16-ديسمبر-2019

لا يوجد عدد رسمي حول عدد المصنّفين "S" (صورة أرشيفية/ سفيان حمداوي/ أ ف ب)

 

"أنا لا أشعر أني إنسان في تونس.. ليس لك الحق في الحديث.. ليس لك الحق في التنقل.. ليس من حقك سوى أن تأكل وتشرب.. حتى الحيوان في تونس له حقوق أكثر منك"، بهذه العبارات الموجعة، يستحضر حسان العجيلي معاناته التي انطلقت منذ حوالي الست سنوات مع إجراءات لم يفهم يومًا سببها القانوني، إجراءات جعلت منه مواطنًا من درجة ثانية، مسلوبًا من أبسط وأدنى حقوقه، ومعزولًا عن محيطه وممنوعًا من السفر.

أن تصنّف "S" دون علمك

قصة حسان العجيلي، ابن الـ36 ربيعًا، غريبة لا يستوعبها العقل ولا يقبلها المنطق وبشكل خاص دستور الجمهورية الثانية، وعلى الرغم من ذلك، فإن كلّ من يحمل الجنسية التونسية ويعيش في أراضي هذه البلاد، معرّض لأن يصبح مواطنًا من الدرجة الثانية محرومًا من حريته وحقه في التنقل وفي حياة طبيعية، بجرّة قلم وبموجب قرار من أحد أعوان الأمن، لسبب أو دون سبب.

قد يتعلّق الأمر بلباسك، أو ربّما معتقداتك، أو رحلات عمل قمت بها إلى بعض البلدان على غرار تركيا أو ليبيا، أو ربّما لأنك أتيت أمرًا أثار غضب أحد أعوان الأمن، كلّ هذه العوامل، قد تخضعك، دون أن تدري، متى أو كيف أو لماذا، لما يسمى بـ"إجراءات الـS".

أن تكون مصنفًا "S" يعني أن تكون مدانًا بحكم لم يصدره أحد وينفذه الجميع

اقرأ/ي أيضًا: صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد.. تعثر التفعيل

أن تكون مصنفًا "S" يعني أن تكون مدانًا بحكم لم يصدره أحد وينفذه الجميع، والأدهى من كلّ ذلك هو أنك لن تعلم أنك مصنّف إلا صدفة، ولا تدرك أسباب تصنيفك ولا حتى متى ينتهي التصنيف. ورغم أن وزارة الداخلية تقدّم هذه الإجراءات، التي تضم 21 صنفًا – من "S1" وصولًا إلى "S21" -، على أنها إجراءات وقائية إدارية يتمّ اتخاذها في صورة وجود معلومات أو شبهات بخصوص إمكانية تحوّل أشخاص إلى أقطار مصنفّة على أنها بؤر توتر، إلا أن تنفيذ هذه التدابير يكشف واقعًا بعيدًا كلّ البعد عن الخطاب الرسمي.

وتفيد، في هذا الإطار، المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، في تقرير أصدرته مؤخرًا، واستندت فيه على شهادات 20 شخصًا، من بينهم 18 رجلًا وامرأتين، من مستفيدي برنامج "سند"، برنامج المنظمة للمساعدة القانونية والاجتماعية والنفسية والصحية لضحايا التعذيب و/أو سوء المعاملة بتونس، أن عملية الإدارج في التصنيفات المذكورة شديدة التعتيم سواء فيما يخصّ معايير تحديد المستهدفين أو في علاقة التمييز بين أنواع مختلفة من الإدراج. كما أن التدابير المقيّدة للحرية التي يخضع لها الأفراد المصنفون تعسفية وتشكّل جزءًا من ممارسة المضايقة الأمنية التي غالبًا ما تشكّل نوعًا من سوء المعاملة.

ويشير تقرير المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب إلى غموض معايير اختيار الأشخاص المعنيين، مبينًا أن تطبيق تدابير المراقبة الإدارية (الإدراج) يبرّر رسميًا بضرورة منع الإرهاب. ويذكّر أنه في جوان/ حزيران 2019، أعلن وزير الداخلية هشام الفوراتي أن المصنّفين ضمن إجراء أفراد توجد في شأنهم لدى الوزارة "معلومات جدية تؤكد علاقاتهم بجماعات إرهابية"، و"الأفراد المفرج عنهم من السجن بعد تورطهم في قضايا إرهابية" وكذلك "الأشخاص رهن الإقامة الجبرية". واعتبرت المنطمة أن المعايير التي تحدث عنها الوزير غامضة.

