01-سبتمبر-2018

لا تزال القضية مستمرّة ولم تبح بكل أسرارها بعد

الترا تونس – فريق التحرير

 

نواصل في الجزء الثاني تناول القضية التي تُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة من خلال استعراض المسار القضائي الإجرائي لها ومضامين قرارات ختم التحقيق ودائرة الاتهام وصولًا لمحكمة التعقيب، وذلك بعد التعرض في الجزء الأول لوقائع القضية كيفما وردت في القرار التعقيبي (نفتح قوسًا للتوضيح أن استعمال لفظ "وشاية" في الجزء الأول يعود لاستعماله من محكمة التعقيب، ونضيف أن لفظ "وشاية" هو لفظ قانوني بحت وقد نصّت مثلًا المجلة الجزائية في الفصل 248 على هذا اللفظ في جريمة الادعاء بالباطل، والأمر لا يتعلق بتوصيف سلبي كما اعتبر البعض).

اقرأ/ي أيضًا: بالأسماء والتفاصيل: كل خفايا قضية التآمر على أمن الدولة (2/1)

بطاقات إيداع بالسجن وجلب خلال التحقيق

مع انطلاق التحقيق، كان شفيق جراية رهن الإقامة الجبرية منذ 23 ماي/آيار 2017  بموجب مقرر من وزير الداخلية على أساس قانون الطوارئ. والأصل أن هذا الإجراء تجاه جراية هو الذي جعل وشاية العويني تخرج من مكتب الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف نحو القضاء العسكري لتكون القضية مرسمة تحت عدد 4919. وقد صدرت تباعًا بطاقة إيداع بالسجن ضد جراية على ذمة القضية. ثم صدرت أيضًا بطاقة إيداع ضد صابر العجيلي بتاريخ 30 ماي/آيار 2017، كما صدرت بطاقة إيداع بالسجن ضد عماد عاشور بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 أي بعد 6 أشهر من انطلاق التحقيق.

انطلق التحقيق في القضية حينما كان شفيق جراية رهن الإقامة الجبرية بموجب مقرر من وزير الداخلية على أساس قانون الطوارئ

أما بخصوص ناجم الغرسلي، فقد كان حين سير التحقيقات سفيرًا لتونس في المغرب قبل إنهاء مهامه بتاريخ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017 أي قبل يومين من إصدار بطاقة الإيداع ضد عاشور الذي قال إن لقاءه بجراية كان بطلب من الغرسلي وهو ما نفاه (حول هذه النقطة تنقل بالخصوص جريدة "الشروق" المقربة من دوائر في وزارة الداخلية أنه تم رصد ثلاث مكالمات من الغرسلي إلى عاشور يطالبه بلقاء جراية).

وقع الاستماع للغرسلي كشاهد في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وكان يتمتع بالحصانة القضائية، وقد تداولت وقتها وسائل إعلام بكثافة أنباء عن إصدار بطاقة إيداع بالسجن ضده ليخرج الغرسلي بنفسه وينفي ذلك مؤكدًا أنه يتمتع بالحصانة القضائية. هذه الحصانة كانت عائقًا إجرائيًا لدى قاضي التحقيق العسكري وهو ما جعله يطالب في ذات الشهر، أي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، من المجلس الأعلى للقضاء رفعها وهو ما تم فعلًا أوائل سنة 2018، ليقع توجيه استدعاء للغرسلي مجددًا ولكن كمتّهم غير أنه تغيب عن الحضور في جلسة استنطاقه في فيفري/شباط 2018 ودفع محاموه بعدم بلوغ الاستدعاء إليه ثم بوجود مانع صحي خطير، وذلك بالتوازي مع رفعهم طعنًا للتجريح في قاضي التحقيق العسكري (على اعتبار مطالبته برفع الحصانة على الغرسلي قبل استنطاقه كمتهم) إضافة للطعن لدى المحكمة الإدارية في قرار رفع الحصانة.

