02-أغسطس-2021

ستحاول هذه السطور التنقيب عن معدن "25 جويلية" بغضّ النظر عن الجدال القانوني الصرف والتوصيفات الطافية في طبقات سوسيو-جيولوجية تسعى للإجابة عن الأسئلة التالية: "متى، كيف ولماذا؟" (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

مقال رأي

 

"لا يمكننا مناقشة عقائد الجماهير كما لا يمكننا مناقشة الإعصار" - غوستاف لوبون

"لا يرى الناس الأشياء كما هي، بل كما يريدونها" - عبد الله القصيمي


تمهيد:

إن كان صاحب المقولة الأولى أعلاه-لوبون le bon مؤسس علم نفس الجماهير-حاضرًا بقوة في معرض ما تبينه هذه الأوراق، فإن نظيره الثاني -القصيمي- نموذج ذاتي يمكن الاستئناس به لتتبع المسار الذي نَحَتْهُ المفردات التي صاغت السياق التونسي، هذا الذي يعيش على وقع التحول/الاستحالة القلقة Métamorphose tumultueuse  طيلة عشريته الأولى وصولًا إلى هذه اللحظة، ولا يمكن فعليًا أن نَعْزُوَ قلق هذا التحول إلى منشآت عقلية بقدر ما هي تدفقات وجدانية تشق طريقها لتتمظهر في الواقع بتعبيرات راغبة في الأفضل سياسيًا و اجتماعيًا واقتصاديًا مقابل القصور الجماعي عن توليد الأفضل شكلًا ومضمونًا.

عبد الله القصيمي مثال على الانزلاق السريع والمباشر بين براديغمين (Paradigm) متعارضين: من الإسلام السلفي إلى الإلحاد. وقد يسعفنا توصيف "الانزلاقات السريعة" لوصف نقاط التنقل التي رسمت هذه العشرية وصولًا للحدث.

"25 جويلية"، باختلاف المقاربات التي تحاول الإحاطة به، مثَّلَ و لايزال يمثل منعرجًا "تونسيًا" خاطفًا يحاول تجاوز أو لنقل تقويض الثنائيات الكلاسيكية: انزلاق-ارتكاز، شرعية-مشروعية، السياسي-القانوني، الأفقي-العمودي، الشعبي-النخبوي، الحاكم-المحكوم، تونس الداخل-تونس الخارج...

"25 جويلية"، باختلاف المقاربات التي تحاول الإحاطة به، مثَّلَ و لايزال يمثل منعرجًا "تونسيًا" خاطفًا يحاول تقويض الثنائيات الكلاسيكية: انزلاق-ارتكاز، شرعية-مشروعية، السياسي-القانوني، الشعبي-النخبوي، الحاكم-المحكوم، تونس الداخل-تونس الخارج

ستحاول هذه السطور، بعد أسبوع من تخمر سياق الأحداث، التنقيب عن معدن "25 جويلية" بغض النظر عن الجدال القانوني الصرف والتوصيفات الطافية (انقلاب من عدمه، افتضاض دستوري من عدمه، تصحيح مسار، الضرورات تبيح المحظورات...) في طبقات سوسيو-جيولوجية تسعى للإجابة عن الأسئلة التالية: "متى، كيف ولماذا؟". ولا تَدَّعِي إلا التطرق لجزئية في نص شديد الهيجان يُسِيل الحبر -بدل الدماء- و يستثير قارئه و يحفر نفسه في التاريخ.


الطريق إلى 25 جويلية:

من خصائص المجتمع التونسي لزومه نمطًا نظاميًا سكونيًا لا تطرأ عليه التغيرات إلا في حالة انخرام التوازنات القائمة بين مجتمع الشارع و مجتمع الدولة (من ذلك انتفاضة علي بن غذاهم أو انتفاضة الخبز..) أي عندما يصل ميكانيزم الدولة في علاقته بتلبية الاحتياجات الدنيا للمواطنين إلى حالة انسداد قصوى تفضي إلى مراكمة عناصر الانفجار(أي أن النظام يحمل داخله عناصر أزمته و عوامل التداعي)، و هذا يقودنا إلى استنتاج حالة العطالة داخل النسيج الاجتماعي الذي لا ينتج أسباب تحوله بل ينتظر انفجار بنية "السيستام" حتى يخوض غمار الشارع.

الشارع في 2010-2011 مثل مراكمة للكمد الاجتماعي يتجاوز الذوات إلى حالة ألم موضوعي لا يصنف طبقيًا –بروليتاري أو برجوازي- بل هو فعل جماعي صهر الجميع حتى من خارج اللحظة التاريخية.

أنبت هذا الألم أملًا في التغيير الشامل سرعان ما تم اجتثاثه بعد التضحية بمسار ثوري شعبي لفائدة نسق مناقض لبنية الثورة يصبو مسارًا انتقاليًا إصلاحيًا و تدريجيًا من داخل نفس المنظومة قام أساسًا على التنازلات و"البيع والشراء" السياسي وتبادل الأصول التجارية السياسية ساهمت في استصدار القديم (أدوات ونظامًا وقيمًا) بتعلة بقاء الدولة والتأسيس للديمقراطية لكن العشر سنوات لم تبلغ مرتبة المنجز الثوري لأنها أسست "لديمقراطية الخارج"(المصدرة) بدل الداخل (العقل الديمقراطي).

اقرأ/ي أيضًا: السيكولوجية الجماهيرية وصناعة الزعيم

أفاقت العشرية على  التسوية السياسية بين القوى القديمة والجديدة داخل مجتمع الدولة لضمان الأمن الاقليمي(في صراع المحاور) وداخل أدفاق المال والأعمال والتعويل على الامتثالية conformisme المحافظة التي تقود في كل مرة تقريبًا من تاريخ تونس إلى التعايش مع الواقع/المعطى السياسي (2011 انتفاضة ضد رموز النظام القديم ليتم التخطيط لعودتهم بالصندوق مقابل حالة سكون غالبة على الخزان الانتخابي)، مقابل التغاضي عن مجتمع الشارع و هامشيته أو الأحرى عدم إدراك قدرته على زعزعة أمن النظام في فترة زمنية وجيزة.

الطبقة الوسطى كانت محركًا رئيسيًا في 2010-2011 وتمكنت من صياغة المطلبية الاجتماعية في شكل مطلبية سياسية (شغل، حرية، كرامة وطنية) ونقلها من الهامش للمركز. لكن العشرية من عمر الشعوب أودت لمزيد توسع قُطر المركز  مقابل مزيد تهميش المهمش

عرفت تونس انزلاقات تطبيقية وحتى انعراجات عنيفة من اشتراكية تسلطية في الستينات إلى رأسمالية جائعة تسعى للاستثراء السريع خاصة في مجال النسيج والسياحة ثم تدريجيًا تم استبدال خيار رأسمالية الدولة برأس المال الخاص في الإنتاج و فتحت السوق على العالم وصارت الدولة خاضعة للأدبيات النيوليبرالية أي أنها صارت تلعب دور وسيط تجاري بين رأس المال الأجنبي والسوق الداخلية وتمهد الطريق أمام الاستثمارات الأجنبية سياسيًا وتشريعيًا والدخول الرسمي لمجتمع الاستهلاك. وأمام انكماش السوق الرأسمالية أمام التصدير التونسي، تعطل الإنتاج و عرفت البلاد أزمات و إضرابات وأحداثًا دموية..

اختارت (أو لعله الخيار الوحيد) الدولة التونسية الانخراط في النيوليبرالية المهيمنة على العالم أي تخليها عن إدارة الاقتصاد لفائدة الخواص لكن الوعي الجماعي التونسي تعود على الحضور الكلي للدولة في لا إدراكه النفسي (حتى في حالة انجراح الفرد يستنجد بالدولة) لكنه في وعيه اليومي يكيل الشتائم لها..

الثابت بالتجربة أن أي تحرك ضد الدولة تقوده الطبقة الوسطى (طلبة، عمال، مثقفون..)، نفس هذه الطبقة تشكل وعيها بفضل الجامعة العمومية التي دشنتها دولة الاستقلال لكنها نفسها تعرف زلولًا نحو الجامعة الخاصة.

هذه الطبقة كانت محركًا رئيسيًا خلال 2010-2011 والتي تمكنت من صياغة جماعية للمطلبية الاجتماعية في شكل مطلبية سياسية (شغل، حرية، كرامة وطنية) ونقلها من الهامش للمركز. لكن العشرية من عمر الشعوب أودت فقط إلى مزيد توسع قُطر المركز  مقابل مزيد تهميش المهمش..

المركز نفسه عرف انزلاقات سريعة جعلت حزبًا ذي مرجعية إسلامية يحافظ على بنيته لكن مع تقديم تنازلات عديدة من خلال مراجعة مقولاته التي قدمته قبل 2011 و تغيير لباسه (نحو الياقات و البدلة الرسمية) ومحاولة احتكار الصندوق كآلية للحكم والتشريع وشرعنة نفسه أمام المجتمع وقبله أمام الخارج، إلى جانب الانزلاق الذي عرفه النظام القديم الذي تنازل عن معاداته للإسلام السياسي كحزب "مدني" والتجانس مع مقولاته بشكل اختياري أو قسرًا من نفس "الخارج".

قادت هذه التوافقات إلى منافرات مضادة أوصلت دولاب الدولة نحو التيبس.. في ظل مراكمة نفسية للضغينة الاجتماعية داخل فضاء الشارع.

ثم بشكل غير متوقع حتى لدى المحللين المستقبليين futurologues يبدو أن العقل التاريخي الذي تشكل ضمنه السياق التاريخي التونسي شُحن بفضل آليات العولمة بخاصة منها التكنولوجية لمشاركة وتوزيع المتراكم.. وقادت إلى الاندلاع.

25 جويلية: الحدث

 قيس سعيّد متأثرًا  بأبي العلاء المعري:

مثل فوز الرئيس قيس سعيّد في انتخابات سبتمبر/أيلول 2019 الحدث، أستاذ قانون دستوري من خارج السيستام بالقوة وبالفعل (مشروع سعيّد يعادي الأحزاب كآلية عمودية/فوقية للحكم وينادي بإعادة تشكيل الحكم من القاعدة الشعبية إلى قمة الهرم) استبشر به السواد الأعظم في تونس وأطلق عليه "الأمل الأخير".

منذ دخول سعيّد قصر قرطاج اختلفت الآراء حول أدائه وإمكانياته بين الدستوري والشعبي والحقوقي وبين خصومه والقوى التي منحته صك ولاء وتفاعل المحيط الافتراضي مع صورته ومقولاته سواء بالترحيب أو السخرية

فوز  سعيّد بنسبة 72.8 % من الأصوات تعادل النسبة التي تحصل عليها الرئيس الممثل و السينمائي الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (73.2%) بعد استفادته من حالة الإحباط العام من الطبقة السياسية التي رافقت أوكرانيا ما بعد السوفياتية، تلك التي تلتقي مع حالة النقمة التونسية على الطبقة السياسية التي بلغت شَأْوًا في ترذيل السياسة ورعاية الفساد والتقسيم الأيديولوجي للمجتمع المُقَسَّمِ سلفًا.

خلفت ليلة الإعلان عن نتائج الانتخابات حالة من الفرحة والاحتفال التي اجتاحت الشوارع عقبته مبادرات تطوعية من جموع الشباب في كامل الجمهورية كشكل تعبيري عن خوالج  اللحظة فيما سمي بـ"حالة وعي".

اقرأ/ي أيضًا: ألا يشعر حكامنا بالغيرة؟

منذ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019 موعد دخول سعيّد قصر قرطاج إلى حدود 24 جولية/يوليو 2021 اختلفت الآراء حول أداء الرئيس و إمكانياته بين الدستوري والشعبي والحقوقي وبين خصومه والقوى التي منحته صك ولاء وتفاعل المحيط الافتراضي مع صورته ومقولاته سواء بالترحيب أو السخرية [صورة الحريص على الفصحى المتأثر بالسردية العربية في عمل الخلفاء ومقولات "بغلة عمر" و"زقفونة المعري" و "الشعب يريد"]. إلى جانب إثارته النقاش القانوني حول تقليعاته القانونية و تأويلاته (مثلًا في كونه القائد الأعلى للقوات العسكرية والمدنية وخطاباته التهديدية أو رغبته في العودة لدستور 1959) لكن ليلة 25 جويلية/يوليو 2021 ظهر رئيس الجمهورية وهو يطبق مقولاته على أرض الميدان كقائد للقوات العسكرية و المدنية ومتأثرًا بسرد الخلفاء العادلين وكرئيس ضمن دستور 59 و كَرَاوٍ/ المعري في علاقته السردية "التسلطية" بابن/أبناء القارح (شخصية واقعية وورقية في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري الذي أمعن في إذلالها و"التخطيط" السردي ضدها).

25 جويلية: هيغل في الواجهة

لعله من مكر التاريخ كما يسميه هيغل أن ثورة 2010-2011 صبت نحو إبعاد القوة قدر الإمكان عن قرطاج و تركيزها في باردو لكنها هي 10 سنوات كافية من أجل أن يعلن نبض الشارع "كفره" بباردو ويولي وجهه قِبَلَ قرطاج.

عملية مراكمة الغضب الشعبي انتظرت وقودًا لها تمَثَّلَ في تصاعد الحديث عن التعويضات الموجهة لضحايا النظام السابق وخصوصًا حركة النهضة حيث تم تداول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي -في فترة حرجة شارف جهازها الصحي على الانفجار وموتاها بالمئات يوميًا- لرئيس مجلس شوراها عبد الكريم الهاروني وهو يتحدث عن حجم التعويضات المنتظرة، جسَّد هذا الخطاب الاتقاد le déclenchement  الافتراضي للغضب العام وردًا على هذا الخطاب تم إنشاء مجموعة على فيسبوك مجهولة الخلفية وتزعم الاستقلالية عن التنظّم الحزبي تحت تسمية فرنسي "لا للتعويضات للنهضويين" ساهم في تجميع مختلف الشرائح والمشارب من الأستاذ الجامعي إلى المنقطع عن الدراسة وإعادة إنتاج الغضب في نسق نظامي تعبيري افتراضي أمكن له التعبئة للخروج من داخل نسق المحاكاة إلى نسق الشارع في مناطق متعددة.

اختيار 25 جويلية لم يكن مجانيًا بل كان حفرًا في الذاكرة الوطنية (عيد الجمهورية) وفي ذاكرة اليسار (ذكرى اغتيال الشهيد البراهمي)، وتزامن مع يوم الأحد (راحة للوظيفة العمومية). كل ذلك أسهم في التحشيد واجتياح الفضاء السيكو-سوسويولوجي الوحيد المعبر عن الهامش: الشارع

اختيار 25 جويلية/يوليو لم يكن مجانيًا بل كان حفرًا في الذاكرة الوطنية خصوصًا للدساترة والبورقيبيين والتجمعيين أي ذكرى عيد الجمهورية (و خاصة في كون قيم الجمهورية تتعارض مع الإسلام السياسي وأن إرثها في خطر) إلى جانب الحفر في ذاكرة اليسار في فترة وحدته (ذكرى اغتيال الشهيد محمد البراهمي) واختيار يوم الأحد (يوم راحة للوظيفة العمومية). كل ذلك أسهم في التحشيد واجتياح الفضاء السيكو-سوسويولوجي الوحيد المعبر عن الهامش: الشارع.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة النظام السياسي أم أزمة القوى الديمقراطيّة؟

شَابَ هذا التحرك مناوشات وحرق لمقرات جهوية تابعة لحركة النهضة (التي حملها العقل الجماعي مسؤولية عشر سنوات قدمت فيها نفسها على أنها أساس العملية الديمقراطية) وهذا العقل ذاته سيبرر من منطلق جماعي فعل الحرق والاعتداء على أنها أفعال مشروعة وحتى شرعية تستند إلى إرادة الشعب وهي في الضمير الجمعي محاولة وجودية لإثبات الهامش لمن جعله يعيش هامشيته.

25 جويلية: البداية

فيما كان حزب حركة النهضة يتمسك بالشرعية و يتوعد المعتدين بالجزاء القانوني، كان رئيس الجمهورية يترأس اجتماعًا طارئًا مع قيادات عسكرية وأمنية تمسك فيه بالمشروعية والشرعية.

أيًّا كان ما أقدم عليه الرئيس تأويليًا وإجرائيًا، فقد كان ذلك كافيًا للتأثير على الشارع والعبور من حالة الفوضى إلى الارتكاز ومن حالة الحنق إلى دائرة من الهتاف والتهليل.

حالة "قيس سعيّد" الجماهيرية غير ميالة للتأمل ولا مؤهلة للمحاكمة العقلية حسب غوستاف لوبون في إطار وحدة (ليست سياسية) بل نفسية شديدة العدوى خاضعة لقانون كلي متسلط يعزل كل شوائب الفردية والانسلاخ خارجه

صورة الشارع بأعلامه وشعاراته وزينته ليلة الأحد 25 جويلية/يوليو هي نسخة مطابقة للأصل لليلة الأحد 13 أكتوبر/تشرين الأول 2019 (فوز قيس سعيّد بالرئاسية).

يبدو أننا أخطأنا -نحن الذين ظننا أن "حالة الوعي" التي رافقت فوز سعيّد آيلة إلى زوال- في فهم وتفكيك حالة الوعي، تلك التي عرفت طريقها نحو الاستئناف.

حالة "قيس سعيّد" الجماهيرية غير ميالة للتأمل ولا مؤهلة للمحاكمة العقلية حسب غوستاف لوبون في إطار وحدة (ليست سياسية) بل نفسية شديدة العدوى خاضعة لقانون كلي متسلط يعزل كل شوائب الفردية والانسلاخ خارجه.

لا تأبه هذه الحشود ولا تناقش قيس سعيّد (الذي لم يتوانَ ليلة 25 جويلية/يوليو في الخروج للشارع) ولا تبالي بالانقذاف في المجهول السياسي بل تؤسس لفرحتها من خلال تماهي مطلبها مع إجراء الرئيس حتى ولو عنى ذلك الاعتداء على دستور 2014.

يبدو كذلك أن دستور 2014 في بابه الرابع تعارض مع شعار "الشعب يريد" فإرادة الشعب لم تُجمع عليها الأحزاب (فسيفساء البرلمان) بقدر ما ترجمتها اكسبريس Express الرئيس في مقهى شعبي.

يذكر لي أحد المربين أنه في السنوات الأولى للثورة تعرّف الشباب على قيس سعيّد من خلال تقديمه لتحاليل دستورية في نشرة الأنباء وقد تفاعلوا سلبًا وإيجابًا مع تأويلاته المعروضة بلسان عربي يعض على الفصحى وبأسلوب آلي وبمصطلحات ميكانيكية، ويذكر أن أحد التلاميذ ذكر أنه -سعيّد- لو ترشح للانتخابات لانتخبه دون تفكير. لم يفهم المربي آنذاك سبب هذا الانطباع. ربما تكون هذه الحادثة نموذجًا لفهم من هو قيس سعيّد لدى "شباب الثورة"؟

لا تأبه هذه الحشود ولا تناقش قيس سعيّد ولا تبالي بالانقذاف في المجهول السياسي بل تؤسس لفرحتها من خلال تماهي مطلبها مع إجراء الرئيس حتى ولو عنى ذلك الاعتداء على دستور 2014

كنية الرئيس المتداولة لدى عموم الشعب هي "الأستاذ" بدل "الزين" (بن علي) أو "الأب"(بورقيبة) ولرئيس الجمهورية دومًا سلطة معنوية/أبوية patriarchal في المعنى السياسي على المخيال العمومي التونسي وهو ما منح تأويله للدستور شعبية لا يضاهيها أي أستاذ آخر في القانون الدستوري بغض النظر عن مضمونه.

اقرأ/ي أيضًا: هل تونس بحاجة إلى تغيير النظام السياسي؟

الرئيس استنطق شعبيته من الشارع وطرح زعامته النفسية / الديماغوجية من دون جميع الأحزاب وصارت مقولاته رمزًا لصناعة محتوى الافتراضي بين شباب ما بعد الإنترنت.

ثمة تطابق كذلك بين مقولات الرئيس اليسارية (تقويض النظام، السلطة للشعب، العدالة..) والمحافظة (علائقية الحريات بالنص الديني مثلًا ..) لكن الجماهير ترفض المقولات اليسارية من اليسار واليمينية من اليمين لكنها تتماهى معها عندما يقدمها سعيّد وهو مالم تستوعبه الأحزاب، فيمكن للشباب أن يتنظم ثوريًا خارج التشكيلات اليسارية وإصلاحيًا خارج التشكيلات اليمينية.

 سعيّد كوَّنَ نفسيًا الشعب الذي يريده في استراتيجيا شعبوية للحكم حولها إلى نموذج للحكم، لذلك فإن إجراء تحريك الجيش هو إجراء عملي شمولي (خاصة أن الشعب التونسي لم يألف الجيش في صدارة العمل السياسي) يوازي حالة الوعي الشمولي ما بعد الأيديولوجية.

خاتمة:

يشير أستاذ علم الاجتماع المولدي القسومي إلى أن تاريخ الشعب التونسي الحديث محكوم بالخداع (النفسي أساسًا) من خدعة الاستقلال إلى خدعة التعاضد والانفتاح والتنمية ضد الديمقراطية والرئاسة مدى الحياة إلى التحول المبارك إلى الإسلام هو الحل إلى المجلس التأسيسي إلى خدعة البورقيبية الجديدة وصولًا إلى "الشعب يريد"..

ثمة تطابق بين مقولات الرئيس اليسارية (تقويض النظام، السلطة للشعب، العدالة..) والمحافظة (علائقية الحريات بالنص الديني مثلًا ..) لكن الجماهير ترفض المقولات اليسارية من اليسار واليمينية من اليمين لكنها تتماهى معها عندما يقدمها سعيّد

في الختام، لا يمكن لهذا المقال أن يُحَصِّلَ خاتمة بحد ذاتها، ببساطة لأن "25 جويلية" لا يمكن أن يكون خاتمة بل هو بداية: إما أن تكون البداية الفعلية أو أن تكون خيبة أخرى نبدأ بها العشرية الثانية، و في الأثناء تتباطؤ الأحداث مقابل تسارع في الأسئلة و يمكن أن ننهي مقالنا بثلاث منها نحو ما بعد 25 جويلية:

  • هل أن الإرادة الشعبية دومًا على صواب؟ (خصوصًا أن التاريخ يكذّب ذلك).
  • كيف ستكون ملامح التغيير الذي يريده الشعب ولا يملك له تصورًا؟
  • هل أن 25 جويلية هو القائد نحو التأسيس للعقل الديمقراطي الخاص بنا بالتضحية بديمقراطية متهالكة؟

هذه الأسئلة المركزية هي التي ستكون المحدد التاريخي للموقف الأخلاقي/ القانوني/ السياسي من "25 جويلية" وقد يتطلب ذلك ردحًا من الزمن.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

متشائل: منعرج انقلابي أم فاصل ديمقراطي؟

حالة الاستثناء:شرعية منقوصة ومشروعية تنتظر الإنجاز