31-يناير-2022

المقابر البحرية في الساحل التونسي: قداسة الزمان وجمال المكان (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

كنت كلّما تحدثت مع أبي عن تاريخ الأسلاف، يرشدني إلى آثارهم ويدلّني إلى مقاماتهم، وكنت أسمع قصصًا عن مدافن الغابرين من قوم قد اندثروا، وتروي لي كتب التاريخ عن عجائب القبور، وتحفل الروايات بأسرار الموتى وخلود الروح.

كان أبي يحدثني عن أنّ العديد من مقامات "الصالحين" قد شيّدت في الأماكن المرتفعة، ومنهم من هجر إلى أعالي الجبال والربى والهضاب قسرًا من قومهم الذين ألحقوا بهم الأذى، فكانت رمزية ذلك، الغربة والاعتزال والإيمان والبعد عن المفسدة، وكأن الله قد اصطفاهم بالإيمان وكذلك كان الأنبياء يهجرون أقوامهم متحصنين بالجبال.

محمد حواص (ممثل المعهد الوطني للتراث بالمهدية) لـ"الترا تونس": المقبرة البحرية بشبه جزيرة المهدية تحتل موقعًا استراتيجيًا مهمًا جدًا، وتاريخيًا ترجع تقاليد الدفن في هذه المنطقة للعهد البوني

كان الأقوام يتخيرون أحسن الأماكن لمدافنهم وقبور أمواتهم. وعبر الحضارات المتعاقبة، كانت للسكّان تقاليد في إكرام الراحلين منهم، ولعل ما كشفناه سابقًا من مدافن سراديب الموتى في سوسة "هدريماتم" في أول عهدهم بالمسيحية، دليل على ذلك، في حين أن اليهود والمسلمين قد تخيروا أجمل الأماكن للدفن.

كنت في جولة في مدينة المهدية فلاحت لي القبور البيضاء الناصعة في المقبرة البحرية تحتفي بزرقة البحر وهدير موجه، كان البحر يتناغم مع الحياة والموت في مكان واحد فتنتشر القبور المتراصّة على امتداد البصر، فتروي ماضي المدينة وحاضرها ونشم رائحة الأسلاف في تربتها.

المقبرة البحرية بالمهدية (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

مقبرة المهدية صارت مَعلمًا سياحيًا وموقعَا تاريخيَا بما اكتسبته من جمال المكان وسحره، وذلك الاندماج بين عالم الأحياء وعالم الأموات، بين أحضان البحر والصخر، تطل القبور هناك على الأسوار الفاطمية الشامخة والمنارة العالية، وبين قدميها الميناء القديم المنحوت في الصخر.. كل العناصر المكونة لهذا المكان تتحادث مع التاريخ والحضارة في تناغم تام.

محمد حواص ممثل المعهد الوطني للتراث بالمهدية، يذكر لنا أن "المقبرة البحرية بشبه جزيرة المهدية معروفة بمقبرة برج الرأس، ولها خصوصية إذا ما قارناها بالمقابر الموجودة في كامل تراب الجمهورية، فهي أولًا تحتل موقعًا استراتيجيًا مهمًا جدًا يطل على الساحل الشمالي والشرقي والجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وتاريخيًا لنا في هذه المقبرة مقابر ترجع للعهد البوني، فيعني ذلك أن تقاليد الدفن في هذه المنطقة ترجع للعهد البوني"، وفقه.

اقرأ/ي أيضًا: مقبرة الجلاز زمن كورونا: قبور فوق مزبلة وسمسرة وجنازات تعود أدراجها

ويضيف حواص لـ"الترا تونس": "وبما أنه كانت هناك عدة قبور بونيقية منقورة في الصخرة الأم في شرق الميناء البوني -وهي تقنية بونية في الدفن- وبما أن المدينة العتيقة في القرن 18 والقرن 19 اتخذت الموقع نفسه للمدينة العتيقة في العهد الفاطمي والمنطقة السكنية ذاتها في تلك الفترة، فإنّ تقارير الدفن في المقبرة البحرية تواصلت بما أنها كانت تمثل أطراف المدينة في تلك الفترة".

 ويقول الباحث محمد حواص "في الفترة الحالية، المقبرة البحرية هي في الوقت نفسه منطقة أثرية، ومن حسن حظ مدينة المهدية أن وجود هذه المقبرة حافظ على المشهد الطبيعي للمنطقة وكذلك ساهم بدرجة كبيرة في الحفاظ على التراث المغمور في الميناء البوني، فهناك بقايا لأسوار فاطمية وبقايا لعدة آثار أيضًا". ويخلص حواص إلى أن "المقبرة ساهمت بشكل كبير في الحفاظ على صيت المنطقة خاصة وأن هناك ضغوطات كبيرة لبناء وإحداث عدة منشآت سياحية، خاصة وأن هذه المنطقة تجذب كافة الوافدين على مدينة المهدية، والمقبرة كانت عاملًا إيجابيًا جدًا في الحفاظ على خصوصية المنطقة وعلى الآثار الموجودة بالمهدية" وفق وصفه.