كانت الصورة واضحة، رفض الغرسلي الاستجابة لاستدعاء الاستنطاق لأن كل الظروف تؤكد أنه ستصدر ضده بطاقة إيداع بالسجن. غير أن هذا الرفض لم يحل دون أن تصدر ضده بطاقة جلب بتاريخ 14 مارس/آذار 2018، وكان الجدل دائمًا حول جدية وزارة الداخلية في تنفيذها وقد كانت مهمة التنفيذ موكلة إلى الفرقة المركزية للحرس الوطني بالعوينة (حسب لطفي براهم) التي داهمت منزل الغرسلي ولم تعثر عليه. وتداول أن عدم القبض على الغرسلي كان من أسباب إقالة وزير الداخلية السابق لطفي براهم في جوان/يونيو 2018، والذي فاجأ بتصريح بعيد إقالته أن الغرسلي لم يكن مُدرجًا بالتفتيش قبل أسبوع واحد من تاريخ الإقالة. يوجد حول هذه النقطة اعتقاد راسخ أن هناك جهة ما تحمي الغرسلي وذلك بغض النظر عن صحة التهم الموجهة إليه من عدمها.

يوجد اعتقاد راسخ أن هناك جهة ما حمت وزير الداخلية السابق ناجم الغرسلي من الإيقاف وذلك بغض النظر عن صحة التهم الموجهة إليه من عدمها

في الأثناء، يجب أن نميز بين القضية، موضوع هذا التقرير، والتي تُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة والتي كان منطلقها وشاية العويني، وهي مرسمة تحت عدد 4919، وقضية أخرى منفصلة مرسمة تحت عدد 4920 تُعرف بقضية وضع النفس زمن السلم على ذمة جيش أجنبي. وهذه القضية أثارها قاضي التحقيق العسكري خلال سير التحقيقات في القضية الأولى، وتتعلق بعلاقات شفيق جراية في أوساط السياسيين والمحامين والقضاة والإعلاميين ورجال الأعمال إضافة لعلاقاته مع الشخصيات الليبية. وهذه القضية هي أضخم من القضية الأولى، إذ يتجاوز عدد الأبحاث والتقارير والاستنطاقات فيها ما يزيد عن 8 آلاف ورقة (حسب المحامي كمال بوجاه محامي العجيلي)، وقد صدرت فيها بطاقة إيداع ضد جراية، وأيضًا ضد العجيلي في ديسمبر/كانون الأول 2017 قبل رفعها في شهر أفريل/نيسان 2018، وكذلك ضد عماد عاشور ولازالت نافذة (محامو العجيلي وعاشور يتحدثان عن حشر اسم منوبيهما في هذه القضية الثانية بصفة كيدية). وعموما هذه القضية متشعبة قد نعود إليها في زمن لاحق ولكن ما يهمّنا الآن التعرض للقضية الأمّ، إن صحّ التعبير، وهي قضية التآمر على أمن الدولة، لنواصل حول مآل ختم التحقيق بخصوصها.

قاضي التحقيق العسكري: كل المتهمون خونة

بعد استيفاء الأبحاث، انتهى قاضي التحقيق العسكري في قرار ختم التحقيق في 17 أفريل/نيسان 2018 إلى عدم الأخذ بوشاية أحمد العويني التي تحدث فيها عن طلب صابر العجيلي، مدير وحدة البحث في جرائم الإرهاب، منه إيجاد مخرج لتبرئة الموقوف مختار العرف في اجتماع بمقر الوحدة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2016 بمحضر شفيق جراية والليبي وليد كشلاف، وذلك على أساس "عدم ثبوت صدقية مضمونها". بيد أن الوقائع التي جدّت في جلسة 29 فيفري/شباط 2016، والتي لم تكن محلّ ذكر في وشاية العويني، والتي ظهرت بمناسبة سير الأبحاث وتحديدًا بمناسبة استنطاق جراية، أصبحت أساسًا لجملة من التكييفات القانونية تجاه أربعة متهمين هم ناجم الغرسلي، وعماد عاشور وصابر العجيلي وشفيق جراية.