خلاف.. فاعتداء.. فإدراج

ولئن كان إدراج الأشخاص يتمّ غالبًا على المعايير المذكورة سابقًا، إلا أن حالة حسان العجيلي لا تندرج في أي منها. ويبيّن حسان، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن قصته بدأت سنة 2013 عندما توجه إلى منطقة الأمن بالجهة التي يقطن فيها لتجديد جواز سفره، إلا أن المكان الذي يسكنه شهد اضطرابات ووقع حرق مقرّ المنطقة، وتمت مماطلته للحصول على جواز سفره دون أي نتيجة. ويلفت إلى أنه كان هناك حوالي 50 شخصًا وقع تعطيلهم لكي لا يحصلوا على الجواز ومن ثم أصبح 10 فـ7 أشخاص، وكان هو من بينهم، إلى أن أعلمه رئيس المنطقة أنه لن يحصل على جواز سفره، إلا أنه لم يستسلم وبقي يتردّد على المنطقة، فباتوا يزعجونه ويجبرونه على الانتظار لمدة نصف ساعة ومن ثمّ نصف ساعة دون أي تفسير أو توضيح.

وإثر ذلك، توقف عن التردّد على مقرّ المنطقة، فأصبحوا يتصلون به ويطلبون منه الحضور، إلى أن اتصل بمحاميه الذي أعلمه أن ما يقومون به غير قانوني وأنه من المفترض أن يوجهوا إليه استدعاء، فلم يعد يستجب لمطالبهم له بالحضور.

ويضيف العجيلي أنه في 2015 تم تعيين رئيس منطقة جديدة، مبرزًا أنه في أحد الأيام وعندما كان مارًا على دراجته النارية أوقفه رئيس المنطقة الجديد الذي كان مصحوبًا بحوالي 20 عونًا وطلبوا منه التوجه معهم لمقرّ المنطقة، فذهب معهم اعتقادًا منه أن المنظومة تغيّرت بعد الثورة التونسية وظلّ يتحدث معهم وفق القانون، إلا أن رئيس المنطقة قام بالاعتداء عليه بالضرب مع عدد من الأعوان، إلى أن فقد وعيه.

حسان العجيلي (مواطن مصنف "S") لـ"ألترا تونس": حياتي توقفت ولم أعد قادرًا على التنقل بحرية بين مقرّ إقامتي ومحلّ سكنى والدي

وعند استيقاظه، وجد حسان نفسه مقيدًا وجاثمًا على ركبتيه أمام رئيس منطقة الأمن الذي تعهد بأن يلفق لهم تهمًا وينقله إلى تونس للتحقيق معه، وهو ما وقع فعلًا إذ وجد نفسه خاضعًا للتحقيق في كلّ من القرجاني والحرس الوطني في العوينة. ويشير محدثنا إلى أن التحقيق معه في المركزين لم يدم أكثر من ساعة إذ لم يتمّ العثور على أي شيء في ملفه.

ويبيّن أنه في المقابل قام بتقديم شكاية ضد رئيس المنطقة الذي اعتدى عليه، فأصبح هذا الأخير يبتزّه كي يتراجع عن الشكاية و"يسامحه"، وبات يوقفه عندما يراه واقفًا مع جاره أو أحد زملائه في العمل إلى أن صار حسان يعيش نوعًا من العزلة ومجبرًا على التوجه إلى المنطقة كلّما اعترض طريقه رئيسها. واستمرّ الأمر إلى حين اتصل حسان العجيلي مجددًا بمحاميه الذي قال له بالتوقف عن الذهاب مع رئيس المنطقة وهو ما كان.

وفي الأثناء، تجددت مطالبة حسان بالتراجع عن القضية المقدمة ضدّ رئيس المنطقة. حتى أنه كان مرة متوجهًا لمحطة بنزين وتم أخذه بالقوة إلى منطقة الأمن وحمله لرئيس المنطقة الذي طلب منه أن "يسامح" إلا أنه لم يتنازل عن حقه، ليفاجأ ذات مرة، وأثناء زيارة قام بها لأقاربه الموجودين في العاصمة تونس، بخلع منزله وسرقة صياغة زوجته المصنوعة من الفضة (باعتبار أنها حملت معها صياغتها الذهبية)، حسب تعبيره. ويلفت العجيلي إلى أنه تم خلع المنزل باستعمال 5 سيارات وتم الاعتداء بالسب على الجيران. كما تمّ الاستيلاء على وثائق تهمه.

