بنظرات حذرة أرهقها السّهاد وأذبلتها كدرات الدهر، يرقب العم سالم (اسم مستعار) ثيابه التي نشرها بعناية على السياج الحديديّ الذي يطوّق محطة المترو بالدندان وينتظرها حتى تجفّ، غير بعيدٍ عن مقبرة المدينة التي تطلّ على شارعها الرئيسي.
"يرونها مقبرةً وأراها ملجأً لي ولأمثالي" يقول العم سالم لـ"ألترا تونس": "حين يضيق بي الشارع، وتغلق في وجهي الأبواب، وحدها المقبرة تفتح لي ذراعيها لتحتضنني دون شروط ولا قيود".
العم سالم لـ"ألترا تونس": حين يضيق بي الشارع، وتغلق في وجهي الأبواب، وحدها المقبرة تفتح لي ذراعيها لتحتضنني دون شروط ولا قيود
العم سالم (63 سنة)، ألقت به الحياة منذ سنوات بين أحضان الشوارع، يقتات مما يجود به عليه المارة ومتساكنو المنطقة ممن اعتادوا عليه وأشفقوا على حاله.
كان يشتغل، قبل أكثر من عقدٍ، في ليبيا ويرسل ما يجنيه من أموال إلى إخوته الذين زعموا أنهم يجمعونها له ويبنون له منها منزلًا في تونس، وما إن شبّت الحرب في ليبيا وعمت الفوضى سنة 2011، فرّ عائدًا إلى تونس عسى أن يجد منزلًا يستره وأسرة تضمه. لكنه لم يجد سوى أبوابًا مقفلة في وجهه. افتك إخوته أمواله ورفضوا استقباله عندهم. فلم يجد سوى الشارع والمقبرة يضمانه.
ولئن مثلت المقبرة في أحيان كثيرة ملجأً له ليبيت فيها، فإن الحملة التي أثيرت مؤخرًا حول تنظيف المقابر والتي كشفت كمًّا هائلًا من مظاهر السحر والشعوذة بين القبور، تسببت في غلق أبواب المقبرة في وجه العم سالم الذي عاد إلى المبيت في العراء من جديد بسبب تكثيف حملات الرقابة.
"لم أعد أثق في الأحياء. على الأقل الأموات لا يضرون، بل إنهم على العكس ينفعون" يستطرد العم سالم وهو يدخل يديه في جيبه ليخرج بعض القطع النقدية الصفراء والبيضاء: "أترين؟ هذه وهبني إياها الأموات، بينما افتكّ الأحياء أموالي ودفنوني حيًا".
دأب الكثيرون من زوار المقابر على وضع قطع نقدية على قبور ذويهم حتى تكون صدقةً على أرواحهم، ليأخذها المشردون ومن هم بلا مأوى عند مرورهم بالمقابر.
كما يضعون حبّات من "الزوان" فوقها، في حفرة تكون مهيأة على القبر عادة لهذا الغرض، لتقتاتها الطيور، وتكون أيضًا صدقةً باسم الأموات.
"كلّ يوم جمعة أزور فيها قبر والدي، أقتني بعض الزوان لأضعها على قبره" تقول مفيدة لـ"ألترا تونس"، ثم تستدرك مبتسمة: "ليست الأموال دائمًا متاحة كي نتصدق بها على أرواح موتانا، لكن ذلك لا يعني أن نتوقف عن التصدق، بعض حبات الزوان وحدها كافية لتكون صدقة صادقة".
مفيدة لـ"ألترا تونس": بعض حبات الزوان وحدها كافية لتكون صدقة صادقة على أرواح موتانا
وتشير مفيدة بإصبعها غير بعيدٍ عن المقبرة حيث تجلس امرأة عجوز القرفصاء مفترشة قطعة كرتونية، وحاضنة كيسًا باليًا تضع به الزوان والبخور الذي تبيعه للمارة وللوافدين على المقبرة.
