11-يوليو-2018

عرضت اللجنة مقترحين حول المهر في تقريرها

نتناول في الجزء الثالث والأخير من طرق الجزء المتعلق بالمهر في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، ما تقترحه اللجنة من "ضرورة تخليص المهر ممّا يخلّ بكرامة المرأة". وقد عرضت مقترحين الأول يلغي المهر تمامًا من مجلة الأحوال الشخصية، والثاني يقترح تعديلًا لنظامه القانوني.

مقترح 1: إلغاء المهر

تقدم اللجنة مقترحها الأول بعنوان "تخليص المرأة من المهر" والحال أن المهر محمول على الزوج وهو حقّ للزوجة و"ملك لها" كما يوضح الفصل 12 من مجلة الأحوال الشخصية، ويضيف أيضًا الفصل 13 بأنه في صورة عدم دفع الزوج للمهر يظلّ "دينًا في ذمّته"، وعليه لا غرو في القول بداهة بأن المهر هو عبء مالي على الزوج لا الزوجة. وبذلك، حينما يأتي الحديث عن إلغائه، فالمفترض طرح عنوان "تخليص الرجل من المهر" وليس الزوجة ذلك أنها صاحبة حقّ ودائنة تجاه زوجها لاستحقاقه بالمعنى القانوني. تنظر اللجنة من زاوية المرأة ولكن لم تكن موفّقة في عنوانها، وكان بالإمكان الاكتفاء بعنوان إلغاء المهر ببساطة.

 لا غرو في القول إن المهر هو عبء مالي على الزوج لا الزوجة وبذلك حينما يأتي الحديث عن إلغائه فالمفترض طرح عنوان "تخليص الرجل من المهر" وليس "تخليص المرأة منه"

تبرّر اللجنة مقترحها بالقول إن تطوّر العادات والممارسات الاجتماعية جعل المهر "فاقدًا لكل أهمية وجدوى"، و"أصبح من قبيل الشكليات الرمزية التي لا يعيرها معظم الأزواج اعتبارًا". وتواصل اللجنة "إن كان المجتمع سائرًا في ترك المهر فالأحرى أن يبادر القانون بتركه"، وهي حجج تعكس خلطًا في المفاهيم وتعسًفًا في التوصيف. فأن يكون المهر شكليًا ورمزيًا فذلك من صميم جوهريته، وهو ما أشارنا إليه في الجزء الأول، ولعلّه لا تدعو الحاجة للعودة لشواهد تؤكد هذا المنحى ولكن لا بأس في الإشارة بالخصوص لقبول الرسول (صلى الله عليه وسلّم) لدرع من علي (كرم الله وجهه) كمهر لابنته فاطمة. وعليه "لم يصبح" المهر من قبيل "الشكليات الرمزية" بل هو هكذا في أصله من حيث قيمته، وهذا ما أكده القانون التونسي بذاته خاصة عبر إلغاءه للتفرقة بين المهر المعجل والمؤجل الذي عادة ما يكون باهضًا.

اقرأ/ي أيضًا: المهر في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة (3/1)

ولم يكن المهر أساسًا مباراة للمغالاة والتفاخر في العطايا بين القبائل والعائلات إلا في سياق اجتماعي سابق لقدوم الإسلام أو لاحق له وعبر عادات وأعراف تشكلت عبر التاريخ اندثر بعضها وظل بعضها الآخر في بعض المجتمعات الإسلامية. ولذلك حينما تقول اللجنة إن تطور العادات والممارسات الاجتماعية جعلت المهر فاقدًا لكل أهمية وجدوى، فهي وكأنها تساءل لماذا عادة ما يكون المهر بخسًا وليس ثمينًا، وإن ما كان بخسًا فهو إذن غير مهمّ وغير ذي جدوى. ولكن أهمية المهر هي في وجوده بذاته لا في قيمته، وجدواه في بعده الرمزي وفي معنى الهدية والعطاء، ولا جدوى غيره. ولو كان المهر هو مقابل للدخول ولتمكين المرأة من نفسها، لكانت تتسابق العائلات على نيل أغلى المهور لتزويج بناتها.

