18-أغسطس-2020

عودة لأجواء العرس العكّاري في جرجيس (مراد مجيّد/أ.ف.ب)

 

عندما شاهدت الشريط الوثائقي "زرزيس.. نشيد الألفية" لمحمد الزرن، أدركت أن جرجيس هي ذاكرة على حدة، ورصيد حضاري استثنائي ينام منذ آلاف السنين على شبه جزيرة كأنّها خدّ سيرانة أبّدها الزمن إكرامًا لمن رام العيش هنا من أجناس وأعراق دلّت عليهم حضاراتهم الخالدة. حفر الزرن عميقًا في وجدان هذه الجغرافيا التونسية المحمولة منذ الأبد على أعناق النخيل دون أدنى تكلّف تقني أو زحمة للمعطيات التاريخية الجافة والصارمة. 

حضرت في هذا الشريط كل المشاعر والعواطف والإيماءات والإيحاءات الأنثروبولوجية والنفسية وتجلت في نظرات مستجوبيه وحركاتهم وسكنتاهم لتقول كل شيء بصدقيّة غريبة يندر الوقوف عندها في وثائقي آخر. انطبعت تلك الصور في مخيلتي وأبت الإمّحاء إذ كلما زرت جرجيس أو أرض "جكتيس" التي استوطنها البربر، أشعر أن "أوليس" مرّ من هنا قبل ذهابه واستقراره بجزيرة جربة هربًا من الطرواديين، وأن الزرن في "نشيد الألفية" كان يتقفي خطاه، كما كانت كاميراه تبحث في عيون البحارة وثنايا حشرجة أصواتهم عن جذور نخل "اللّوتس" وظلال الزيتون الذي يملأ تخوم سهل "جفارة" التاريخي.

تشي كل هذه التفاصيل الخاصة بمحافل العرس العكاري أو "الزرزيسي" بقوة المادة الأنثروبولوجية التي مازال أبناء أرض "جكتيس" يخبؤونها بين جنباتهم ويمارسونها بكل عفوية وعناد غير مقصود لهيمنة العولمة 

إنّ سحر المكان الذي حاول هذا الشريط تقديمه يجعل من جرجيس مدينة بلا ضفاف، فهي تحمل في جنباتها زخرفًا حضاريًا نادرًا يمتاز بالعراقة والتنوع لم يقع، إلى اليوم، استثماره وإبرازه بالشكل الكافي، وحتى المتحف الذي بُعث بالكنيسة التي خلفها الاستعمار الفرنسي، فهو يفتقر إلى التعصير والتثمين الحقيقي للذاكرة والموروث الثقافي "الزرزيسي". كما تغيب العناية اللائقة بالمواقع والمعالم الأثرية العديدة الموجودة بشبه الجزيرة على غرار موقع زيطا، وبرج القنطرة، وهنشير الكلخ، والمغارة، وشمّاخ، وبرج البيبان، والقنطرة الرومانية وبرج الزاوية، فأغلبها بلا علامات دالة وبلا تنظيف وبلا حراسة وبلا صيانة. وقد تمّت العديد من التوسعات العمرانية العشوائية على حساب الخارطة الأثرية المحلية بجرجيس وسط غياب تام لتمثيلية المعهد الوطني للتراث بالجهة وهو ما يشوّه تاريخًا يمتد لآلاف السنوات.

اقرأ/ي أيضًا: "قفة العروس" في سوسة.. سلة الاحتفالية والجمال والتحصين من الشرور

جرجيس التي تتوسد البحر الأبيض المتوسط بأقصى الجنوب الشرقي التونسي، ورغم المسحة السياحية التي طبعتها منذ سبعينيات القرن العشرين، إلا أنّها حافظت على طابعها الفلاحي وريفيتها وتشبثت بعاداتها وتقاليدها في كل شيء حيث مازال أهل "زرزيس" يمارسون حياتهم اليومية على نحو مختلف في مستويات أنثروبولوجية عديدة كالأكل والملبس واللهجة المحلية وخاصة في احتفالات الزواج، فالعرس بجرجيس مازال محافظًا على جماليات قديمة آسرة يجنح إليها الجميع رغم كثرة تفاصيلها وتشعبها.

الأعراس هي قلب رحى الأيام في "زرزيس"

الأعراس في جرجيس هي عصب الحياة و قلب الرحى التي تدور حولها الأيام "الزرزيسية"، هنا كل شيء مرتبط بتفاصيل العرس أو الفرح انطلاقًا من جني الزيتون إلى فلاحة البحر وتجارة الماشية والذهب والأقمشة والملابس وكل المتممات المتعلقة بأيام العرس التقليدي.

