07-مارس-2019

بدا الركح في مسرحية "بورقيبة الحوار 2019" وكأنه شاشة تلفاز

 

"لو كان بورقيبة هنا أي صورة ستكون عليها حواراته الصحفية وأي أجوبة تلك التي سيرد بها عن أسئلة لا تموت؟"، "لو كان بورقيبة بيننا الآن وهنا ماذا كان ليقول عن الثورة وعمن جعلوا البورقيبية أصلًا تجاريًا يتمعشون منه في سوق السياسة؟". أسئلة قد تكون تبادرت إلى أذهان المتابعين للشأنين السياسي والإعلامي لتأتي إجابتها في عمل للمسرحي رجاء فرحات بعنوان "بورقيبة الحوار 2019".

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "الخوف"... سيميولوجيا محضة حول الواقع التونسي

وبورقيبة الحوار 2019، سادس عمل مسرحي يقدمه رجاء فرحات عن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، بعد أن كان قدّم في إطار المسرح الصادقي 5 أعمال مسرحية هي "بورقيبة: خطاب البلماريوم" و"الزعيم بورقيبة: السجن الأخير" و"بورقيبة وحراير تونس" و"بورقيبة في أمريكا".

وسلسة الأعمال المسرحية التي تغوص في مسيرة بورقيبة تثير في كل مرة التساؤل عن قدرة رجاء فرحات على تقديم بورقيبة في صورة زعيم استثنائي قد لا يشهد تاريخ تونس بما مرّ منه وما يأتي شبيهًا له، والحال أنه سجن والده الصحبي فرحات وعذّبه على خلفية محاولة الانقلاب سنة 1962.

الفصل بين الذاتي والموضوع: وعي أم التزام فني؟

ويظهر أن الفنان المسرحي رجاء فرحات قد بلغ درجة من الوعي تجعله يفصل بين الذاتي والموضوعي في تعامله مع شخصية الحبيب بورقيبة، ولم يؤاخذه بذنب وفاة والده تحت طائلة التعذيب في سجون دولة الاستقلال.

وأنت تمعن التفحّص في تفاصيل مسرحية "بورقيبة الحوار 2019" التي يؤدّي فيها رجاء فرحات دور الرئيس الراحل الحبيب بورڨيية وتؤدي فيه الممثلة المسرحية آمال الفرجي دور الصحفية، ستستشفّ أن رجاء فرحات انتصر لابن البورقيبية التي وضعت اللبنات الأولى للتعليم والصحة وتحرير المرأة في تونس على ابن المناضل النقابي الصحبي فرحات الذي حاول الانقلاب على هذا النظام.

من خلال "بورقيبة الحوار 2019" سعى رجاء فرحات إلى بسط رؤى وتوجهات الحبيب بورقيبة من تاريخ الإعلان عن استقلال تونس إلى حدود هذه السنة

وربما تكون أعمال رجاء فرحات جزءًا من التزام الفن بإلقاء الضوء على تاريخ تونس في خط ثالث يفصل بين شيطنة بورقيبة وتأليهه.

ومن خلال "بورقيبة الحوار 2019" سعى رجاء فرحات إلى بسط رؤى وتوجهات الحبيب بورقيبة من تاريخ الإعلان عن استقلال تونس إلى حدود هذه السنة، مع التعريج على بعض الأحداث التي سبقت الاستقلال، عقود من الزمن لخّصتها دراماتورجيا حوار في ساعة ونصف الساعة من الزمن.

عين على الإخراج..

بدا الركح في المسرحية وكأنه شاشة تلفاز، يظهر منها كرسيان يحيطان بطاولة من الجانبين، كرسيان بغلاف أحمر تعلوهما زخرفة ذهبية. والزخرفة في أحد الكرسيين تشدّ الانتباه أكثر لشدّتها، وهو قطعًا كرسي الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي جلس عليه ببدلته السوداء وطربوشه التونسي وهو يراقص عصاه.