ويفيد حسان العجيلي أنه قام بإحضار عدل منفذ ورفع قضية أخرى، مشيرًا إلى أنه في ذلك الوقت اكتشف أنه مدرج ضمن إجراء الـ"S17". ويذكر في هذا الصدد أنه إثر عودته من التحقيق في القرجاني والعوينة، توجه لرئيس المنطقة ليعلمه بفشله في تلفيق تهمة ضدّه، إلا أنه فوجئ بردّ رئيس المنطقة الذي قال له "سأضعك في السجن وأنت في منزلك"، لتكرّر بعد ذلك عمليات إيقافه من قبل دوريات في عديد المناسبات، وتمّ في إحدى المرات إنزاله من حافلة كان على متنها بمعيّة زوجته، الأمر الذي أجبرهما على قضاء ليلتهما في نزل لعدم توفر وسائل نقل. كما تعدّدت المرات التي تم إنزاله فيها من "اللواج" خلال تنقله بين بنقردان (مكان إقامته) والعاصمة تونس (مكان إقامة عائلته) والقيروان (أين يقيمه والداه)، والتحقيق معه بأسئلة من قبيل "لماذا تصلّي؟ من أمرك بالصلاة؟ لمن تستمتع من الشيوخ؟ من هم أصدقائك؟".

ويقول حسان لـ"ألترا تونس" إن هذه الأسئلة الروتينية هي نفسها التي كان يتمّ طرحها قبل الثورة، لافتًا إلى أنه قبل أن يقع استجوابه، يُجبر على الانتظار لمدة ساعة أو أكثر إلى حين مجيء أعوان الإرشاد باعتبارهم من يتولون التحقيق معه قبل أن يطلقوا سراحه.

ويؤكد محدثنا أن حياته توقفت ولم يعد قادرًا على التنقل بحرية بين مقرّ إقامته ومحلّ سكنى والديه، مفيدًا أنه عندما كان متوجهًا إلى أحد نزل العاصمة، يوم الأربعاء الفارط الموافق لـ11 ديسمبر/ كانون الأول 2019، للمشاركة في الندوة التي قدمت فيها المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب تقريرها حول المصنفين "S"، وخلال سؤاله عن مكان النزل، طلب منه عون أمن بطاقة تعريفه الوطنية بأطلعه عليها ليعلمه العون أنه مصنف "S17" و"S18" و"S19" وطالبه بالتوجه معه إلى مركز الأمن، إلا أنه رفض ذلك وقدّم له دعوة حضور الندوة المتعلقة بالإدراج، ليتصل العون برئيسه الذي طلب منه تركه لحال سبيله.

ويتحدّث العجيلي بحرقة عن المضايقات التي كثيرًا ما يتعرّض لها في بنقردان. ويذكر، وهو يكابد لإخفاء دموعه، أنه بسبب هذه المضايقات والإيقافات المتكررة على الطريق، بات يصل متأخرًا إلى عمله، الأمر الذي أزعج تلاميذه وأولياءهم.

وفي أحد الأيام من شهر سبتمبر/ أيلول 2017، بعد انتهاء عمله عندما كان مغادرًا على متن دراجته النارية، وتحديدًا على بعد حوالي 500 متر من المؤسسة التربوية التي يدرّس فيها، توقفت سيارة أمن وطلبت أحد الأعوان من حسان العجيلي مدّه ببطاقة تعريفه الوطنية فلبّى طلبهم، ليأمروه بالتوجه معهم إلى منطقة الأمن إلا أنه رفض باعتبار أنه لا غير مفتش عنه ولا توجد بطاقة جلب صادرة في حقه، فأجابه عون الأمن بأنها إجراءات روتينية، إلا أنه تمسك برفضه.

حسان العجيلي لـ"ألترا تونس": اكتشتفت أني بتُ مصنفًا "S17" و"S18" و"S19" لا لسبب فقط بسبب خلاف بل مع رئيس منطقة الأمن بالمكان الذي أقطن فيه

وفي الوقت الذي كان يتصل فيه بمحاميه، اتصل عون الأمن برئيس المنطقة الذي أرسل إليه تعزيزا بحوالي 10 أعوان تكتلوا عليه بالضرب على الطريق وأمام أعين التلاميذ الذين قام عدد منهم لاحقًا بالاحتجاج أمام مقرّ المنطقة.  