قاضي التحقيق العسكري لم يأخذ بوشاية العويني لعدم ثبوت صدقية مضمونها ولكنه اعتبر جلسة 29 فيفري 2016 أساسًا لتوجيه تهمتين للخيانة للمتهمين الغرسلي وعاشور والعجيلي وجراية

إذ توجهت، ضمن جرائم الاعتداء على أمن الدولة الخارجي، تهمة الخيانة وعقوبتها الإعدام على هؤلاء المتهمين، على أساس الفصل 60 مكرّر في المجلة الجزائية، وذلك في صورتين من الصور الثلاثة للخيانة وهما:

1- الإفشاء إلى دولة أجنبية أو إلى أعوانها بأي وجه كان ومهما كانت الوسيلة سرًا من أسرار الدفاع الوطني أو الحصول بأي وسيلة على سر من هذا القبيل بقصد إفشائه إلى دولة أجنبية أو إلى أعوانها (60 مكرّر أولًا).

وقد عرّف الفصل 60 رابعًا، المذكور ضمن نص الإحالة، تعريفًا لأسرار الدفاع الوطني والتي منها "الإرشادات العسكرية والديبلوماسية والاقتصادية والصناعية التي بطبيعتها لا يجب أن تكون معلومة إلا ممن لهم صفة في مسكها والتي يجب أن تبقى سرًا على غيرهم وذلك لمصلحة الدفاع الوطني".

2- تعمّد المشاركة في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة بقصد الإضرار بالدفاع الوطني" (60 مكرّر ثالثًا).

دائرة الاتهام: إخراج العجيلي وعاشور من دائرة الخيانة

تولّى محامو المتهمين الطعن في قرار ختم التحقيق، وحلت القضية لدى دائرة الاتهام العسكرية، وهي دائرة منتصبة بمحكمة الاستئناف بتونس التي تنظر في الطعون المرفوعة ضد قرارات قاضي التحقيق العسكري بالمحكمة الابتدائية العسكرية بتونس. وتتكون هذه الدائرة على غرار دوائر الاتهام العادية من رئيس ومستشارين وذلك مع تعويض أحد المستشارين بقاضي عسكري بنفس الرتبة المستوجبة.

اقرأ/ي أيضًا: هيئة الدفاع عن عماد عاشور: هناك تعتيم إعلامي انتقائي وممنهج على القضية

أيدت الدائرة في قرارها بتاريخ 22 ماي/آيار 2018 قرار ختم التحقيق ولكن مع تعديله جزئيًا على النحو التالي حسب كل متهم:

بخصوص شفيق جراية، حافظت الدائرة على توجيه التهمتين ضده أي الحصول على سر من أسرار الدفاع بقصد إفشائه (60 مكرّر فقرة أولى+ 60 رابعًا فقرة ثانية وثالثة) والمشاركة في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة (60 مكرّر فقرة ثالثة). وتوجه الاتهام أيضًا لشخص يُدعى رمزي بن محمد بن الصادق الطرابلسي، وهو متهم لا نجد له أي أثر في سرد وقائع القرار التعقيبي ويظهر أن قاضي التحقيق العسكري لم يستنطقه، ولكن تبين لنا إنه أحد المساعدين الشخصيين والمقربين من جراية ويرجّح أن توجيه الاتهام إليه مع رئيسه في العمل يعود لعلمه ومساهمته في الأفعال المنسوبة لجراية.

وبخصوص ناجم الغرسلي المحال في حالة فرار، تم أيضًا توجيه ذات التهمتين ضده.

أما فيما يتعلق بعماد عاشور وصابر العجيلي، أسقطت دائرة الاتهام عليهما تهمتي إفشاء أسرار من اسرار الدفاع الوطني والمشاركة في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة، واعتبرت أن الأفعال المنسوبة لهما هي من قبيل الاعتداء على أمن الدولة الخارجي زمن السلم بالتسبب بتقصير وعدم مراعاة القوانين في رفع إرشادات أمّنا عليها وقد يترتب عن معرفتها اكتشاف سر من أسرار الدفاع الوطني أو يسمح بالاطلاع ولو على جزء منها، وذلك على أساس الفصلين 61 ثالثًا فقرة ثانية منه والفصل 62 (العقوبة هي السجن لمدة 5 أعوام).

