13-أبريل-2020

شهدت بعض المقابر في تونس احتجاجات لمواطنين منعًا لدفن موتى كورونا (وسيم الجديدي/جيتي)

مقال رأي

 

تحت غيمة وباء كوفيد-19 استبدّت بي أسئلة حارقة حيّرتني كثيرًا هذه الأيام وأنا أتابع احتجاجات مواطنين لمنع دفن موتى كورونا ببعض المقابر التونسية وحتى في بعض مقابر الدول العربية الأخرى ومفاد الأسئلة هو: ماهي حدود الحياة؟ ومتى يبدأ الموت؟ ولماذا يمنع ميّت الكورونا من الدفن؟

إذا كانت مراسم الموت تبدأ بإلقاء النظرة الأخيرة والقبلة الأخيرة وبتلويحات الأيادي من الشرفات ومن على حافتي طريق الجنازة نحو المقبرة وتلك المناديل المبللة جراء دموع الفراق الأبدي والصلوات الجنائزية عند رأس الميت العزيز، إذًا فمازال الميّت بيننا في الحياة ولم يغب جسده بعد ومازالت له حقوق دنيوية تضمنها له القوانين السماوية والوضعية وهي الدفن اللائق الذي يساعده على الوصول الحسن إلى حياته الأخرى ليتحول القبر بذلك إلى أداة تواصلية بين الميّت وحياته السابقة.

ماهي حدود الحياة؟ ومتى يبدأ الموت؟ ولماذا يمنع ميّت الكورونا من الدفن؟

هذه اللحظة البرزخية الهامّة في حياة كلّ إنسان والتي يصفها الفيلسوف اليوناني القديم أبيقور (341 ـ 270 ق.م) قائلاً: "عندما يحلّ موتي أكون قد أصبحت غير موجود، وطالما أنا موجود يكون موتي لم يأت بعد". إنها لحظة لا تختلف كثيرًا عن لحظة الميلاد في سطوتها العاطفية بل هي لحظة شعرية درامية عاتية في مستوى رمزيتها الوجودية ودلالاتها الروحية لذلك أسهبت الحضارات في تناولها والاهتمام بها والبحث في أسرارها وكنهها مما شكّل حولها رصيدًا ثقافيًا وفكريًا عميقًا مازالت البشرية تنهل منه إلى اليوم وتدير مسألة الموت بالعودة في أغلب ممارساتها الشعائرية والنذريّة المتعلقة باللحظات الأخيرة للجسد إلى تلك المنطلقات الموغلة في القدم والتاريخانية.

اقرأ/ي أيضًا: الحجر الصحي العام... إلى متى؟

فإلى اليوم مثلًا ومنذ آلاف السنين، يقوم شعب التّيبت بأعالي الهيمالايا بالقارّة الأسيوية بتكريم الميت بطريقة معقدة تعرف بـ"الدّفن السماوي"، وهو الصعود بجسد الميّت ضمن موكب مهيب إلى أعلى قمّة الجبل والإلقاء بها للطيور الجارحة التي تحلّق به في أعالي السّماء وفي ذلك اعتقاد راسخ لديهم بأن الجسد يتعقّب الروح التي فارقت إلى مسكنها الأصلي بالسماوات العالية وأن النسور منذورة للقيام بذلك.

أما الهندوس في الحضارة الهندية، فهم شعب يحرق الجسد ويحولونه إلى رماد يحتفظ ببعضه كذكرى عزيزة وينثر باقي الرّماد في السماء لتحمه الرّياح إلى مساكن الرّوح إيمانًا منهم بأنّ حياة أخرى ستنطلق ضمن دورة وجود أخرى.

وبخصوص الديانات السماوية وعلى وجه الخصوص الدين الإسلامي، فإن المسألة واضحة وقد حسمت بقول عام ودقيق وهو "إكرام الميّت دفنه"، ولم تكن هذه القاعدة محل خلاف فقهي عصي على مر تاريخ الإسلام بل إن جوهر هذه القاعدة يعلي من قيمة الانسان إلى آخر لحظة من وجود الجسد البشري فوق الأرض. 

