18-سبتمبر-2022
كسكسي موت جنازة طقوس

طقوس الجنائز في تونس.. عبء مادّي بات يُثقل كاهل العائلات (صورة توضيحية/ getty)

 

لا يقتصر الالتزام والتشبث بالعادات والتقاليد في تونس على المناسبات الاحتفالية كالأعراس وحفلات الخطوبة والختان، وغيرها من المناسبات السارة التي تجمع العائلات تحت سقف واحد للاحتفاء، بل إن الحفاظ على الأعراف والطقوس المتوارثة جيلًا بعد جيل "مقدّس" حتى في الجنائز، فلطالما ارتبطت هذه المناسبة الأليمة بعادات تختلف من منطقة إلى أخرى باختلاف إرثها الثقافي. كما أن هذه العادات تتطور بتطور الزمن وتستفيد من الثقافات المجاورة لتتشارك في العديد من التفاصيل من بينها "المغالاة" في التحضير لموكب العزاء، وهي ظاهرة غدت منتشرة في تونس لتصبح عبئًا ثقيلًا على العائلات محدودة الدخل.

باتت المغالاة في التحضير لموكب العزاء، ظاهرة منتشرة في تونس لتصبح عبئًا ثقيلًا على العائلات محدودة الدخل

ويحرص التونسيون مؤخرًا على الإغداق في إكرام الضيوف خلال مراسم الدفن ليتحول الموت بدوره إلى مناسبة يحاكي التحضير له التحضير لحفلات الزواج، وهو ما يدفع بالبعض إلى ائتمان مدخرات مالية لدى أحد المقربين تخصص للطقوس الجنائزية الحديثة.

طبق العشاء المتنوع والمشروبات الغازية و"الشاي بالبندق" والحلويات والفواكه وغيرها أصبحت لزامًا على كل عائلة ستودع أحد أفرادها ولو كلفها ذلك الاقتراض من أجل توفير مستلزمات الدفن و"الفرق"، وكأنما حب الراحل ومكانته في قلوب ذويه ومحبّيه، مقترنة بـ"حفلة العشاء" التي ستقام من أجل توديعه.

  • تحضيرٌ دقيق تفاديًا للانتقادات

"مع أن خبر الموت ينزل نزول الصاعقة على أهل الميت، فإنه لم يعد بإمكان العائلات التونسية عيش الحزن على فقدان عزيز عليها، فتقتصر على بكاء مكتوم يرهق الروح ويضاعف الإحساس بالألم وينصرف كل فرد للقيام بالدور المناط بعهدته في التحضير لمراسم الدفن والفرق تفاديًا للانتقادات اللاذعة التي يمكن أن يوجهها الحاضرون للعائلة". تقول منيرة أستاذة خمسينية أصيلة ولاية "نابل" لـ"الترا تونس"، وهي التي شيعت والدتها لمثواها الأخير منذ حوالي سنة، إنها وإخوتها انطلقوا في الإعداد لمراسم عزاء والدتهم منذ أن دخلت في غيبوبة دامت حوالي أسبوعين اثنين وفارقت على إثرها الحياة، وبالتالي كان لديهم متسع من الوقت للإعداد لهذه المناسبة الأليمة أحسن استعداد وفقها.

منيرة (أستاذة خمسينية) لـ"الترا تونس": حسن التحضير لمراسم الدفن والتأبين والاعتناء بالضيوف وبمتطلباتهم لم يتح لي الوقت لبكاء والدتي والحزن على فراقها