دائرة الاتهام العسكرية أيدت  قرار ختم التحقيق لقاضي التحقيق العسكري مع تعديله جزئيًا بخصوص الاتهام الموجه ضد العجيلي وعاشور وذلك مع التأكيد على اختصاص القضاء العسكري

وحول مسألة الاختصاص الحكمي، أيدت دائرة الاتهام كذلك ما ذهب إليه قاضي التحقيق من حيث اختصاص القضاء العسكري. إذ اعتبرت الدائرة أن قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2015 لم يتعرض لجرائم الاعتداء على أمن الدولة الخارجي وبذلك تخرج عن نظر القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، ورأت أن الأفعال موضوع التعهد تتعلق بجرائم وردت في المجلة الجزائية ويختص بها القضاء العسكري باعتبار أن المتهمين هم أمنيون، وذلك استنادًا على الفصل 5 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، والفصل 22 من القانون الأساسي لقوات الأمن الداخلي. وخلصت بإحالة الملف على الدائرة الجنائية العسكرية بالمحكمة العسكرية بتونس.

محكمة التعقيب تقلب الطاولة

تلقت محكمة التعقيب 8 مطاعن بالتعقيب ضد قرار دائرة الاتهام، 5 قدمها محامو المتهمين وثلاثة قدمها كل من المتهمين عماد عاشور وصابر العجيلي وشفيق جراية بصفة شخصية. وقد طالبت الوكالة العامة بمحكمة التعقيب بعدم الاختصاص الحكمي للقضاء العسكري للنظر في قضية التآمر على أمن الدولة نظرًا للصبغة الإرهابية، وأيضًا بعدم توفر أركان الجريمة، على النحو الذي طالب به دفاع المتهمين، وهو ما نحت إليه محكمة التعقيب التي نقضت قرار دائرة الاتهام أولًا من حيث مسألة الاختصاص الحكمي، وثانيًا من حيث ضعف التعليل والخطأ في تطبيق القانون وذلك سواء في توجيه الاتهام ضد شفيق جراية من جهة، أو ضد للعجيلي وعاشور من جهة أخرى، وهو ما سنتعرض له تباعًا في النقاط الثلاث التالية:

1- القطب القضائي لمكافحة الإرهاب هو المختص وليس القضاء العسكري

اعتبرت محكمة التعقيب أن دائرة الاتهام جانبت الصواب لما اعتبرت أن الأفعال المنسوبة للمتهمين خارج دائرة تجريم قانون مكافحة الإرهاب، إذ أكدت أن الوقائع هي ضمن دائرة تجريم القانون المذكور لتكون القضية بالتالي بداهة من نظر القطب القضائي لمكافحة الإرهاب. ولكن على ماذا استندت محكمة التعقيب؟

أسست المحكمة قرارها على أساس الفصل 10 من قانون مكافحة الإرهاب الذي ينصّ أنه "يُحكم وجوبًا بأقصى العقوبة المستوجبة للجريمة الإرهابية إذ.. ـ اُرتكبت من أعوان القوات المسلحة أو من أعوان قوات الأمن الداخلي أو من أعوان الديوانة، فاعلين أصليين كانوا أو مشاركين...). ولكن ظلّ السؤال قائمًا وبصفة أسبق، كيف تكون الأفعال المنسوبة جريمة إرهابية على معنى قانون الإرهاب؟