 عمل الفكر البشري منذ انبلاج الحياة على كوكب الأرض على صيانة "الفراق" واعتباره لحظة وداع أخيرة عبر بوّابة مغادرة فيما يسمّيه ابن رشد بـ"عالم الشهادة

فكل حضارة أو أمّة كانت ولازالت لها طرائقها في تكريم جسد الميّت وحسن إدارة اللحظات الأخيرة والنّومة الأخيرة قبل وضع أخر ذرّة تراب فوق دمنة قبره. وقد عمل الفكر البشري منذ انبلاج الحياة على كوكب الأرض على صيانة "الفراق" واعتباره لحظة وداع أخيرة عبر بوّابة مغادرة فيما يسمّيه ابن رشد بـ"عالم الشهادة" نحو عوالم أخرى تتسم بالخلود وحيوات أخرى أجمل وأرحب من الحياة الدّنيا.

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان والمجال المكورن

أيضا لحظة الفراق الأخير تعتبرها الآداب القديمة والحديثة بمثابة الوجه الآخر لفكرة الحبّ لأنهما يشتركان في تتويجيّة الفناء حتى أن الفيلسوف إيميل سويران يرى في الموت نكهة الوجود الآسرة إذ يقول: "وحده الموت يسبغ مذاقًا خاصًا على لحظات الحياة".

كل هذه المراكمة الحضارية والميثولوجية والدينية والتاريخية وهذا الرصيد الأدبي والمشاعري والإنساني للحظة الدّفن المهيبة، عصفت بها هذه الأيام في تونس بعض السلوكات البشرية الغريبة التي تصدّت لمواكب دفن بولايتي بنزرت وباجة ومنعت موتى جائحة كوفيد-19 من حقهم في رحيل لائق واختيار التراب الذي سيأويهم في نومتهم الأخيرة حتى أنه ثمة من الموتى من بقي لأزيد من ثلاثة أيام وهو في المستشفى وهو ينتظر الدّفن في التراب الذي أحبّ.

وفي قراءة سيميائية مع بعض المجاز، أجد أنّ ميّت الكورونا قد مات ميتتان: ميتة حقيقية جسدية وأخرى رمزية معنوية، فالحزن المنهمر من حديث ووجوه أهل الموتى وهم يمنعون من دفن موتاهم ينبئنا بذلك، لقد كانت أصواتهم متقطعة ومتحشرجة ومسكونة بالألم وكان الكلمات تخرج منهم مهزومة وذاوية.   

إن هذه السلوكات التي أدانها المجتمع التونسي بمختلف مكوّناته وحساسياته عالجها القانون بتتبع المخالفين، لكن لابدّ من النظر إليها من زوايا مستحيلة لمزيد فهمها ومزيد تدبّرها نفسيًا واجتماعيًا. وقد فسّرت هذه الظاهرة تفسيرًا نفسيًا مفاده أن منع إنسان موكب دفن إنسان آخر مخافة انتشار الفيروس في محيط المدفن ضمن "مشاهد هستيرية" مردّه الأساسي هو الإحساس المفرط بالخوف إلى حدّ درجة الرّعب من الموت ذاته خاصة عندما شاهد عامة الناس "الحرق الاضطراري" الذي أقدمت عليه إيطاليا تجاه ضحايا الجائحة أو المدافن الجماعية بإيران وغيرها، ومتابعتهم باهتمام لتعليمات منظمة الصحة العالمية في معالجة موتى الكورونا وكيفيّة دفنهم.

أجد أنّ ميّت الكورونا قد مات ميتتان: ميتة حقيقية جسدية وأخرى رمزية معنوية

وثمّة أيضًا من فسّر مشاهد المنع تفسيرًا سياسيًا، واعتبر أن عملية التصدي لدفن موتى كورونا كان منطلقها الخوف لكن تم تحويل وجهتها لتتحول إلى خطاب سياسي لفائدة نشطاء سياسيين أرادوا مزيد الاستقطاب في جهاتهم.

لكن علماء الاجتماع في تونس كانت لهم قراءة أخرى مشكلنة مفادها أن النعرات القبلية والجهويات لم تخفت نارها بعد في تونس، وأن ما حدث هو بمثابة المؤشر أو العلامة الدالة على ذلك رغم سيرورة الحياة الاجتماعية التونسية في ظل قوانين الجمهورية لأزيد من نصف قرن. وفي اعتقادي الشخصي أنه بعد هذه القراءات المتعددة يتبيّن أنه تنتظرنا العديد من الأعمال والدراسات النظرية والتطبيقية فيما يخص الترسبات الاجتماعية القديمة واندساسها في واقع الحال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"ذكورية الكورونا".. أو حين تحمل الأنثى وزر الأوبئة

الكورونا.. الصحة مقابل الحرية