وبعد أن فقد حسان الوعي من شدة الضرب، استيقظ ليجد نفسه داخل مقرّ منطقة الأمن وقد تمّ توجيه شكاية ضده بالاعتداء على عون أمن تعرّض إلى إصابة بسيطة على مستوى إصبعه خلال اعتدائه على حسان العجيلي، إلا أن هذا الإجراء، وفق محدثنا، جاء لمعرفتهم أنه سيقوم بمقاضاتهم بسبب هذا الاعتداء ولن يتناول عن حقه.

وخلال تواجده بمنطقة الأمن، تبيّن لحسان أنه مصب بكسر في ضلعه وإصابة في رجله اعتقد في بداية الأمر أنها إصابة عادية لكنه اكتشف لاحقًا أن رباطه الصليبي قد تمزق، وهو أمر ما يزال يعاني آثاره إلى اليوم. وقد وقع تهديده في ذلك الوقت بعدة أساليب لمنعه من تقديم شكاية إلا أنه قال إنه لن يتحدث حتى يصل المحامي الخاص به. وبقي على حاله إلى حدود الساعة الرابعة بعد الظهر حيث قدم رئيس الفرقة العدلية وتقدم بشكاية ضد الأعوان الذين قاموا بالاعتداء عليه.

ويشير إلى أنه وقعت تخطيه في قضية العون الذي تعرض لإصابة في يده رغم أنه كان من تعرض للاعتداء من قبل 10 أعوان في الوقت الذي كان فيه وحيدًا. إلا أن معاناة حسان لم تقف عند هذا الحدّ، فقد اكتشف أنه بات من ذلك الوقت مصنفًا "S17" و"S18" و"S19"، لا لسبب فقط بسبب خلاف مع رئيس منطقة الأمن بالمكان الذي يقطن فيه.

ويحاول حسان إخفاء تأثره وهو يتحدث عن عقود العمل في الخارج التي عرضت عليه إلا أن عجز عن الالتحاق بأي وظيفة في الخارج باعتبار أن جواز سفره مازال "محجوزًا" ولم يتمكن من الحصول عليه منذ 2013، مشيرًا إلى أنه قام بإرسال عرائض إلى رئاسة الجمهوية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان، إلى جانب وزارة الداخلية وتفقدية الوزارة، فضلًا عن عدد من المنظمات الوطنية دون أن يتلق أي تفاعل، مؤكدًا أن المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، ورغم كونها غير تونسية، هي الوحيدة التي مدّت له يد العون.

اقرأ/ي أيضًا: المعهد العربي لحقوق الإنسان يحتفل بثلاثينيته بمعرض وثائقي

عمليات تفتيش للمنازل

المضايقات الأمنية لم تطل حسان العجيلي وحده، بل طاولت عائلته وتحديدًا والديه اللذين أصبحا منزلهما في القيروان عنوانًا يقتحمه أعوان الأمن في أي وقت يريدون ودون إظهار إذن قضائي، ووصل الأمر بهم الأمر إلى السخرية من والده المسن بطريقة مشينة، وفق تصريحات العجيلي لنا.

ويؤكد حسان أن أعوان الأمن توجهوا إلى منزل والديه في القيروان 35 مرة، إلى أن قام ببناء سور بنفسه يحول دون اقتحامهم للبيت عنوة، وأعلم والده أنه لا يجب أن يسمح لهم بالدخول إلا بموجب إذن من النيابة العمومية، فباتوا يستعملون إذنًا قديمًا أو غير موقع، حسب تعبيره.

ويلفت محدثنا إلى أنه يعمل حاليًا كأستاذ وهو مهندس في الأصل إلا أنه إذا سنحت له الفرصة للسفر إلى الخارج والعمل كحارس أو عامل بناء لن يتردد في قبولها، معتبرًا أنه لا يشعر كأنه إنسان في تونس وأن الشباب يعزف عن الحياة السياسية اليوم لعدة أسباب من بينها إجراءات الـ"S".

حسان العجيلي لـ"ألترا تونس": الشباب يعزف عن الحياة السياسية اليوم لعدة أسباب من بينها إجراءات الـ"S"

ويتابع قائلًا إن ما يحصل ليس سياسة شخصية بل سياسة دولة موضحًا أنه لو كانت مسألة فردية لتمت محاسبة رئيس منطقة الأمن المذكور عند توجهه لتفقدية وزارة الداخلية. ويبيّتن في هذا السياق أنه عند توجهه لمكتب العلاقة مع المواطن في وزارة الداخلية تم التحقيق معه على أساس أنه مصنّف "S17" عوض الاستماع لشكواه.