تقول المحكمة إنه لما اعتبر قاضي التحقيق ومن بعده دائرة الاتهام أن شفيق جراية استغل وساطته في اجتماع فيفري/شباط 2016 ومقايضة ما قام به لمطالبته صابر العجيلي بتبرئة عناصر إرهابية داعشية على غرار مختار العرف، يجعل الصبغة الإرهابية هي الثابتة وذلك على معنى أحكام الفصل 34 من قانون الإرهاب الذي ينص أنه "يعد مرتكبًا لجريمة إرهابية ويعاقب بالسجن من عشرة أعوام إلى عشرين عامًا وبخطية من خمسين ألف دينار إلى مائة ألف دينار كل من يتعمد ارتكاب أحد الأفعال التالية: -الإرشاد بأي وسيلة كانت ولو دون مقابل دخول شخص إلى التراب التونسي أو مغادرته بصفة قانونية أو خلسة سواء تم ذلك من نقاط العبور أو غيرها بهدف ارتكاب إحدى الجرائم الإرهابية المنصوص عليها بهذا القانون". وأوردت المحكمة ضمن الأفعال الواردة في الفصل المذكور "إفشاء أو توفير أو نشر معلومات مباشرة أو بواسطة، بأي وسيلة كانت، لفائدة تنظيم أو وفاق إرهابي أو لفائدة أشخاص لهم علاقة بالجرائم الإرهابية المنصوص عليها بهذا القانون بقصد المساعدة على ارتكابها، أو التستر عليها أو الاستفادة منها أو عدم عقاب مرتكبيها". ونلاحظ أن محكمة التعقيب أخطأت في الرقن باستعمال عبارة "اقتناء" بدل "إفشاء" في طالع الفعل المجرم السابق عرضه.

محكمة التعقيب: الأفعال المنسوبة للمتهمين هي ضمن دائرة تجريم قانون مكافحة الإرهاب لتكون بالتالي من نظر القطب القضائي لمكافحة الإرهاب وليس القضاء العسكري

كما أكدت محكمة التعقيب أن إفشاء وتوفير معلومات لفائدة تنظيم إرهابي والتستر على عناصر إرهابية بغرض تمكينها من التفصي من التتبعات والملاحقات القضائية هي جرائم من صميم الاختصاص المطلق للقطب القضائي لمكافحة الإرهاب ولو تورطت فيها عناصر أمنية أو عسكرية بصريح الفصول 10 و34 و40 و41 و43 و49 من قانون مكافحة الإرهاب. بذلك يكون وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس هو المختص بإثارة الدعوى العمومية وإثارتها مع مباشرة التحقيق من قضاة القطب القضائي لمكافحة الإرهاب. انتهت بذلك للمحكمة للخلاصة بأن دائرة الاتهام أساءت استخلاص النتيجة القانونية السليمة من الوقائع المعروضة عليها وجاء قرارها خارقًا للقانون وهو ما استوجب النقض.

2- جراية لم يتحصل على سر من أسرار الدولة

لنعد بصفة موجزة خطوة للوراء ونذكّر أن دائرة الاتهام، وقبلها قاضي التحقيق، اعتبرت أن ثبوت حضور جراية في اجتماع فيفري/شباط 2016، والذي تعرضنا له في الجزء الأول، واطلاعه على معلومات وُصفت أنها سرًا من أسرار الدولة، وذلك مع اعتبار الحصول على هذه المعلومات كان بنية إفشائها إلى الغير وذلك بانصراف نية المظنون فيه أي جراية، لاستغلالها لخاصة نفسه ومقايضتها لفائدة ليبيين تشملهم إجراءات أمنية احترازية، هي كلها أفعال من قبيل إضعاف الشعور الوطني، وتهديد روح الانتماء للعلم والإضرار بالدفاع الوطني، واعتبرت جراية أيضًا مشاركًا في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة.

من المرجّح أنه حين قراءة ما ذهبت إليه دائرة الاتهام، قد تناهى السؤال حول مدى اعتبار المعلومات الواردة في اجتماع فيفري/شباط 2016 هي من قبيل أسرار الدولة التي اطلع عليها جراية ليستغلها لصالحه. هو سؤال وجيه لأن محكمة التعقيب أجابت أن معلومات تلك الاجتماع لم تكن في حقيقتها سرًا من أسرار الدولة ذلك أن جراية كان مطلعًا اطلاعًا كاملًا عليها قبل عقد الاجتماع من أصله، فهو من اتصل بمدير المصالح المختصة عماد عاشور ليعلمه برغبة الليبي وليد الكشلاف التواصل معه لتقديم معلومات أمنية هامة، ليقوم عاشور لاحقًا بتوجيهه لصابر العجيلي لينعقد الاجتماع الشهير. تؤكد المحكمة أن جراية كان يحتكم على المعلومات التي وقع تداولها في الاجتماع منذ ما قبل لقاءه بعاشور والعجيلي، وهو الذي كان الوسيط، كما هو معلوم، لعقد اجتماع فيفري/شباط.