تطلّ خصلات شعرها المخضّب بالحناء من تحت لحاف أحمر لفته على رأسها وكتفيها، كاشفًا عن وجه شاحبٍ خطّت عليه سنواتها الثمانون تجاعيدًا زينتها بقايا وشوم مخضرّة كقلب الخالة "خديجة" أو كما يلقبها حرفاؤها "خدلّج"، التي ترفض رغم الحاجة أن تقبل مالًا دون أن تقدم مقابله البخور أو الزوان.
"الخبزة مرّة" تقول "خدلّج" لـ"ألترا تونس" متنهدة، ثم تستطرد: "الحمد لله على كل حال، فرغم الخصاصة لا نمدّ أيادينا للتسوّل".
تصمت هنيهة وتشرد نظراتها قليلًا في اتجاه طريق المقبرة، ثم تتابع: اليوم أو غدًا سنلتحق بركبهم (في إشارة إلى الأموات) ولن نحمل معنا لا مال الدنيا ولا أمتعتها.. وحدها أفعالنا سترافقنا".
ولئن رفضت الخالة "خديجة" الحديث عن تفاصيل حياتها أو عن سبب اضطرارها إلى العمل وقد تجاوزت الثمانين سنة، إلا أنها أكدت قناعتها بما كتبه الله لها من رزق حتى ولو كان بضع مليمات ثمن حفنةٍ من الزوان.
اقرأ/ي أيضًا: جولة في "الجلاز".. ذاكرة الوطن للنسيان
خالد، شاب لم يتجاوز الثلاثين ربيعًا، انقطع عن الدراسة منذ كان في التعليم الثانوي، واختار الاشتغال "دهّانًا". لكن خالد لم يقتصر على دهن حيطان المنازل وأسوارها فقط، بل ارتأى أيضًا أن يختصّ في دهن القبور.
"أضرب عصفورين بحجرٍ واحد؛ أربحُ أجر الدنيا وأجر الآخرة" يقول خالد لـ"ألترا تونس".
ويتحدث الشاب، الذي انطلقت مسيرته في مقبرة "سيدي زرزور" إحدى مقابر معتمدية المرناقية التابعة لولاية منوبة، عن تجربته التي تردد في البداية في خوضها، قائلًا: "أول مرة دهنتُ فيها قبرًا، أحسست بقشعريرة لم أستطع تفسير سببها فلست جبانًا يخاف الأشباح" يقهقه خالد ثم يضيف: "ليلتها لم يزر النوم جفنيَّ . وقررت حينها ألّا أعيد الكرّة مجددًا... لكن فيما بعد، تتالت الطلبات إليّ، فكنت أذعن خجلًا. ومع مرور الوقت، تعودت على ذلك، وصار دهن القبور مورد رزقٍ لي. فدهن المنازل ليس متوفرًا غالبًا سوى في فصل الصيف، أما دهن القبور فهو مطلوب على طول السنة، ويكثر الطلب خاصة في المناسبات الدينية".
خالد (دهان) لـ"ألترا تونس": أتقاضى على كل قبر حواليْ 20 دينارًا تقريبًا، لكن المبلغ يتغير حسب الظرف المادي للطرف المقابل وما يريده
"أتقاضى على كل قبر حواليْ 20 دينارًا تقريبًا، لكن المبلغ يتغير حسب الظرف المادي للطرف المقابل وما يريده، فهناك من يرغب في دهن القبر بأجود أنواع الدِّهان، فيَصِل سعر دهن القبر إلى 30 دينارًا".
العم الهادي (50 سنة)، من جهته، يمتهن حفر القبور وتهيئتها للدفن ثم بنائها، يقول لـ"ألترا تونس": "الموت لعامة الناس هو رمز للحزن والأسى، لكنه بالنسبة لي مورد رزق". يتنهد بملء صوته ثم يتابع: "ليس لدي أي عمل قارّ أقتات منه، لكن كلما مات أحد في المدن المجاورة لـ"المنصورة" (التابعة لمعتمدية طبربة من ولاية منوبة) ينادونني لحفر قبره وتهيئته، ثم بنائه فيما بعد".
وأفاد محدث "ألترا تونس" بأنه يتقاضى بين 50 و 70 دينارًا مقابل حفر القبر، وحوالي 250 دينارًا مقابل بنائه.