والزعامة ليس مجرّد وصف يقترن باسم الرئيس الراحل بل هو هاجس يسكنه ويجعله حريصًا في حواراته التلفزية على أن يكون في أعلى الهرم حيثما وجد، ومهتمًا بالتفاصيل الصغيرة التي تجعل منه ولي الحوار وسيده. ولأن شخصية بورقيبة لا تخلو من النرجسية، ففي ظهوره التلفزي، الذي نطق فيه رجاء فرحات بلسانه، تطالعك صورتان على جانبي الركح لبورقيبة في شبابه وشيبه.

الزعامة ليس مجرّد وصف يقترن باسم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بل هو هاجس يسكنه

وعلى الركح كانت الطاولة، ذلك الجدار الفاصل بين حاكم معتد بتجربته، ولا ينقطع عن سرد تفاصيلها إلا متى ارتأى ذلك، وصحفية تلقي أسئلتها باحتشام ولا تعترض إن قاطعها بورقيبة وانبرى يتلو على سمعها ما حلا له مع مراعاة سياق سؤالها الموؤود.

وعلى الطاولة، بعض أوراق تقلبها الصحفية بين يديها، أو تقرأ منها أسئلة تنطق كلماتها على مهل متأهبة لمقاطعة الزعيم، وتطبق عليها كلتا يديها إذ هي ألقت بكلمة تفاعلًا مع حديث الرئيس.

اقرأ/ي أيضًا: "سيكاتريس".. مسرحية عن الصحفي والنظام وجدلية الحرية والتحرير

محاكاة حد الواقعية..

وفي حوار بورقيبة 2019، حاكى الممثل المسرحي رجاء فرحات الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في جلسته وأسلوبه ونبرة صوته وارتجالاته وتعليقاته وتعابير وجهه حد الواقعية. ولولا الاختلاف بين الرجلين على مستوى المظهر، يخيّل إليك أن الحبيب بورقيبة بعث من قبره حيًّا ليجيب عن استفسارات الصحفية عن بعض الأحداث السياسية التي شهدتها تونس قبيل الاستقلال وبعده.

وفي واقع الأمر، هو كان يحاول أن يقدم اليوم أجوبة عن أسئلة لا تموت، مادامت الحقائق لم تنجل بعد ومادام التاريخ لم يقل فيها كلمته الفصل، أسئلة عن علاقته بالزعيم صالح بن يوسف من أيام السجن المشترك إلى صراع الزعامات، واغتيال الزعيم فرحات حشاد، ومؤتمر صفاقس الاستثنائي سنة 1955، وعلاقته بالتعليم الزيتوني.

مسرحية "حوار بورقيبة 2019" لا تكتفي بطرح توجهات الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة خلال حياته، بل تتعدّاها لسبر توجهاته في الفترة الراهنة

ولكن في هذا العمل الذي يؤرخ لحقبة تاريخية تعود إلى ما قبل الاستقلال لتمتد إلى أيامنا هذه، لم يعرّج رجاء فرحات ولو تلميحًا على المحاولة الانقلابية ضد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

وهذه المسرحية لا تكتفي بطرح توجهات الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة خلال حياته، بل تعدّاها ليسبر توجهاته في الفترة الراهنة، وموقفه من الثورة ومن المشهد السياسي الذي تتهافت فيه أحزاب كثيرة على الاستثمار في تركة بورقيبة في التعليم وتحرير المرأة بل ينصب بعض السياسيين أنفسهم ورثته الشرعيين.

وبعيدًا عن الجانب التاريخي، والأحداث والمعطيات التي سردها رجاء فرحات على لسان بورقيبة، فإن المسرحي نجح في أن يجعل الحوار عفويًا كما لو أن بورقيبة كان هنا.

وفي الحوار تظافر الأداء والنص ليبسط جوانب مختلفة من شخصية الحبيب بورقيبة من عشقه للفن والأدب إلى حديثه السلس باللغتين العربية والفرنسية وخطابه الممسرح وحبه للزعامة ونرجسيته التي تسكن بين كلماته، وتعليقاته الهزلية المثيرة للضحك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرحية "ذاكرة قصيرة".. حينما يكون الإنساني رهين السياسي

قراءة في الشريط الوثائقي الروائي "غزالة ".. هشاشة ناصعة