محكمة التعقيب: لا يمكن الحديث عن أسرار دولة بالنسبة لجراية في اجتماع فيفري 2016 لأن جراية نفسه كان يعرف المعطيات قبل انعقاد اللقاء وهو كان الواسطة بين المخبر الليبي والأمن التونسي

تنتهي المحكمة خلاصة للتأكيد أن شفيق جراية لم يتحصل على سر من أسرار الدولة لأن ما اعتبرته دائرة الاتهام سرًا كان أمرًا معلومًا بالنسبة إليه، وهو من أفشاه لجهاز الأمن التونسي وليس العكس.

تخلّص إذًا جراية وفق ما نحت إليه المحكمة من تهمة إفشاء سرّ من أسرار الدولة، ولكن ظلت تهمة تعمّد المشاركة في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة بقصد الإضرار بالدفاع الوطني، هل اعتبرتها محكمة التعقيب غير قائمة على وجه صحيح أيضًا؟ نعم، تقول محكمة التعقيب إن دائرة الاتهام وجهت هذه التهمة الثانية لجراية لكن دون إبراز الأفعال المادية المكونة التي تبين مظاهر العمل الذي يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة، ومن أين استقتها والتي تقتضي الانخراط مع الغير بأسلوب ممنهج في مشروع هدفه إفساد عقيدة أفراد الجيش أو الأمة أو الحط من المعنويات بزعزعة الثقة وإحباط العزائم. لتنتهي المحكمة بالقول إن الاتهامات الموجهة قاصرة التسبيب وغير معللة بشكل سليم، وهو ما استوجب النقض.

3 لا سر من أسرار الدولة إذًا لا تقصير من عاشور والعجيلي

كانت الأفعال المنسوبة لجراية والتهم المكيّفة لها وثيقة الصلة بالتهمة التي وجهتها دائرة الاتهام لعماد عاشور وصابر العجيلي وهي تقصيرهما وعدم مراعاة القوانين بما أدى لاكتشاف سر من أسرار الدفاع الوطني أو سمح بالاطلاع ولو على جزء منها، والحديث، وفق تمشي الدائرة، عن المعلومات المتداولة في اجتماع فيفري/شباط 2016.

ولكن انتهت محكمة التعقيب، على النحو المعروض في الفقرة السابقة، أن تلك المعلومات ليس من أسرار الدفاع الوطني باعتبار أن جراية كان لديه اطلاع عليها قبل تقديمها أصلًا للأمن التونسي. بالتتابع، لا يمكن الحديث عن تقصير سواء من عماد عاشور أو صابر العجيلي في كشف أسرار الدفاع الوطني لجراية، لأنه لا يوجد ببساطة أسرار دولة تجاه جراية الذي كان وسيطًا في العملية الاستخباراتية، وبالتالي لا يمكن الحديث عن تغافل القياديين الأمنيين عن واجب الحيطة والحذر.

محكمة التعقيب: لا يمكن الحديث عن تقصير سواء من عاشور أو العجيلي في كشف أسرار الدفاع الوطني لجراية لأنه لا يوجد ببساطة أسرار دولة تجاه رجل الأعمال التونسي الذي كان وسيطًا في العملية الاستخباراتية

ولكن لا تقف محكمة التعقيب عند هذا الحد بل تواصل في تسبيب لافت للانتباه وجريء أن صفة عاشور كمدير عام للمصالح المختصة، أي جهاز المخابرات، والعجيلي كمدير لوحدة البحث في جرائم الإرهاب "تخوّلهما التعامل مع من هو في موضع شبهة ومن هو فوقها لغاية الحصول على المعلومة حفاظًا على الأمن القومي" بل تضيف المحكمة أن ذلك "يدخل في صميم عملهما ولا تثريب عليهما في التعامل مع أي كان في سبيل تحقيق الغاية طالما ظلت الأسرار الأمنية محفوظة". تقول المحكمة إذًا إنه لا يمكن مؤاخذة قيادات أمنية للقائها شخصيات مشبوهة، والحديث الضمني عن جراية، وذلك ما دام الهدف هو الحصول على معلومة تخدم الأمن القومي التونسي.

بعودة للوراء حول هذه النقطة، أجمع كل من رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد ووزير الداخلية السابق الهادي مجدوب والمدير العام السابق للأمن الوطني عبد الرحمن بلحاج علي، أنه ما كان على عماد عاشور ملاقاة جراية في اللقاء أول، وكان لكل منهم مبرراته. يرجع الحبيب الصيد ذلك لأن "المسؤول الكبير في الدولة لا يجب أن يتعامل مباشرة مع شخصية لها شبهة فساد سياسي أو مالي حيث لا يمكن الاستفادة مهما قدم من معطيات أمنية باعتبار أن مقابلها ربط الصلة بذلك المسؤول"، أما المجدوب فقد عبر عن "استغرابه" حين سماعه بتعامل عاشور مع "شخصية مشبوهة"، فيما يرجع بلحاج موقفه المتحفظ على اللقاء على أساس "هيبة المؤسسة الأمنية" مفضلًا أن يتم التعامل مع أعوان من مستويات دنيا.

محكمة التعقيب: صفة عاشور كمدير عام للمصالح المختصة والعجيلي كمدير لوحدة البحث في جرائم الإرهاب تخوّل لهما التعامل مع من هو في موضع شبهة ومن هو فوقها لغاية الحصول على المعلومة حفاظًا على الأمن القومي

والسؤال المطروح، هل يعتقد هؤلاء المسؤولين الكبار السابقين في الدولة (رئيس حكومة ووزير داخلية ومدير للأمن الوطني) أنه فعلًا لا يجب أن يحصل لقاء بين مدير المصالح المختصة وشخصية مشبوهة ولو كان الهدف الحصول على معلومة أمنية قيّمة، أم أن أقوالهم لم تكن في دوافعها إلا بغاية التشكيك في عاشور وإضعاف موقفه في القضية؟ وربما نطرح السؤال على أنفسنا أيضًا، هل يمكن قبول لقاء بين مدير مخابرات وشخص مشبوه وإن كان يتحوّز على معلومات تهم الأمن القومي؟ جرأة محكمة التعقيب، في هذه النقطة بالتحديد، تظهر بقولها، وكما أشرنا، إن هكذا تعامل بالنسبة للقيادات الأمنية الاستعلاماتية "يدخل في صميم عملها".

ولا تزال القضية مستمرة..

قضت إذًا محكمة التعقيب في قرارها بتاريخ 23 أوت/أغسطس 2018 بنقض قرار دائرة الاتهام العسكرية والإحالة من جديد لدائرة اتهام عسكرية أخرى بمحكمة الاستئناف للنظر فيه بهيئة مغايرة، وذلك بقبولها المطعنين الرئيسيين (الاختصاص الحكمي من جهة وضعف التعليل والخطأ في تطبيق القانون من جهة أخرى) لتغني نفسها عن النظر في بقية المطاعن المقدمة بالنظر أن المحكمة، كما تقول عن نفسها، غير ملزمة سوى بالرد على الدفوع الجوهرية التي لها تأثير على وجه البت في القضية.

اقرأ/ي أيضًا: لتنقيح المجلة الجزائية.. إليكم مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة

وانعقدت جلسة لدائرة الاتهام بالهيئة الجديدة بتاريخ 31 أوت/أغسطس 2018 لتقضي برفض مطالب الإفراج عن المتهمين الثلاثة (عاشور والعجيلي وجراية)، وصرح محامي العجيلي كماه بوجاه أنه سيقع رفع شكاية ضد الدائرة لدى المجلس الأعلى للقضاء باعتبار أن موكله تجاوز مدة الإيقاف التحفظي وهي 14 شهرًا. فيما حددت الدائرة موعد جلستها القادمة بتاريخ 18 سبتمبر/أيلول 2018، ولكن هل ستحسم يومها أو في جلسة أخرى الدائرة موقفها بالذهاب نحو ما ذهبت إليه محكمة التعقيب أم ستواصل في المنحى الذي ذهبت إليه الهيئة السابقة، لننتظر.

دائرة الاتهام العسكرية بعد النقض من محكمة التعقيب رفضت مطالب الإفراج عن المتهمين الثلاثة

قضية لا تزال مستمرّة وستطول، وربما لم تكشف بعد أسرارها الخفية إذ قدم محامو المتهمين عددًا من القضايا ضد مقدّم الوشاية أحمد العويني بلغت 17 قضية حسب هيئة الدفاع عنه التي تضم من بين أعضائها القياديين السابقين في نداء تونس عبد الستار المسعودي ولزهر العكرمي الذي صرح في ندوة صحفية بتاريخ 14 أوت/أغسطس 2018 أن القضايا التي تستهدف موكله العويني تستهدف رأسًا رئيس الحكومة يوسف الشاهد.

وتظل عديد الأسئلة تطرح نفسها: هل يتعلق الأمر بشكل لا ريب فيه بقضية كيدية، ضعيفة الأدلة المثبتة للاتهام، تمت إحالتها عمدًا على القضاء العسكري المفتقد لشروط الاستقلالية بهدف الإطاحة برجل الأعمال شفيق جراية الذي تحدى الشاهد أنه لا يستطيع القبض على "ماعز" وفي إطار حسابات داخل السلطة، ولم تكن بذلك القيادات الأمنية إلا ضحية لهذه المغامرة؟ لماذا احتفظ الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بوشاية العويني طيلة 7 أشهر ولم يقم بإحالتها إلا بعد يومين فقط من إيقاف جراية؟ ألا تتأكد هشاشة قرارات القضاء العسكري (تحقيق واتهام) بتقديم الوكالة العامة لمحكمة التعقيب لطلبات تتماهى وطعون دفاع المتهمين ومن ثم قبول محكمة التعقيب للمطعنين الرئيسيين سواء المتعلق بالاختصاص أو بغياب أركان الجرائم؟

في المقابل، ألا يتعلق الأمر باجتهاد قضائي محض دون أي دوافع خفية من القضاء العسكري؟ لماذا لا يمكن أن يكون دافع العويني في تقديم وشايته بريئًا وهو الملزم قانونًا بالإخبار عن الجرائم التي يحصل له العلم بها؟ أليس شفيق جراية، الذي وإن لم تثبت إدانته يظلّ في كل الأحوال شخصًا محلّ شبهات وهو معلوم بارتباطاته المحلية والإقليمية المريبة ولديه شبكة علاقات مثيرة للشكوك، وعليه لم يكن مبتدأ هذه القضية إلا الكشف هذه الشبكات والإطاحة بالمتورطين فيها؟

قضية التآمر على أمن الدولة لا تزال مستمرّة وستطول وربما لم تكشف بعد أسرارها الخفية إذ قدم محامو المتهمين عدد من القضايا ضد مقدّم الوشاية أحمد العويني بلغت 17 قضية حسب هيئة الدفاع عنه

بالنهاية تظل هذه الأسئلة المطروحة، ربما يساهم هذا التقرير في صياغة إجابات لها وإن كانت إجابات غير قاطعة، كما نعتقد ذلك بمعيار مسافة الأمان، وهو ما جعلنا حريصين على تقديم عرض موضوعي ونزيه لأطوار هذه القضية، والتي بغض النظر عن مضامينها واستخلاصاتها القضائية، تظلّ قضية سياسية بامتياز (من حيث صفة المتهمين وطبيعة التهم وسياقها السياسي)، وكذلك قضية رأي عام. وهو ما دفعنا للحرص على تقديم معلومة كاملة غير مجتزئة أو موظفة، وهي حق للمواطن التونسي، بعيدًا عن الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك، وذلك من منطلق الرسالة الصحفية التي نعتقد أنه لا انحياز إلاّ للحق والذي نقدّره بأنه يكفي أن تكون مهنيًا وصادقًا كي تكون منحازًا له.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خاص: القصة الكاملة لسامي العيدودي "الحارس الشخصي لبن لادن"

استثناء الجيش التونسي في منطقة الانقلابات.. لماذا استمر في حياده السياسي؟