العم الهادي لـ"ألترا تونس": لم توفر لي دولة الأحياء موطن شغل، لكن دولة الأموات رزقتني بمورد رزق لا يتنافس فيه الكثيرون فقليلون من يقبلون التعامل مع الأموات
"لم توفر لي دولة الأحياء موطن شغل، لكن دولة الأموات رزقتني بمورد رزق لا يتنافس فيه الكثيرون" يقول العم الهادي موضحًا: " قليلون من يقبلون التعامل مع الأموات. على الأقل، ظلت هذه المهنة بعيدًا عن المزاحمة". ويضيف ضاحكًا: "هذا من حسن حظّي".
يفسّر الناشط بالمجتمع المدني ورئيس جمعية "ناس الليل" الخيرية ، معز بوخريص، في تصريح لـ"ألترا تونس"، لجوء الكثير من المشردين ومن هم بلا مأوى وضعاف الحال إلى المقابر، سواءً للمبيت فيها أو للاقتيات منها، بأنهم فقدوا ثقتهم في كل ما يرمز إلى الحياة، مستدركًا القول: "من المفارقات أن هؤلاء باتوا يبحثون عن الحياة بين الأموات. فهم يعتبرون أنفسهم ميتين اجتماعيًا".
معز بوخريص (رئيس جمعية "ناس الليل") لـ"ألترا تونس": من المفارقات أن الكثيرين باتوا يبحثون عن الحياة بين الأموات، فهم يعتبرون أنفسهم ميتين اجتماعيًا
ويضيف بوخريص، في هذا الإطار: "بالنسبة إلى الكثيرين، المقابر تمثل مصدر رزق آمن، ووجدوا فيها كل متطلبات الحياة، فهي تمثل لهم المسكن، ووجدوا فيها ما يقتاتون من تكرمات الوافدين إلى المقابر عليهم".
وعبر الناشط بالمجتمع المدني عن أسفه لِما تفرضه الظروف الاجتماعية على ضعاف الحال من إكراهات تصل حدّ البحث عن الأمان بين الأموات، مستنكرًا تجاهل السلط المتواصل والمتعمد للفئات المستضعفة بالمجتمع.
صلاح الدين بن فرج (مختص في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": الكثيرون يبحثون في المقابر عن الراحة النفسية بعيدًا عن مسببات الضغط ودون أن يشعروا بأنهم يشكّلون عبءًا لا على أسرهم ولا على الدولة
ومن المنظور السوسيولوجي، يعتبر الباحث في علم الاجتماع والخبير في التخطيط الاستراتيجي في مجالات الأسرة والطفولة والتنمية صلاح الدين بن فرج أن هناك حالة من الانفلات والتفكك طغت على العلاقات الاجتماعية، فضلًا عن فقدان المؤسسات الحكومية قدرتها على حماية الفئات الاجتماعية الهشّة إلى حدّ كبير، مما فاقم معاناتها.
ويشير، في تصريح لـ"ألترا تونس"، إلى أن لجوء الكثيرين إلى المقابر، وخاصة منهم كبار السن الذين لا مأوى ولا دخل لهم، مرتبط برمزية المكان بعيدًا عن كلّ أشكال التوتر المجتمعي، مضيفًا أنها تمثل بالنسبة إليهم نوع من أنواع الانزواء بينهم وبين الحياة، وليس فقط المجتمع.
ويتابع الخبير الاجتماعي القول إن اختيارهم للمقابر كأن فيه إشعار بالاستعداد إلى مرحلة أخرى في علاقة بضمنيّة المكان، معتبرًا أنهم "يبحثون فيها عن الراحة النفسية بعيدًا عن مسببات الضغط ودون أن يشعروا بأنهم يشكلون عبءًا لا على أسرهم ولا على الدولة".
اقرأ/ي أيضًا:
تونس: بلديات ترفض دفن جثث المهاجرين وأخرى تلجأ للدفن الجماعي!
التشرد في تونس.. ظاهرة محدودة في تصاعد