محمد حواص (ممثل المعهد الوطني للتراث بالمهدية) لـ"الترا تونس": المقبرة البحرية بالمهدية ساهمت بشكل كبير في الحفاظ على صيت المنطقة خاصة وأن هناك ضغوطات كبيرة لبناء وإحداث عدة منشآت سياحية

لم تكن المهدية وحدها تحتفي بأمواتها في أجمل الأماكن، ولم يكن البحر وحده في المهدية يهمس للأموات ببعث جديد، بل إننا خلال زيارتنا لمدينة هرقلة من ولاية سوسة، تطل علينا القبور من أعلى جبل صخري تلتف حول مقام الولي الصالح "سيدي بومنديل" (القرن الثامن عشر ميلادي).

"بناها الرومان وخرّبها الأعراب".. هكذا يشار إلى هرقلة عبر التاريخ، كما يشار إلى أنها احتضنت أمواتها فعزتهم بارتفاعها عن سطح البحر، وحافظت المدينة على جاذبيتها عبر العصور رغم ما حل بها من حروب ذهبت بجزء كبير من بهائها، وظلت أرواح أمواتها ترفرف على مشارف البحر الأبيض المتوسط فوق النتوءات الصخرية.

اقرأ/ي أيضًا: مقابر بلا هوية.. عن جثث مهاجرين باتت مجرّد أرقام منسية

 يقول الأستاذ في التاريخ بشير حسني لـ"الترا تونس": "لشعوب البحر علاقة بالمجال الساحلي تختلف عن بقية سكان البلدان، حيث يرتبط نشاطهم به اقتصاديًا واجتماعيًا، وهو ما نلمسه في تاريخ العديد من السكان الذين استوطنوا على سواحل البحر، ومن أعرق مدن الساحل التونسي، مدينة ارتبط اسمها كبقية المدن الشبيهة لها في حوض البحر المتوسط بأسماء عظماء، فمن يقول هرقلة يقول هرقل عظيم الإغريق، سيد البرور والبحار، وكم من مدينة حملت اسمه!".

المقبرة البحرية بهرقلة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

ويقول حسني: "علاقة الإنسان بالبحر لم تتوقف عند ممارسة أنشطته الحياتية، وإنما مثلت أيضًا مدفنًا لموتاهم، فأغلب الأراضي المحيطة بهرقلة سباخ، وبعدها يبدأ المجال الفلاحي وخاصة غابات الزيتون.. وهو ما جعل سكان شبه الجزيرة يستغلون كل المجال الضيق حتى لدفن موتاهم في توابيت محفورة في الحجارة الكلسية، وهو ما يفسر العلاقة الجدلية بين البحر والحياة من خلال الأنشطة الاقتصادية والبحر والموت من خلال دفن الموتى على سواحله لتنعم الأرواح بنسائمه بعد أن نعمت بخيراته".

ويضيف بشير حسني :"مدينة هرقلة أو أهرقلية أو هرقلية أو هوريا كايلا الرومانية الأصل، ظهرت فسميت شبه جزيرة يحدّها شرقًا البحر وسبخة عسة شمالًا، وسبخة حلق المنزل غربًا وجنوبًا، استوطنها الإنسان منذ القدم وأطلق عليها اسمها نسبة إلى عائلة رومانية horrea caelea وتعني مخازن عائلة كايلي، وهي عائلة ثرية تشتغل بالتجارة البحرية حيث تصدّر الحبوب والزيت".

المقبرة البحرية بالمنستير بدورها صارت مَعلمًا من معالم الارتقاء بالأموات إلى مصاف الأرواح الخالدة، فهي تطل على البحر الأبيض المتوسط من عليائها وتلتحق بالمهدية وهرقلة في بهائها وجمال موقعها وتحيط بالمعالم التاريخية الصامدة.

بشير حسني (أستاذ في التاريخ) لـ"الترا تونس": علاقة الإنسان بالبحر لم تتوقف عند ممارسة أنشطته الحياتية، وإنما مثلت أيضًا مدفنًا لموتاهم، وهو ما يفسر العلاقة الجدلية بين البحر والحياة والبحر والموت

ويقول الدكتور رياض مرابط الباحث في التاريخ في إحدى منشوراته التاريخية: "ونالت المنستير من القداسة ما جعل الناس يرغبون أن تكون معبرهم إلى الآخرة، لذا تعتبر المقبرة البحرية بالمنستير متحفًا كبيرًا لتاريخ المجتمع الإفريقي بما خلفته من نقائش يعود قسمها الأكبر إلى العهد الزيري، ولعل أجلّ دفناء هذه المرحلة، الإمام المازري الذي صار رمزًا للمنستير وأهلها".

المقابر البحرية في الساحل التونسي لم تكن مجرد مدافن للأموات، بل سردية تاريخية للحضارات المتداولة على ذلك المكان، بل هي الجغرافيا التي تحتضن الزمان.. ظلت تلك المقابر صامدة في مواجهة الحضارة الزاحفة التي أتت على كل جميل وكانت صدًا منيعًا للتوسع العمراني وجشع الإنسان الذي يريد استغلال كل شبر من الأرض ولو كلّفه ذلك أن يسلب الأموات راحتهم ويمنعهم من أن يرقدوا في المكان الهادئ الجميل.

صورة تاريخية للمقبرة البحرية بالمنستير (أرشيف)

 

اقرأ/ي أيضًا:

المقابر في تونس: من رمز للموت إلى مصدر للحياة

حفريات جديدة تكشف عن "حي الأموات" في سوسة القديمة