معاناة حسان العجيلي شبيهة في تفاصيل عديدة بما يواجهه عديد ضحايا إجراءات الـ"S"، الذين مهما تعدّدت رواياتهم، إلا أنهم يجدون نفسهم، جميعًا، عرضة للإيقافات الفجئية والزيارات المنزلية، فضلًا عن منعهم من السفر وحتى التنقل بحرية داخل بلادهم.

وهو ما يحيل إلى تقرير المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب الذي تطرّق إلى غموض نوعية الإجراءات المتخذة، حيث أن "S19" و"S18" و"S17" – والذي يعدّ الإجراء الأكثر انتشارًا -، و"S1"، هي تسميات غالبًا ما يردّدها الأشخاص تحت طائلة الإدراج ومحاموهم والتي غالبًا ما تشير إلى واقع يختلف بين حالة فردية وأخرى.

إجراءات دون سند قانوني

وبحسب معلومات المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، يوجد أكثر من 20 نوعًا مختلفًا من إجراءات الإدراج. ويشير التقرير كذلك إلى أن جميع ضحايا الإجراء الحدودي الذين وثقت المنظمة شهاداتهم كانوا أو لا يزالون في معظمهم تحت طائلة الإجراء الحدودي "S17". وقد علم بعضهم أنهم خاضعون أيضًا للإجراء الحدودي "S1" أو "S18" أو "S19" أو أنهم تحت الإقامة الجبرية.

وعلى الرغم من إصدار تعليمات للشرطة بتطبيق الرقابة على التنقلات المنصوص عليها في الإجراء الحدودي "S17" على الحدود التونسية فقط، غالبًا ما تتم مراقبة بعض الأفراد أثناء تنقلهم داخل الأراضي التونسية بسبب خضوعهم للإجراء "S17" أو ربما لكونهم مشمولين بإجراءات حدودية أخرى، وهو ما تؤكده رواية حسان العجيلي لـ"ألترا تونس" ومثيلاتها من الشهادات التي وثقها تقرير المنظمة.

كما يلفت التقرير، الذي تحصّل "ألترا تونس" على نسخة منه، إلى الاستدعاءات المتكررة إلى مركز الشرطة والزيارات المنزلية وحظر مغادرة الأراضي التونسية والحرمان من الوثائق الرسمية، فضلًا عن عمليات التفتيش الإدارية واقتحام منازل المصنفين "S"، إلى جانب الإقامة الجبرية، وهو إجراء يشمل 5 ممن تتعهد بهم المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب.

يستند الإجراء الرقابي الذي يمس من حرية التنقل إلى فصل موجز من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المنظم لحالة الطوارئ

ويستند هذا الإجراء الرقابي الذي يمس من حرية التنقل إلى فصل موجز من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي/ كانون الأول 1978 المنظم لحالة الطوارئ. وينص الفصل 5 منه على أنه "يمكن لوزير الداخلية أن يضع تحت الإقامة الجبرية في منطقة ترابية أو ببلدة معينة أي شخص يقيم بإحدى المناطق المنصوص عليها بالفصل الثاني أعلاه ويعتبر نشاطه خطيرًا على الأمن والنظام العامين بتلك المناطق ويتعيّن على السلط الإدارية اتخاذ كلّ الإجراءات لضمان معيشة هؤلاء الأشخاص وعائلاتهم".

ويبرز التقرير أنه يتم إعلام جميع الأشخاص رهن الإقامة الجبرية بخضوعهم لذلك الإجراء بطريقة شفوية وأحيانًا عند التثبت من هوياتهم وذلك دون تسليمهم إذنًا كتابيًا. كما لم يتم تحديد نطاق الإقامة الجبرية بوضوح ولا القيود التي يفرضها هذا التدبير. ويبيّن أنه متع منع بعض الأشخاص من مغادرة منازلهم في حين أن الأمر عدد 50 لسنة 1978 يتحدث عن إقامة جبرية في منطقة ترابية أو بلدية معينة.

ويؤكد التقرير أن جميع تدابير المراقبة المذكورة تتعارض مع العديد من الحقوق والحريات الأساسية التي يكفلها الدستور التونسي والقانون الدولي لحقوق الإنسان مثل حرية التنقل والحق في عدم التعرض للإيقاف التعسفي والحق في احترام الخصوصية وحرمة المنزل وغيرها.