اليوم الأول من العرس التقليدي بجرجيس والذي يعرف بـ"البيانة" ينقسم إلى عدة مراحل أبرزها إعداد "العيش بالحريقة"

لدى أهل "عكّارة"، يبدأ الاستعداد للعرس مباشرة بعد الخطبة واتفاق العائلتين المتصاهرتين على موعد الزواج حيث يشرع العريس في إعداد محل الزوجية الذي يكون عادة في جوار منزل والديه. ومن جهتها، تشرع عائلة العروس في عمليات تجهير ابنتهم فتجدهم يتنقلون أسبوعيًا بين الأسواق المحلية وأسواق مدن بن قردان، والجم، وقابس، وصفاقس وتونس العاصمة، ينتقون الزرابي والأغطية والأواني والألبسة.

ومع تحديد الموعد النهائي للعرس، فإنّ الأيام الثلاث الأولى وتسمى "التحضير" تخصص عادة للتنقل ودعوة الأقارب والأصدقاء رسميًا لأيام الزفاف، وهو أمر أساسي لا محيد عنه وتقريبًا لا توزع الدعوات الورقية إلا في محيط العمل أو الصداقات البعيدة. كما يتم خلال هذه الأيام الاتفاق مع فرق "الطبالة" و"الدرباكات" التي ستؤمن الجانب الموسيقي والاحتفالي للعرس. ويبدأ الأقارب والجيران أيضًا في "تعليق النجمة" أي بداية السهر والسمر كإعلان عن بداية الاحتفال.

"البيانة" أو الحضور الشعري للعروس

اليوم الأول من العرس التقليدي بجرجيس والذي يعرف بـ"البيانة" (والبيانة هي بيان العروس على الملأ بعد فترة طويلة من الانقطاع عن الظهور والتي تسمى "الحجابة")، ينقسم إلى عدة مراحل أبرزها إعداد "العيش بالحريقة"، وهي عادة أمازيغية متأصلة لدى أهل عكّارة ولا يستقيم العرس من دونها. إذ تبدأ عملية الإعداد منذ ساعات الفجر الأولى بإعداد نار حطب والترنّم بالأهازيج البدوية الجنوبية، ومن ثمة يتم ملأ قِدر أول من الحجم الكبير بكمية من زيت الزيتون ووضعه على النار، وعند اشتداد درجة حرارته، يلقى داخله بعض الفلفل الأحمر المجفف ثم كمية كبيرة من البصل الصيفي المشمّس والمطلي بنكهتيْ الكركم والزعفران. وبعد أن يذوب أغلب البصل ويتغير لون الزيت ليصبح بنيًا ويسمّى عندئذ "الحريقة" لطعمه الحار، يُصفي ويوضع جانبًا أما بقايا البصل المحروق فتعتبر دواء ضد "الفجعة" حسب المعتقدات القديمة للأجداد.

 

العيش بالحريقة.. عادة في الزواج التقليدي في جرجيس

 

وفي نفس الوقت، يوجد قدر ثان من الحجم الكبير لإعداد "العيش" والذي يسمى في جهات تونسية أخرى بـ"العصيدة". وعندما يجهز "العيش"، يوضع في أواني فخارية فيسكب فوقه بعض زيت "الحريقة" وقليل من السكر، ويتجمع حوله أهل العروس مراوحين بين الأكل والغناء، وأما الجيران والأهل البعيدين فيرسل لهم "العيش بالحريقة" خصيصًا كشكل من أشكال الاحتفاء بهم واعتبارًا لمكانتهم لدى العائلة.

إعداد العيش بالحريڨة 

 

بعد ذلك وضمن موعد مرتب بين العائلتين المتصاهرتين، يأتي أهل العريس لمنزل العروس محملين بكيس كبير من السميد، وخروف من الحجم الكبير وخمس ليترات من زيت الزيتون ثم يغادرون بسرعة وسط عاصفة من الزغاريد. يُذبح لاحقًا الخروف وتشرع النسوة في إعداد الكسكسي بالعلوش (الخروف) استعدادًا لحفل مسائي ينتظم قبل المغيب، يسمّى "الشرط" حيث يأتي جمع من رجال أهل العريس يتقدمهم والده والأعمام والأخوال الجيران والأصحاب ويكون في استقبالهم الرجال من أهل العروس. وبعد الأكل والدردشات، يقدم العريس ووالده على الملأ ما يسميه أهل جرجيس "الشرط" وهو قدر من المال يوضع في منديل من قماش ويقدم دون الكشف عن مقداره، وهو ما يسمى في مناطق أخرى بالمهر.