 أهمية المهر هي في وجوده بذاته لا في قيمته وجدواه في بعده الرمزي وفي معنى الهدية والعطاء ولا جدوى غيره

فالمكانة الحالية للمهر في المجتمع التونسي المعاصر تتناسب وموقعه في نظام الزواج ومكانته الشرعية، فهو ذو صبغة رمزية أولًا وآخرًا. وهذا ما يتأكد مثلًا بأنه ليس شرط للزواج بل قد يصح الزواج ولو دون تسميته. فهذه الرمزية هي أصل ثابت في كنه المهر وليس بمستجدّة عبر تطور المجتمعات كما ذهبت اللجنة. والأصل فعلًا ألا يعير معظم الأزواج اعتبارًا ولكن ليس للمهر بذاته كما قالت اللجنة بل لقيمته.

اقرأ/ي أيضًا: المهر في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة (3/2)

ولكن يبلغ تعسف اللجنة درجة المغالطة حين استخلاصها بأن "المجتمع سائر في ترك المهر" لتبرر مبادرة القانون بإلغائه، ولكن كيف استنتجت اللجنة بأن المجتمع بصدد تركه للمهر؟ هل لديها إحصائيات أن الأزواج في تونس يرفضون تقديم المهور حين عقد الزواج؟ يبدو أنها خلطت بين القيمة البخسة للمهر وهامشيته في إطار المنظومة المالية للزواج من جهة ووجود المهر بذاته من جهة أخرى. فإن اُعتيد أن يكون المهر رمزيّا في المجتمع التونسي فذلك لا يعني أن المجتمع بصدد تركه. شتان بينهما. فمن قبيل القفز إلى الوراء أن تتخذ اللجنة من القيمة البخسة للمهر حجّة لتبرير إلغاءه.

تتدارك اللجنة في ختام عرض مقترحها بتوصيف أنه "جذري" ثم تقول بأن دعوتها لإلغاء المهر "لا يعني منعًا له"، فـ"يمكن لمن شاء العمل به بصفته تقليدًا اجتماعيًا". وعليه يتمثل المقترح نهاية في إلغاء الفصول الخمسة المتعلقة بالمهر في مجلة الأحوال الشخصية ولكن مع إباحة الأخذ به بوصفه "تقليدًا اجتماعيًا" أي خارج دائرة القانون.

 إن اُعتيد أن يكون المهر رمزيّا في المجتمع التونسي فذلك لا يعني أن المجتمع بصدد تركه. شتان بينهما. فمن قبيل القفز إلى الوراء أن تتخذ اللجنة من القيمة البخسة للمهر حجّة لتبرير إلغائه

بتجاوز اعتبار المهر مجرّد تقليد اجتماعي أي تجاهل تأسيسه الشرعي، يطرح هذا المقترح عديد الإشكاليات التطبيقية، فهل يقع التنصيص على المهر في كتب الصداق أم لا حين العمل به؟ وإن يُترك للأزواج الاتفاق على مبدأ المهر وكيفية استحقاقه فكيف يمكن معالجة التنازع حوله؟ ما هو مثلا مآل صورة تسمية الزوج لمهر حين العقد ثم تطلب الزوجة استحقاقها للموعود ويخلف زوجها، فهل لها المطالبة بالطلاق أم لا؟ ولنفرض أن الزوج قدم مهرًا ثمينًا لزوجته ثم طلقته قبل الدخول، فهل له حق المطالبة باسترجاع المهر أم لا أو يقع تطبيق أحكام استرجاع الهدايا التي تميز بين فترة ما قبل الدخول وما بعده؟ وإن ما تُركت الحرية للزواج للاتفاق على المهر، فهل لهما الاتفاق على مهر معجل وآخر مؤجل إعمالًا لمبدأ سلطان الإرادة أم لا؟ 

إن عدم تنظيم القانون لمسألة المهر وتركها لمطلق الحرية للزوجين ستؤدي لنزاعات ستختلف قطعًا اجتهادات القضاة بخصوصها في ظل غياب النص التشريعي الضابط. وللمفارقة، فإن المذهب المالكي، وهو المذهب المنتشر في تونس، هو أكثر المذاهب اهتمامًا بمسألة المهر، إذ مثلًا وخلافًا لبقية المذاهب الأربعة، يضرب ببطلان عقد الزواج حال اشتراط نفي المهر في العقد.