تضيف منيرة في حديثها لـ"الترا تونس"، أن حسن التحضير لمراسم الدفن والتأبين كان من وصايا أمها قبل وفاتها، وأنها وإخوتها التزموا بهذه الوصية فقاموا في وقت وجيز بترميم البيت وتغيير الأثاث المتهالك مع الحفاظ على الجديد منه، كما تم اقتناء بعض المستلزمات الأخرى كالملايات والسجادات وغيرها. وتتابع: "فور انتشار خبر وفاة والدتي وتوافد الأقارب والأصدقاء من كل جهة، لم أكن أعي ما يدور حولي. كنت دامية القلب مشتتة الروح، لكني سرعان ما استلمت زمام الأمور مثقلة مكرهة.. حرصت بمعية ابنة خالتي على القيام بشؤون أمي (التغسيل والتكفين)، وبعد دفنها اضطررت للاعتناء بالضيوف وبمتطلباتهم. حقًا كانت تجربة قاسية ومريرة تجمع بين تعب الجسد والروح في آن واحد.. لم يكن هناك متسع من الوقت لبكاء والدتي والحزن على فراقها مما جعل ثقلًا في صدري يلازمني إلى اليوم" وفقها.

  • المغالاة في الجنائز بين العادة والعبادة

لئن يعتبر الموت مسألة وجود إنساني لا يستثني أحدًا، يكون فيه الجميع سواسية، فإن الطقوس الجنائزية خلقت نوعًا من التفرقة بين الغني والفقير، فيحظى ميسور الحال بجنازة مهيبة يرتب لها مع الشركات المتخصصة في شؤون الدفن والتي انتشرت مؤخرًا في تونس، وتذبح فيها الخرفان ويكلف الطهاة والندل بتحضير العشاء، كما تخصص سيارات فارهة لنقل المتوفى، في حين أن العائلات البسيطة يصعب عليها حتى توفير تكاليف الدفن التي ما فتئت ترتفع يومًا بعد يوم.

وتتجاوز المبالغة الطقوس الجنائزية في منزل المتوفى إلى المقابر. حيث يحرص البعض على تشييد قبور رخامية بهندسة فريدة من نوعها وتسييج القبر بأعمدة حديدية في حين أن أسعار بناء القبور التي تجاوزت كلفتها الـ300 دينار تمثل عبئًا ثقيلًا على العائلات محدودة الدخل.

وفي قراءة أسباب انتشار ظاهرة الإسراف في المآتم، يقول الأستاذ في علم الاجتماع عبد الستار السحباني إننا في مجتمع الصورة، "إن الموت طقس، وكل الطقوس تدور حول الصورة" مضيفًا أن المجتمع الذي كان محافظًا وإمكانياته المادية محدودة، كانت صورة الموت فيه نمطية، أما الآن فقد انتقلنا إلى مجتمع التباهي.

ويضيف السحباني في حديثه لـ"الترا تونس" أنه قبل الحديث عن السلوك الجنائزي نلاحظ أن المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة تحديدًا في فترة السبعينات، خرج من النمط التضامني الذي كانت أسسه التقليدية والأساسية "التضامن"، ودخل في مرحلة الليبرالية وتطورت فيه نزعة جديدة ليصبح مجتمعًا يقوم على مفهوم المنافسة وليس التضامن، وفقه. 

عبد الستار السحباني (أستاذ علم اجتماع) لـ"الترا تونس": أصبح المجتمع التونسي يقوم على مفهوم المنافسة وليس التضامن، فحتى المآتم أصبحت فرجوية

ومن العلامات الأولى للمنافسة -وفق تأكيده- التعليم، حيث يحرص كل على تميز ابنه للتباهي به، كذلك الاستهلاك، الذي كان هدفه إبراز المكانة الاجتماعية للشخص وليس فقط الاستهلاك. فضلًا عن الزواج الذي دخل بدوره في إطار فرجوي انبهاري، وقال: "حتى المآتم أصبحت فرجوية، حيث تعمد النسوة يوم الفرق إلى التزين في الحلاقة وارتداء ملابس جديدة، وحتى نوعية الأكل التي تقدم تغيرت من (كسكسي بلحم الضأن) إلى أكلات عصرية وحلويات وشاي بالبندق وغيرها تحت شعار (هل رأيت ماذا يمكنني أن أفعل؟)".