عروس جرجيس بلباس البيانة وهو "المزان بالڨطارش"

 

ويُختم اليوم الأول بسهرة "البيانة"، وهي خاصة فقط بالنسوة من العائلتين، حيث يأتي أهل العريس محملين بـ"كنستروات" مملوءة بالهدايا والألبسة والعطورات. ثم تنتظم بعد حفل العشاء سهرة تحييها "الدربكات"، وهي فرقة موسيقية تتكون عناصرها من النساء المحترفات في القرع على آلة الدربوكة (آلة إيقاع). وتظهر العروس لأول مرة بلباس أحمر موشى بـ"القطارش" وملتحفة بـ"بخنوق" أبيض، ويتم عرض محتويات "الكنستروات" وحقائب الألبسة أمام جمهور النسوة فخرًا وتباهيًا. كما تُعدّ الحنة ومن ثمة تشرع "الحنانة" والنسوة في تحنية العروس وسط تصاعد رائحة البخور وضوء الشموع والزغاريد المنبثقة كالشهب في سماء العرس.

"الكسوة" أو "ليلة الرقصة".. دلالات الحمرة والإبكار بالصبي

اليوم الثاني من العرس يعرف لدى الجرجيسيين بيوم "الكسوة" أو "ليلة الرقصة"، ينقسم بدوره إلى عناصر أساسية تبدأ مساء بمقدم كسوة الدار (مفروشات وزرابي وأغطية وبسط مصنوعة يدويًا) من منزل العريس محمولة على جمل مطهّم بزينة خاصة. وتُجلب، وإلى جانب ذلك، ما يعرف بـ"العلاّقة"، وهي قفة كبيرة مغلفة بإحكام وتحتوي شتى أنواع البخور واللّبان والحلوى الشامية والفواكه الجافة والسكر والسواك، تستقبلهم العروس محاطة بأهلها وهي ترتدي "حولي بوزيقة" أحمر اللون. وتجلس العروس فوق الكسوة ويحضر أصغر الصبية ويقوم بإسدال شعر العروس أمام الحضور في كناية عن الإبكار بصبي.

اقرأ/ي أيضًا: حفلات الزواج في تونس.. حلبة مصارعة للتفاخر والتباهي

وتقوم العمّة الكبرى بفتح "العلاّقة" فوق "بخنوق أبيض"، كما بُعرض غربال من الذهب الذي يقدمه العريس أمام كافة الأهل ويتكون عادة من شرموخ وخلال وفردة وخلخال. ويتوج هذا العنصر بكتابة "الصّداق" (عقد القران) بحضور العدول (عدل الإشهاد) وجمع من علية الأهل والأقارب وتوزع على الحضور الحلويات والمشروبات.

وخلال السهرة وبعد حفل العشاء، يستعد الجميع لرقصة العروس وهو حدث مهم في العرس التقليدي بجرجيس حيث ترتدي "الحولي بوزيقة" أو "الحولي البسكري الأحمر"، وترتدي "كبّوس" و"سورية" ولحاف من اللون الأحمر. وتوشح العروس بأكثر من كيلوغرامين غالبًا من الذهب الخالص موزعة على صدرها ورأسها ويديها، ويتكون هذا المصوغ من الشرك، واللّضامات، والسبتة ليرة، والنواويش أو ما يسمى بـ"الريحانات" التي تركز على الكبّوس، والشّعرية والسّنيبلة. وتتميز اليد اليمنى بالذهب الذي قدمه العريس هدية لعروسه، أما اليد اليسرى فتحمل ما يسمى بـ"الشكاشك" وفرادي مدفع وخواتم، كما تضع في الساقين خلخالًا رنّانًا. وأغلب هذا المصوغ هو من الصنع المحلي، مازال محافظًا على نقائشه وزخارفه وأشكاله القديمة ذات الروح البربرية. 

