14-مايو-2018

الإنسان يرى في الزيتون شبيهًا له (Getty)

وأنا أعدّ لهذا المقال تلبّس بي مقطع شعري لمحمود درويش، أردّده في جنباتي كتسبيحة وهو "لو يذكر الزيتون غارسه... لتحوّل الزيت إلى دمع". شعرت أنّ المقطع من قبيل الشّعر الياباني (الهايكو) مكثف إلى حدّ الحكمة، يقول كل الأزمنة وكلّ حكايات الزيتون على الأرض في كلمات بسيطة كالعشب.

درويش هنا في هذه النّتفة الشعرية عالية الرّوح يتحدث عن زيتون فلسطين لكنه في حقيقة الأمر ينبش في أساطير الزيتون في كل مكان، لقد شعرت أنه يروي زيتوننا، زيتون تونس. زيتونًا يقول للمؤرخين "دعكم من الجدل.. أنا أقول لكم حقيقة هذه الأرض وحقيقة من مرّوا فوقها".

اقرأ/ي أيضًا: الخطر الزاحف.. تهريب شتلات زيتون وفسائل نخيل إلى تونس

الزيتون شجر غابي متوسطي بامتياز، فكلّ بلدان البحر الأبيض المتوسط لها من الزيتون نصيب. ويؤكّد الباحثون أنّ غابات الزيتون بسوريا وفلسطين توجد بها أقدم شجرات زيتون على وجه الأرض وتحديدًا بسفوح جبل الزيتون بفلسطين (طور زيتا).

عيد الزيتون هو عيد محليّ صغير في كسرى يسبق أولى أيام الجني حيث يلبس الرجال أجمل ملابسهم ويمتطون جيادهم ويطلقون البارود في الهواء ويرقصون ويصلّون احتفالًا بعطاء السماء

لذلك نجد لها قدسيّة في جميع الديانات الإبراهيمية وذكرها واضح في الكتب السماوية الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، فهي شجرة غابية أعتبرت صنوًا للحياة وشقيقة للإنسان في رحلة وجوده. وتفيد الحفريّات الأثرية أنّ متحجّرات لأوراق الزيتون تعود إلى العصر الحجري عثر عليها في الجنوب التونسي.

كما أن" فخّاريات برانديزي" الإيطالية، وهي من أقدم الفخاريات في العالم والتي تعود إلى ستّة ألاف سنة تقريبًا، حملت فيما حملت صورًا لأغصان الزيتون مما يثبت أن الزيتون متوسطي وقديم قدم الأرض.

كان لأهالي كسرى عيد محلي صغير قبل أيام جني الزيتون (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

سيدة السفوح، مانحة المباهج وواهبة الحياة..

عندما نروم الحديث عن الزيتون في تونس لا بد أن نذهب إلى أماكن بعينها لنقف إجلالًا إلى الشجرة العريقة "سيّدة السّفوح المحتشمة.. بظلّها تغطّي ساقها".

غب جبل السرج وأعالي كسرى بولاية سليانة بالشمال الغربي التونسي، هنا الزيتون منغرس في الجبال وبين الصخور الوعرة وفي الوهاد المتاخمة للأودية ويسمّيه الأهالي هنا بـ"الجالي" أي ذاك الذي لا يعرف له غارس.

يروي العم الهادي الكسراوي لـ"الترا تونس" بعض ما بقي في ذاكرته عن زيتون الأجداد قائلًا "زيتوننا لا يباع ولا يشترى نحن نتوارثه فقط، إنه من ملامح كرامتنا وأصالتنا، إنه أجمل زيتون في تونس". ويضيف " قديمًا كان لنا عيد الزيتون وهو عيد محليّ صغير يسبق أولى أيام الجني حيث يلبس الرجال أجمل ملابسهم ويمتطون جيادهم ويطلقون البارود في الهواء ويرقصون ويصلّون احتفالًا بعطاء السماء لأنهم يعتقدون أن زيتونهم مبارك ومقدس. كما تضرب الخيام في الغابة لأسابيع طيلة أيام الجني ويتضامن الأهالي وتنشأ قصص الحبّ في تلك الدروب الغابية".

الهادي الكسراوي (مواطن تونسي) لـ"الترا تونس": زيتوننا لا يباع ولا يشترى نحن نتوارثه فقط، إنه من ملامح كرامتنا وأصالتنا

اقرأ/ي أيضًا: الكحل.. صنعة "الخالة مليكة" التي تحدت الماركات العالمية

تبرسق من ولاية باجة هي الأخرى تسكن الجبل ومحفوفة بغابات الزيتون. والأهالي هنا يقولون إن زيتونهم "روماني" في كناية إلى أصولهم الرومانية. ومن قصصهم التي روتها الجدة رقية غرباوي لـ"الترا تونس" أنّ العروس قديمًا وخلال مراسم الزواج يأتى بها إلى حقول الزيتون فتختار زيتونة بعينها وتطلب منها أن تمنحها بركة الخصوبة". أما عن مواسم الجني تقول الجدّة " قبل الذهاب بحبات الزيتون للمعاصر فإن النساء تمررن بأيديهن على الأكياس حتى تدرّ المزيد من الزيت لأن المرأة كما الزيتونة رمز للعطاء".