ويرى أستاذ علم الاجتماع أن هذه المظاهر أصبحت شكلًا من أشكال النجاح الاجتماعي، وأن المنظومة القيمية للمجتمع التونسي تغيرت بشكل كبير، أي أن النجاح الاجتماعي أصبح في الصورة وليس في مضمونه، وكلما كانت الصورة جميلة، كان النجاح أكبر. مشيرًا إلى أن تغير المنظومة القيمية ينعكس على مظاهر أخرى بما فيها السلوك المأتمي.

عبد الستار السحباني (أستاذ علم اجتماع) لـ"الترا تونس": غابت العديد من السلوكيات وقيم التضامن، مثل توفير الطعام لعائلة المتوفى من قبل الجيران

وأشار المتحدث إلى أنه بخروج المجتمع التونسي من الفضاء التقليدي إلى قيم المنافسة، غابت العديد من السلوكيات من بينها التضامن في الجنائز والمتمثل في توفير الطعام لعائلة المتوفى من قبل الجيران، ودخلنا في فضاءات أخرى تهيمن عليها المجهولية، قائلًا: "التونسي لا يعرف جاره فكيف سيقدم له الأكل والنوع الذي يناسبه والطريقة التي يمكن أن يساعده بها؟ من الجيد أن يتم تبادل التعزيات، دخلنا في منظومة قيمية أخرى لديها معاييرها".

ويرى الإمام الخطيب فتحي عبد اللطيف من جهته، أن التغيير في مراسم الوفاة طغى بشكل لافت خلال العقدين الأخيرين في مجتمعنا الضيق خاصّة، وحتى في المجتمعات الإسلامية عمومًا، "حيث أصبحت الوليمة والتجمّع في منزل المتوفى نوعًا من الترفيه والملذّات، بل أصبح في بعض الأحيان مناسبة لإبراز مكانة العائلة الاجتماعية من خلال ما تقدّمه من برامج ومستهلكات تتجاوز أصل السبب وهو الوفاة لتصل إلى التبرّج بملذّات عكس الوفاة وهي الحياة" وفق قوله.

فتحي عبد اللطيف (إمام خطيب) لـ"الترا تونس": أصبحت مراسم الوفاة مناسبة لإبراز مكانة العائلة الاجتماعية، وهذا التغيير في الطقوس الجنائزية عكس ما شرّعه الله لعباده

ويرى الإمام الخطيب أن "هذا التغيير في الطقوس الجنائزية عكس ما شرّعه الله لعباده عن طريق ما علّمنا إياه رسوله صلى الله عليه وسلّم، من ذكر مناقب المتوفّى والدعاء له ولسائر المسلمين بالرحمة والمغفرة، في كلمة تأبين تقام عند الدفن، مع أوقات حزن ظاهر على الفراق، وخوف من أن يكون لقاؤنا المحتوم بالله دون استعداد لذلك".

ويضيف في حديثه لـ"لترا تونس"، أن "الموت يفترض أن يذكّرنا بأننا ميتون لا محالة" مشيرًا إلى أن "القبور قد أصبحت تزركش ومنها ما هو شبيه بالمنزل وكأن الميت سيعيش فيها بعد تركه وحيدًا، فيتم تشييد الأضرحة وتوابعها، فصارت القبور مراكز ترفيه واستكشاف وفنون معمار في بعض الأحيان، الشيء الذي نهى عنه الرسول الكريم وسنّ لنا الدفن في التراب بلا كلفة أو تجاهر بالزينة ففيها إثم لا محالة وخروج عن السنّة". كما استنكر المتحدث عادة قراءة القرآن في الفرق واعتماد بروتكولات خاصّة، معتبرًا أنها "بدعة لم نستنّها من السابقين لنا في العلم والنقل" على حد تعبيره.