لحظة خروج العروس لـ"الرڨصة" في ثاني أيام العرس

 

وتصعد العروس في لحظة سحرية إلى منصتها بكامل زينها الحمراء وذهبها اللّماع برأس مغطاة، وتكون مرفوقة بوالدها أو شقيقها الأكبر، حيث يُرفع الغطاء الأبيض ويبدأ فعل الرقصة أمام المدعوين برفع الغطاء الأبيض من قبل والدها أو شقيقها الأكبر العروس، لينكشف وجهها وتشرع في الرقص منفردة ثم مع أهلها وأقاربها على أنغام فرقة من الطبالة التقليديين الذين يرتدون لباسًا خاصًا باللونين الأحمر والأبيض. وفي خاتمة الرقصة، يحل العريس ببيت أهل العروس مرفوقًا بشقيقاته وبنات عمه وبنات خاله ليشاركن العروس الرقص.

"الجحفة" ومدائح السّخاب

اليوم الختامي للعرس يسمّيه أهل عكارة يوم "الجحفة"، ومن عناصره الأساسية إعادة فتح "العلاقة"، وهو احتفالية صغيرة تُقام صباحًا، يتم خلالها هرس البخور وإعداد عطر السخاب الذي يدهن به جسد العروس استعدادًا لـ"الدخلة"، كما يوزع جزء منه على الصبايا والنساء الحاضرات وسط غناء وترانيم جنوبية قديمة.

يقمن النسوة بإعداد السخاب

 

ويسمّى العنصر الثاني والمهم من يوم "الجحفة" بـ "كسكسي القصاع"، وهو عبارة عن قصعتين كبيرتين من الكسكسي بلحم الخروف وزبيب العنب يأتي بهما أهل العريس مغطتان بحولي من الصوف الأحمر، وتستقبلهم العروس ملتحفة بغطاء أحمر ودون أن تكشف وجهها تختار من كلا القصعتين لحمتين توزع قطعًا قطعًا على صبايا العائلة حتى تسرعن بالزواج. 

العروس الجرجيسية لحظة وضع يديها على "كسكسي الڨصاع"

ويوزع باقي "كسكسي القصاع" على الأهل والجيران البعيدين والقريبين، وهي عادة أساسية لا يمكن تفاديها في العرس التقليدي الجرجيسي.

أكياس صغيرة من الحلوى تحملها معها العروس لمنزلها يوم الجحفة لتقديمها للمهنئين

وفي المساء وقبل تحولها إلى منزل الزوجية، ترتدي العروس نفس لباس الرقصة وتشرع في القيام بـ"الجلوة" حيث تضع كفيْ يديها على وجهها، وتبدأ في إزاحتهما شيئا فشيء، ثم تجلس أمام المدعويين من أهلها وعائلتها وتبدأ مرحلة يسمونها: "يقولوا على راسها" وذلك بذكر مناقب العروس على الملأ.

اللباس التقليدي الجرجيسي 

 

"النحيلة" وبهجة المال في اليوم السابع

ما بعد الأيام الأساسية للعرس التقليدي بجرجيس، تُختم الاحتفالات بـ"السبوع" (سابع أيام العرس) إذ تعد أمّ العروس قصعة "الكسكي بالمسلان" وتزينها بالبيض المسلوق والحلوى والطاجين، وتقوم بزيارة ابنتها مرفوقة ببعض الأقارب، وتُقام احتفالية صغيرة تسمى "النحيلة"، وهي تقديم مقادير من المال للعروس الجديدة التي ترتدي ما يسمى بـ"حولي السبوع" موشّى ببعض من ذهبها الخاص.

عروس جرجيس بلباس السبوع 

 

إن كل هذه التفاصيل الخاصة بمحافل العرس العكاري أو "الزرزيسي" تشي بقوة المادة الأنثروبولوجية التي مازال أبناء أرض "جكتيس" يخبؤونها بين جنباتهم ويمارسونها بكل عفوية وعناد غير مقصود لهيمنة العولمة والتنميط الذي تسعى كلّ أشكال الحداثة لتكريسه، وهو ما يمنح الثقافة التونسية تميزًا وخصوصية. لكن هذا التراث المادي واللاّمادي المميز محفوف بمخاطر عديدة تهدد وجوده، وبالتالي لا بد له من خطط حماية تجعل من استمراره أمرًا حيويًا لا يختلف عن حماية الثروات الطبيعية، فنحن نحيا بالموروث الثقافي والحضاري وبه نتمايز عن الأمم والحضارات.



اقرأ/ي أيضًا:

البنية الساحلية والطريزة الذهبية: "إذا البنيّة دبات وحبات اسأل أمها آش خبّات"

قصص عن "الزواج العرفي" في تونس..