مقترح 2: الإبقاء على المهر مع تعديل نظامه القانوني

في المقابل وعلى خلاف المقترح الأول، تقترح لجنة المساواة والحريات الفردية في مقترحها الثاني تعديل النظام القانوني الحالي مبتدئة "لا ضرر في الإبقاء على المهر". وأحسنت اللجنة توخي منهج تعدد المقترحات، سواء انعكاسًا لاختلاف وجهات النظر داخلها أو بغاية دفع النقاش وتبادل الآراء حول أكثر من مقترح.

يستوجب التقرير بذلك "النزول بالمهر من شرط لصحة الزواج إلى شرط عادي لا تأثير له في إبرام الزواج ولا في استمرار العلاقة الزوجية، فلا يمكن مثلًا أن يكون عدم دفعه سببًا للطلاق" كما أوردت. ويطرح ما تعرضه اللجنة، في هذا الجانب، سؤالًا حول مدى تمكنها من المادة التي بصدد مناقشتها. في البداية، هل المهر في تنظيمه الحالي هو فعلًا شرط صحة بالمعنى المتعارف عليه في القانون الوضعي؟ وما معنى شرط "عادي"؟ لعلّه وقعت اللجنة ضحية انحراف مجلة الأحوال الشخصية في التنصيص على المهر من جهة ومن ثمّ عدم العودة لتأصيله من مصدره وهو التشريع الإسلامي.

إن نص الفصل 3 من مجلة الأحوال الشخصية على أن تسمية المهر مشترطة لصحة الزواج فلم يحدد المشرع جزاءً عن تخلف هذا الشرط ولم ينص الفصل 21 على حالة عدم تسمية المهر كإحدى حالات البطلان المطلق للزواج

فإن نص الفصل 3 من المجلة على أن تسمية المهر مشترطة لصحة الزواج فلم يحدد المشرع جزاءً عن تخلف هذا الشرط، ولم ينص الفصل 21 على حالة عدم تسمية المهر كإحدى الحالات المذكورة حصرًا للبطلان المطلق للزواج. هذا التخبط التشريعي هو نتيجة انحراف المشرع في تبني مؤسسة المهر ذلك أن اعتباره شرطًا للزواج، بغض النظر إن كان شرط صحة أو شرط "عادي"، هو مخالفة من المشرع التونسي لما ذهب إليه جمهور الفقهاء باعتبار المهر هو آثر من آثار الزواج (راجع الجزء الأول). وحتى المالكية الذي قالوا، وبخلاف الجمهور، بشرط المهر فلم يوجبوه حين العقد بل استحبوه فقط وأكدوا على صحة الزواج حال عدم التسمية.

وبالتالي، من المفترض أن تقترح اللجنة ببساطة حذف اعتبار تسمية المهر شرط من أساسه، فلا هو شرط صحة ولا هو شرط "عادي" وإن يظلّ السؤال قانونًا ما معنى شرط "عادي"؟ وتضيف اللجنة في سياق مقترحها حول الوضع الجديد "لا يمكن مثلًا أن يكون عدم دفعه سببًا للطلاق"، ولكن ما تطلبه اللجنة هو منصوص عليه حالًا إذ ورد حرفيًا في الفصل 13 أنه "يعتبر المهر بعد البناء دينا في الذمة لا يتسنى للمرأة إلا المطالبة به فقط ولا يترتب عن تعذر الوفاء به الطلاق"، فكيف تنشد اللجنة ما هو موجود بطبيعته؟

 من المفترض أن تقترح اللجنة ببساطة حذف اعتبار تسمية المهر شرطًا من أساسه، فلا هو شرط صحة ولا هو شرط "عادي" وإن يظلّ السؤال قانونًا ما معنى شرطًا "عاديًا"؟

في نقطة ثانية ضمن مقترح تعديل النظام القانوني الحالي للمهر، تقترح اللجنة فصل المهر عن البناء فصلًا كليًا، وأنه لا يمكن جبرها على البناء بعد دفع المهر لها. من المهمّ الإشارة بأن التنظيم القانوني للمهر مصدره التشريع الإسلامي ومنه النص القرآني على غرار استحقاق المطلقة قبل الدخول لنصف مهرها كما ورد في الآية 237 من سورة البقرة، وهو ما يطرح السؤال حول ما يُعتبر النقل بالتحريف وبالنقصان لمؤسسة شرعية مستمدة من التشريع الإسلامي بين الجواز وقابلية الاجتهاد. ولعلّه ليس المقام للحديث حول هذه المسألة التي يتعمّم الحديث بشأنها في عديد المواضع في تقرير للجنة وليس في موضع المهر فقط.