وليست هذه التدابير غير قانونية لأن الدستور التونسي والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يتيحان للسلطات التونسية الحد من بعض الحقوق والحريات. ويميّز العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بين فرض قيود على الحقوق والحريات والتضييق عليها، فالقيود ضوابط يمكن فرضها على بعض الحقوق التي يكفلها العهد في الأوقات العادية للحفاظ على الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم.

أما التضييقات فهي القيود المفروضة على الحقوق والحريات التي تسمح بها المادة 4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في حالة وجود تهديد استثنائي للأمة. ووفقًا للمادة 2 -4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لا يجوز فرض أي قيود على بعض الحقوق مثل الحق في الحياة أو الحق في عدم التعرض للتعذيب أو غيره من ضروب سوء المعاملة، ناهيك عن التضييق عليها.

يشترط الدستور التونسي والقانون الدولي أن تحتكم القيود والتضييقات المفروضة على الحقوق والحريات إلى شرطي الضرورة والتناسب

وبغض النظر عن الحقوق والحريات الواردة في هذه المادة، يمكن من حيث المبدإ التضييق على الحريات والحقوق الأخرى أو فرض قيود عليها، شريطة استيفاء 3 شروط أساسية تتمثل في شرعية التدابير المقيدة للحرية وتناسبها وخضوعه للرقابة القضائية. ويُعتبر أي حدّ من الحقوق والحريات لا يحترم هذه الشروط إجراء تعسفيًا.

كما يشترط الدستور التونسي والقانون الدولي أن تحتكم القيود والتضييقات المفروضة على الحقوق والحريات إلى شرطي الضرورة والتناسب، لا سيما في حالة الطوارئ. إذ ينصّ الفصل 49 من الدستور على أنه "يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك".

ولئن كان من الواضح أنه من خلال القانون وفقه القضاء التونسي يمكن من حيث المبدإ إخضاع جميع التدابير التقييدية المفروضة على الأشخاص الخاضعين لإجراء، إلا أن الملاحظ على المستوى العملي أن الإدارة تعيق ممارسة الرقابة القضائية إلى حدّ كبير.

ويوضح، في هذا الصدد، تقرير المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب صعوبة إثبات الإجراءات الحدودية وتدابير المراقبة، إذ يتمثل أحد أبرز العوائق في عدم توجيه إعلام كتابي للأشخاص الخاضعين للإجراءات الحدودية وتدابير المراقبة التي يخضعون لها، ولم يتم إبلاغ الأشخاص المشمولين بها إلا شفويًا.

كما يلفت إلى عملية تقييم مدى خطورة الفرد، مبرزًا أنه بمجرّد تقديم طعن/ طلب إلى المحكمة الإدارية، يواجه مقدّم الطلب رفض وزارة الداخلية تزويده بالمعلومات الدقيقة التي تبرّر إخضاعه للإجراء بذريعة سرية المعلومات، وهو ما يشكّل انتهاكًا خطيرًا وتقويضًا لمبدإ تكافؤ وسائل الدفاع الذي يعتبر الضمانة الأساسية لتقاض إداري عادل.

والجدير بالذكر في هذا الإطار أن المحكمة الإدارية تعهدت، إلى حدود ماي/ أيار 2019، بـ951 قضية وأصدرت أحكامًا لصالح وزارة الداخلية في 203 من القضايا، في حين أقرّت 62 حكمًا لصالح مقدم طالب. وقد تم في فيفري/ شباط 2019، رفع 800 طلب استئناف، تم البت فيها بـ48 حكمًا لصالح الوزارة و51 حكمًا لصالح أصحاب الشكاوى، وفق ذات المصدر.

وفي ظلّ غياب رقم رسمي حول عدد المصنفين "S"، تبقى الآثار النفسية لضحايا الإجراءات الرقابية الإدارية عظيمة. فإن أبدى حسان العجيلي استعداده للهجرة والعمل في وظيفة لا تليق بمستواه التعليمي وعن عدم شعوره بإنسانيته، فالبعض من المصنفين عبّروا عن رغبتهم في الانتحار بعد أن سئموا حياة من المضايقات والإيقافات التعسفية.