من جهته، العم ضو درين من جرجيس يروي قصص الزيتون معه فيقول "هنا في هذه الأرض الطيبة لا نعلم متى زرع الأجداد زياتينهم القديمة. وقد علّمونا أنّ نقص الزّيت من أمارات الفقر وغضب الله على عباده ووفرته غنًى ورضًى. لذلك نسمّيه دهن الابتهاج" .

ضو درين (مواطن تونس) لـ"الترا تونس": الزيتون يشعرنا بالأمان فنحن عندما نجني ونعصر ويأتي الذّهب الأصفر نطمئن للأيام فنبيع ونخزّن

ويضيف "الزيتون يشعرنا بالأمان فنحن عندما نجني ونعصر ويأتي الذّهب الأصفر نطمئن للأيام فنبيع ونخزّن. وقد روى القدامى أن الفراعنة كانوا يجلبون الزيت من جرجيس وجزيرة جربة بحرًا ويستعملونه للإضاءة وفي خلطات العطور وفي الأكل. ولم يكن متاحًا لعامّة الناس من المصريين".

وفي منطقة اللآس على تخوم السرس من ولاية الكاف، والتي تعد من أقدم القرى التونسية إذ عثر فيها على قبور جلمودية كشاهد على القدم، نجد غابة زيتون لا مثيل لها شساعة وجمالًا. ويقول عبد الكريم الخلفاوي ابن هذه الأرض لـ"الترا تونس"، إن "الرومان هم من زرعوا هذه الغابة وعمّروها والأباطرة الرّومانيون كانت قصورهم تتزود من زيت اللآس تحديدًا لرفعته وجودته فيحمل إلى قرطاج ومن ثمّة إلى روما في مواعيد ثابتة". ويضيف أن "الأهالي ينظرون لزياتينهم كجدّات محترمات لا تكففن عن الحكي والعطاء الكريم".

النساء تمررن بأيديهن على الأكياس حتى تدرّ المزيد من الزيت كاعتقاد شعبي (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

أقدم غابات الزّيتون في تونس زرعها القرطاجنّيون والرّومان

في هذا السياق، يوضح المختص في الجغرافيا والباحث في مجال غابات الزيتون التونسية طارق الزواغي لـ"الترا تونس" أن الأراضي التونسية تحتوي على مائة مليون زيتونة منتشرة على واحد فاصل سبعة مليون هكتار تؤمّن ربع الإنتاج العالمي من زيت الزيتون لتتصدّر تونس بذلك المرتبة الأولى عالميًا وتنافسها في ذلك كلّ من إيطاليا وإسبانيا واليونان. ويضيف أن أقدم الغابات هي التي زرعها القرطاجنيون في الشمال بتبرسق وأوتيك وزغوان وبنزرت، وهي غابات زرعها الجيش القرطاجني بعد هزيمته مع روما حتى أنّ القائد حنّبعل أصبح غارسًا للزيتون في بلده.

أما غابات حيدرة وماجل بالعباس ومرناق والساحل التونسي فقد زرعها الرومان بعد انتصارهم على قرطاج واحتلالها نهائيًا، فكان الامبراطور يوفد الجيش لزراعة الزيتون وقد أثبتت العديد من النقائش الرومانية ذلك، وفق محدثنا.

ويشير الزواغي في هذا السياق إلى أن الجيوش على مرّ التاريخ التونسي ساهمت في تكريس هذه الشجرة ورواجها واستنباتها، حتى أن وزارة الدفاع التونسية الآن لها حقولها ومعاصرها ومنتوجها من زيت الزيتون والجيش التونسي له خبرته في ذلك.

المختص في الجغرافيا طارق الزواغي لـ"الترا تونس":  الأراضي التونسية تحتوي على مائة مليون زيتونة منتشرة على واحد فاصل سبعة مليون هكتار تؤمّن ربع الإنتاج العالمي من زيت الزيتون 

وبخصوص أنواع الزيتون، يذكر الزواغي أنها عديدة ففي الشمال نجد "الشّتوي" وفي الساحل "الشملالي" وفي جرجيس وجربة "الزلماطي" و في تطاوين والجنوب عمومًا "الزرازي"، وفي قفصة "الشمشالي" و في الكاف وأقصى الشمال الغربي "الجربوعي". ويبيّن محدثنا أن هذه التسميات هي تسميات عربية وبربرية ورومانية محرّفة.

ويختم طارق الزواغي حديثه بالقول إن تونس هي هبة شجرة الزيتون كما مصر هي هبة النيل على حدّ عبارة المؤرخ الكبير "هيرودورت" .  

أما أنتروبولوجيًا، فإن الزيتون معجون بالحياة اليومية للناس فتتراكم الحكايا والأفعال ليتحول بعضها إلى أساطير وقصص تتناقلها الأجيال، فالإنسان يرى في الزيتون شبيهًا له، فهذه الشجرة لها قدرة فائقة دون غيرها من الأشجار على تحمّل قسوة المناخ فهي تنبت في أوعر الأراضي وعروقها تلتف على الصخر لتمتص منه الماء، تمامًا كما الإنسان له قدرات عالية على التأقلم.

قصص الزيتون هي قصص الإنسان وقصص الشعوب القديمة والمجتمعات الصغيرة في حوض المتوسط. هي قصص "يكاد زيتها يضيء" إذ تظل تُروى وتُحكى ما دام الإنسان يسعى على وجه الأرض.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عائشة.. تونسيّة تقاوم مرارة الواقع بـ"حلاوة" إزالة الشعر

"كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة