزوف والمعنويات المنهارة لكبار السن في تونس جرّاء كرونا وانعدام الثقة في التلقيح على الأستاذ المختص في علم النفس نوفل بوصرة الذي أفادنا منذ البداية أن الرعاية النفسية في ظل أزمة كورونا مطلوبة لكل فئات المجتمع على حد السواء لكن حبذا أن تكون هناك خطة خاصة بكبار السن.

الإحاطة النفسية بكبار السن في ظل الجائحة ضرورية وفق مختصيّ علم النفس (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 وأشار بوصرة إلى أن الدولة ضمن خطة التلقيح قد أهملت كبار السن في هذا الجانب، إذ لم تشملهم الخطة الاتصالية العامة الخاصة بحث المواطنين على الانخراط في عملية التلقيح كما لم تشملهم جميع الخطط السابقة المتعلقة بالتوقي من كورونا.

نوفل بوصرة (مختص في علم النفس) لـ"الترا تونس": الدولة أهملت كبار السن إذ لم تشملهم الخطة الاتصالية الخاصة بحث المواطنين على التلقيح كما لم تشملهم الخطط السابقة المتعلقة بالتوقي من كورونا

وأضاف المختص في علم النفس أنه حتى وإن وضعت وزارة الصحة خطة مرافقة ورعاية نفسية خاصة بكبار السن، فإنها لن تجد لها الإطار البشري الكافي لأن عدد المختصين النفسيين بالمستشفيات ومختلف المؤسسات الصحية الخاصة والعمومية ضئيل جدًا وتنقصه الإمكانيات اللوجستية اللازمة، معتبرًا أن "هذه المسألة من هنات منظومة الصحة في تونس، وإذا ما قمنا بمقارنة مع دولة مثل فرنسا نجد أن لكل قسم بأي مستشفى أخصائييه النفسانيين في حين أن بعض المستشفيات التونسية لا تجد بها مختصًا نفسانيًا واحدًا، على حد قوله. 

وأوضح الأستاذ بوصرّة أنه من الضروري أن تكون العناية بكبار السن في مثل هذه الظروف مضاعفة، وذلك بعدم تركهم بمفردهم في المنزل وتعمّد التحدث إليهم والرفع من معنوياتهم وتحفيزهم، كي لا تستبد بهم هواجس الموت جراء الجائحة. كما من المهم، وفق محدث "الترا تونس" تجويد عاداتهم الغذائية نحو المزيد من الفيتامينات وتدفئة مهاجعهم ودعوتهم للاستماع للعلماء فيما يتعلق بكورونا وتجنيبهم الإشاعات والأراجيف التي تشكك في اللقاح.

كما دعا المختص في علم النفس كلًا من وزارة المرأة والأسرة وكبار السنّ ووزارة الشؤون الدينية ودور المسنين والمجتمع المدني المختص إلى وضع خطة مشتركة خاصة بكبار السن في تونس تطالهم في المدن والأرياف على حد سواء. 

واعتبر الأستاذ بوصرة أن كبار السن هم الرصيد المعنوي للمجتمع ولابد من البذل الأخلاقي تجاههم والقيام برعايتهم والمحافظة عليهم.           

 

اقرأ/ي أيضًا:

من مركز تلقيح كورونا بسوسة.."الترا تونس" يقدم تفاصيل العملية في بداياتها (صور)

حملة التلقيح ضد كورونا في تونس.. قراءة في آخر الأرقام والتطورات