أما عن القول بأنه يجب حذف الإشارة لإمكانية جبر المرأة على البناء بعد دفع المهر لها، فهذه الصورة الواردة في الفصل 13، وكما أشرنا سابقًا، هي نقل محرّف لمؤسسة المهر ما أنتج صياغة سيئة بل تنصيص على حق غير مقبول للزوج في جبر زوجته على البناء، وهو ما يجب تجاوزه.

اقرأ/ي أيضًا: زواج التونسيات بغير المسلم.. جدل القانون والمدنية

تجسم اللجنة مقترحها نهاية عبر عرض الفصول المعدلة المقترحة، فتحذف تسمية المهر كشرط صحة ضمن الفصل 3، وهذا المطلوب ولكن كان من المستحسن على اللجنة لتدعيم موقفها و"شرح أسباب" تعديلها أن تكشف بأن المشرع التونسي خالف الجمهور في الفقه الإسلامي فحوّل المهر من أثر للزواج إلى شرط. ثم تطرح اللجنة تنصيص الفصل 12 على منح الزوجين اختيار العمل بالمهر، ولكن السؤال ألم تقل اللجنة أنها ستحافظ على النظام القانوني للمهر وأنها ستنزله ليصبح "شرط عادي"، فكيف يصبح مقترح التعديل هو منح الخيار للزوجين لاختيار العمل بالمهر أو رفضه وهو ما يعني العودة للمقترح الأول بصفة أساسية. فكيف يأتي الحديث على اعتبار المهر "ِشرط عادي" وفي نفس الوقت ترك الحرية للزوجين في اختيار المهر من عدمه؟

تقترح اللجنة أيضًا حذف عبارة البناء من الفصل 13 في إطار الفصل بين استحقاق المهر والبناء مع المحافظة على اعتبار المهر غير المدفوع دينًا في ذمة يمكن للزوجة المطالبة به فقط ولا يترتب عن تعذر الوفاء به الطلاق أي مع المحافظة على بقية النص الأصلي. كما تقترح حذف الفقرة الأولى من الفقرة 22 الذي يتحدث عن استحقاق الزوجة للمهر بتحقق الدخول في الزواج الفاسد، وكذلك الفصل 33 حول استحقاق المطلقة قبل الدخول لنصف المهر. والفصل بين المهر والدخول كما أشرنا هو تجاوز لتنظيم مؤسسة المهر في التشريع الإسلامي ومصدره الرئيسي النص القرآني بخصوص بعض أحكامه، وليس الموضع للغوص في هذه النقطة على النحو السابق ذكره، إذ يهمنا فقط إثارة النقاط المتعلقة بالجانب القانوني البحت دون غيره في تقرير اللجنة.

يظل النقاش دائمًا مفتوحًا حول مقترحات اللجنة بل ربما مقترحات أخرى يعرضها أهل الاختصاص ودائمًا في إطار الضوابط العلمية

وختامًا تظل التعديلات الضرورية والمستوجبة لأحكام المهر المعتمدة في مجلة الأحوال الشخصية هي أولًا التراجع عن اعتبار تسمية المهر كشرط صحة للزواج، وثانيًا حذف الإشارة العكسية لوجود حق للزوج في جبر زوجته على البناء في حالة دفعه للمهر، ويظل النقاش دائمًا مفتوحًا حول بقية مقترحات اللجنة بل ربما مقترحات أخرى يعرضها أهل الاختصاص  في إطار الضوابط العلمية، وذلك إعدادًا لمراجعة شاملة لمجلة الأحوال الشخصية ستكون بمثابة التأسيس الثاني لها، لدستور العائلة التونسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل التونسية ملزمة بالنفقة على أبنائها بعد الطلاق؟

الجورشي لـ"الترا تونس": يجب أن تتكامل الشريعة مع مبادئ حقوق الإنسان