عواقب نفسية وخيمة

فالتصنيف، وفق التقرير، يعاش وكأنه إجراء يمس الشعور بالانتماء ويخلّف هشاشة كبيرة. كما أنه يعدّ محفزًا على المخاطرة التي تبدأ بالاختلاط بأشخاص يمكنهم تفهم هذه التدابير وغالبًا ما يكونون مشمولين بدورهم بإجراء تصنيف. وتكمن المخاطرة في استهلاك المخدرات للنسيان والنوم، وتصبح المادة المخدرة بمثابة مضادات اكتئاب لا غنى عن استهلاكها في حياتهم اليومية على مرأى ومسمع الأشخاص المكلّفين بمراقبتهم في غالب الأحيان.

وكثيرًا ما يشعر الخاضعون لإجراء التصنيف أنهم يحاكمون دون جريمة، بل بات بعضهم يتمنى أن يحاكم حتى يحدد القاضي بداية ونهاية مدة العقوبة. كما تزيد المضايقات التي تطال عائلاتهم من معاناتهم في ظلّ عجزهم عن إيجاد حلّ أو معرفة موعد انتهاء التصنيف.

ولعلّ ما يزيد الأمر صعوبة، هو التأثير العقلي الذي قد يخلّفه الإجراء الحدودي على الصحة العقلية، خصوصًا مع المداهمات المنزلية التي قد تقع في حضور أطفال سيتعرضون لصدمة نفسية لن يكون تجاوزها بالأمر الهيّن.

ويؤكد التقرير أن الإجراء الحدودي وتنفيذ تدابير الرقابة الإدارية بطريقة تعسفية سيكون لهما عواقب وخيمة على حياة المصنفين "S"، مبينًا أنه يمكن اعتبار هذه الإجراءات الأمنية شكلًا من أشكال العنف النفسي في حال اعتمادها بطريقة متكررة ومكثفة من شأنها إلحاق أضرار نفسية بالأشخاص الخاضعين للإجراء الحدودي ولأقاربهم.

المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب: إجراءات الرقابة الإدارية تفتقر للأسس القانونية

ويضيف أنه يمكن اعتبار هذه الإجراءات الأمنية المفتقرة للسند القانوني وغير المتناسبة وغير الخاضعة لرقابة قضائية، شكلًا من أشكال سوء المعاملة، الأمر الذي يجعل أفراد الشرطة الذين ينفذون تدابير الرقابة ووزارة الداخلية التي تصدر الأوامر، متورطين في ممارسة عدة انتهاكات تتنافى مع كلّ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة 16 من اتفاقية مناهضة التعذيب التي تحظر المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.

ويبرز التقرير أن بعض ممارسات المضايقة الأمنية تفتقر للأسس القانونية معتبرًا أن منع هذه التجاوزات مرتبط بوضع سياسة حازمة لمحاربة إفلات قوات الأمن من العقاب وتكوين العناصر الأمنية. ويشير إلى أن تعديل مشروع قانون حالة الطوارئ، حتى صورة إقراره، كافيًا لوقف الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي تستهدف الأشخاص المدرجين ضمن إجراء.

ويوضح أنه في الواقع، لا تستند هذه الانتهاكات إلى الأمر المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ فحسب، بل أيضًا إلى نصوص قانونية أخرى مثل قانون جوازات السفر ووثائق السفر لسنة 1975 والمرسوم عدد 342 لسنة 1975 المؤرخ في 30 ماي/ أيار 1975 المتعلّق بضبط مشمولات وزارة الداخلية وكلاهما يطبّق خلال حالة الطوارئ وخارجها.

توصيات

وخلص تقرير المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب إلى جملة من التوصيات لعلّ أبرزها ضمان أن يتمّ تضمين كلّ القيود المفروضة على الحريات في نص قانوني، إلى جانب إلغاء أو تعديل الأمر المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ لسنة 1978 لإلغاء الأحكام التي تجيز اعتماد تدابير سالبة للحرية على غرار التفتيش والإقامة الجبرية والتتبعات في صورة انتهاك أمر الوضع تحت الإقامة الجبرية وغيرها من التدابير الأخرى التي لا تستند إلى أي أساس في القانون التونسي.

كما أوصى التقرير بوضع الموارد البشرية والمالية اللازمة على ذمة القضاء الإداري لتمكينه من ممارسة رقابة جدية وسريعة وفعالة على القيود التي تفرضها الإدارة على حريات الأشخاص الخاضعين للإجراء الحدودي أو المشتبه في أنهم يشكلون تهديدًا للنظام العام أو الأمن القومي، وبإفراز جبر ضرر لصالح كلّ فرد وقع ضحية تقييد تعسفي لحقوقه وحرياته.

المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب تدعو وزارة الداخلية التونسية إلى الإلغاء الفوري لأي إجراء سالب للحرية لا يستند إلى قانون واضح ودقيق

كما دعت المنظمة وزارة الداخلية التونسية إلى الإلغاء الفوري لأي إجراء سالب للحرية لا يستند إلى قانون واضح ودقيق وإلى اتخاذ جملة من التدابير المتمثلة أساسًا في:

  1. إبلاغ الأشخاص الخاضعين للإجراء الحدودي بجميع الإجراءات التي تشملهم وبالتدابير الرقابية المترتبة عن كل إجراء حدودي، وبسبل الإنصاف المنافسة للطعن في تلك التدابير
  2. السماح للأشخاص الخاضعين للإجراء الحدودي بالاطلاع على الادعاءات والأدلة التي تبرّر إدراجهم بما يتوافق مع القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة
  3. طلب إذن من سلطة قضائية مختصة لتحجير السفر خارج البلاد بما يتوافق مع قانون سنة 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر الأخرى
  4. فيما يتعلّق برفض إصدار جواز السفر المسموح به وفق الفصل 13 من قانون 1975، الإعلام بقرار الرفض كتابيًا في غضون فترة زمنية معقولة بعد تلقي المطلب وتعليل القرار بمعلومات واقعية ومفصلة
  5. رفع جميع أوامر الوضع تحت الإقامة الجبرية المستندة إلى الأمر المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ فورًا
  6. الكف عن ممارسة الزيارات المنزلية وعمليات التفتيش المستندة إلى الأمر المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ والاقتصار على اتخاذ مثل تلك الإجراءات في سياق الإجراءات القضائية وفقًا لما جاء في مجلة الإجراءات الجنائية
  7. منع أعوان الشرطة من استدعاء أو إيقاف أو استجواب الأشخاص خارج إطار الإجراءات القضائية بما يتوافق مع ما جاء في مجلة الإجراءات الجزائية
  8. منع أفراد الشرطة من اعتماد أي تدبير رقابي من شأنه أن يؤدي إلى ممارسة ضغوط على المحيطين بالأفراد المستهدفين و/أو التشهير بهم (العائلة والأصدقاء والجيران ورب العمل ومؤجر المسكن وما إلى ذلك)، حتى لو كان ذلك لأغراض استعلاماتية
  9. فيما يتعلّق بالتثبت من الهوية على الطريق العام السريع، التأكد من عدم تعطيل تنقل الأشخاص الخاضعين للمراقبة لمدة أطول من الوقت اللازم للتحقق من هوياتهم حتى لا يشكّل التعطيل قيدًا لحرية التنقل
  10. التنفيذ الفوري لكل القرارات الصادرة عن القضاء الإداري والمتعلقة بالإجراء الحدودي وبتدابير المراقبة التي تمارس ضدّ الأشخاص الخاضعين للإجراء أو المشتبه في أنهم يشكّلون تهديدًا للنظام العام أو الأمن القومي
  11. تكوين الأعوان المكلّفين بتنفيذ تدابير المراقبة في مجال القوانين الوطنية والدولية المتعلقة بحقوق الإنسان لمنع الاعتماد المتكرّر للممارسات المسيئة وحتى سوء المعاملة عند تنفيذ هذه التدابير
  12. معاقبة أي عون ثبت تجاوزه لسلطته و/أو سوء معاملته لشخص خاضع لإجراء حدودي أو لأقاربه، وكذلك أي عون يقوم بتنفيذ تدبير مراقبة تعسفي، لا سيما إذا تمّ تعليق أو إلغاء الإجراء من قبل القضاء الإداري.

 

"علينا أن نكون أحرارًا ليس فقط لأننا نعلن الحرية بل لأننا نمارسها"، يؤكد الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر في هذه العبارة أن الحرية لا تكون إلا عندما تُمارس، ولعلّ المفارقة اليوم أن في تونس بعد الثورة، مواطنون يعجزون عن ممارسة حريتهم بسبب إخضاعهم لإجراءات رقابة إدارية لم يعلموا بها ولا حتى أسبابها، مواطنون يُحرمون من أبسط حرياتهم وحقوقهم الحياتية بجرّة قلم وبقرار اعتباطي اتخذ على حين غرّة من قبل عون أمن.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

صندوق الزكاة.. قربان الجدل السياسي وعودة للصراع الهووي

المصادقة على قانون المالية.. آجال خاصة وسيناريوهات عديدة