  • طقوس المآتم في الجهات

الطقوس الجنائزية في تونس رغم الحداثة التي طرأت عليها فإنها متوغلة في القدم تعود لحضارات عديدة تعاقبت على البلاد التونسية، ولعل أغرب العادات المتعلقة بالموت والوفاة نجدها في مدينة "تستور" بولاية باجة والتي يجهز فيها أصيلو المنطقة قبورهم قبل وفاتهم وتسمى بـ"المنزول". ويقول محمد القرواشي نائب رئيس بلدية "تستور" في حديثه لـ"الترا تونس" إنه "على عكس الحركة البطيئة التي تميز بقية المقابر التونسية، فإن مقبرة مدينة تستور أشبه بورشة بناء متواصل، فلا تنقطع الحركة على مدار السنة من نشاط العمال المنهمكين في تجهيز قبور فارغة بطلب من أهالي المدينة ويُطلق عليها اسم (المنزول)". ويضيف القرواشي أن أهالي المنطقة حريصون على الحفاظ على تلك العادة الأندلسية التي ورثوها عن أجدادهم الأندلسيين كما أن البعض من أهالي "تستور" يقومون بتحضير أكفانهم وهي عادة منتشرة بين أهالي المنطقة خاصة كبار السن.

نائب رئيس بلدية تستور لـ"الترا تونس": لا ينقطع العمال في مقبرة مدينة تستور عن تجهيز قبور فارغة بطلب من أهالي المدينة يُطلق عليها اسم المنزول

أما في ولاية قابس فتحدثنا "راوية" عن عادات خاصة في الجنائز. تقول: "في قابس لدينا عادات خاصة وهي أنه طالما الشخص المتوفى لم يتم دفنه، لا يمكن لعائلته إشعال الموقد للطبخ، وبالتالي يتكفل الجيران بهذه المهمة.. في السابق كانت أغلب المأكولات التي يعدها الجيران تتمثل في الأكلة الشعبية التونسية أي الكسكسي، ولكن نظرًا للتغير في العادات والسلوكيات الحياتية اليومية للقوابسية، أصبح الجيران يتفننون في تقديم هذه الأكلات من "روز جربي" و"دجاج مصلي" و"مقرونة" بأنواعها و"طاجين" وحتى السمك المشوي في بعض الأحيان.." وفق وصفها.

"وبعد دفن الميت، تتم نصب الطاولات لاستقبال كل من واكب الدفن وتقدم (القهوة العربي) و(العصيدة البيضاء)، أما يوم الفرق فتذبح الذبائح (6 أو 7 خرفان) خاصة في المناطق الريفية أين تغلب علاقات القرابة على جل السكان، وفي أغلب الحالات يتم جمع الأموال من العائلة المصغرة ثم العائلة الموسعة لتغطية تكلفة عشاء الفرق بسبب ارتفاع تكلفته التي أصبحت تضاهي تكلفة عشاء الزواج".

راوية لـ"الترا تونس": في قابس، طالما لم يتم دفن الشخص المتوفى، لا يمكن لعائلته إشعال الموقد للطبخ

وتبين "راوية" أنه في السابق يتم الاقتصار فقط على طبق "الكسكسي" ولكن خلال السنوات الماضية أصبح "الطبق" المقدم متنوعًا بين المفتحات والطبق الرئيسي والغلال والشاي والماء المعدني وأصبح الاعتماد على الطهاة ومساعديهم أمرًا لا مفر منه، مضيفة: "من بين الطرائف التي أتذكرها أن أحدهم قدّم المشروبات الغازية في (عشاء) والدته المتوفاة ظنًا منه أن المشروبات التي سيشربها خاصة الأطفال نوع من الصدقة على روح أمه، وفقها.

أما في بعض المناطق الأخرى بتونس، فتقتصر عائلة المتوفى يوم وفاته على تقديم الخبز والزيت والزيتون للضيوف، فقط لسد الرمق، فيما تمتنع بعض العائلات عن تناول الطعام في منزل الأيتام الذين يفقدون أحد والديهم لتوفير تكلفة العشاء من أجل الأطفال اليتامى.