كلّما خلنا أن زمن الزعامات قد ولّى وحقبات انتظار القائد المخلص قد طويت، يفاجئنا الراهن الاجتماعي والسياسي بحقيقة مغايرة تجبرنا على المراجعة والحال أننا نشهد في هذه اللحظة التاريخية تبلور مطلبية جماهيرية تنادي بالزعيم وإعادة زمن الزعامة، عبر صعود خطاب تقديس القائد والرئيس في صورة بدائية ولدتها السيكولوجيا الجماهيريّة.
يقول العالم الفرنسي غوستاف لوبون، الذي يراه المفكر السوري هاشم صالح أنه "أولًا وقبل كل شيء مؤسس علم نفس الجماهير"، في كتابه "سيكولوجية الجماهير" إنه "يمكن لتكتل ما من البشر أن يمتلك خصائص جديدة مختلفة جدًا عن خصائص كل فرد يشكله. وعندئذ تُطمس الشخصية الواعية للفرد وتصبح عواطف وأفكار الوحدات المصغرة المشكلة للجمهور موجهة في نفس الاتجاه. وعندئذ تتشكل روح جماعية عابرة ومؤقتة بدون شكّ ولكنها تتمتع بخصائص محددة ومتبلورة تمامًا.. وعند ذلك تصبح الجماعة ما سأدعوه بالجمهور المنظم .. أو جمهورًا نفسيًا (سيكولوجيًا)".
تتأثر السيكولوجية الجماهيرية باختلاف المحددات الزمنية والأحداث الطارئة، كما أن الأفراد والجماعات الممثلة تحمل سمات مغايرة للسيكولوجيا الاجتماعية التي تمتاز بالاستقرار ولا تتحقق مكتسباتها الجديدة إلاّ عبر تحولات جذرية وشاملة وانزياحات عميقة الغور والامتداد في النسيج الاجتماعي، وهو ما يجعل منها "عتبة الوعي الجمعي عكس السيكولوجية الجماهيرية التي تعبر عن البنية التحتية لذلك الوعي وخزان خرافاته وأساطيره".
كلّما خلنا أن زمن الزعامات قد ولّى يفاجئنا الراهن الاجتماعي والسياسي بحقيقة مغايرة تجبرنا على المراجعة ونحن نشهد في هذه اللحظة التاريخية تبلور مطلبية جماهيرية تنادي بالزعيم وإعادة زمن الزعامة
وعليه، إن ذوبان الفرد في المجموعة وغياب الوعي الفردي -الذي يخترقه الوعي الجماعي ويسيطر عليه على نحو تحلّ فيه المشاعر محلّ الأفكار ويسود الإحساس الانطباعي التفكير والقرارات-، يمثل الخاصية الأولى للجمهور. ولا نتعدى هنا دون الإشارة إلى أن كل ذلك لا يتطلب بالضرورة تجمع العديد من الأفراد في ذات الوقت والمكان بل إن آلاف الافراد وربما الملايين منهم يمكن لهم أن يكوّنوا جمهورًا نفسيًا إذا ما خضعوا لتأثير انفعالات عنيفة أو جمعهم حدث وطني ضخم. وهو ما يعني أن شعبًا بأكمله قادر على التحول إلى جمهور نفسي تحت وطأة مثل هذه التأثيرات.
لنبدو أكثر وضوحًا، إن تناولنا لسيكولوجية الجماهير في هذا المقال ينحصر في دورها في الإعداد والتهيئة لتقبل الزعامة الكاريزمية وتفويض الإراداة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبطل الخارق ذلك أنه إذا ما ركن القطار الاجتماعي إلى الصدأ وانتهت القاطرة الاقتصادية والثقافية إلى الركود ونالت العطالة والبطالة من البناء الاجتماعي برمته، يصبح الخلاص البشري صعبًا في الوعي الجمعي وتبدو الإصلاحات الكبرى مستحيلة، فعندئذ ينكفئ الأفراد إلى أنفسهم وفق يقين ثابت بأن الحل يتعدى إرادتهم.
اقرأ/ي أيضًا: ألا يشعر حكامنا بالغيرة؟
وفي هذه اللحظة تنقسم الجماهير إلى شقين، شق يستدعي القوى الماورائية والميتافيزيقية تاركًا مصيره إلى الغيب أو الله، أما الشق الآخر فينتظر خلاصه من الزعيم أو القائد الأوحد. هذا الأخير يظهر على أنقاض مجتمع متأزم سياسيًا ومتفكك اجتماعيًا وعاطل اقتصاديً، على نحو يجعل من المشهدية العامة قاتمة ونجاح التحديات المرفوعة ضربًا من الاستحالة.
وهنا في مفصلية تاريخية دقيقة، يظهر الزعيم متسلّحًا بالخطابة والإيهام والحملات الاتصالية التي تقودها جحافل من خبراء الاتصال والعلاقات العامة ووكالات التسويق ومكاتب الدعاية، ليكون الدور الأبرز لاستراتيجيات التأثير التي تستهدف حشد الجماهير والسيطرة عليها عبر إخراج الرؤساء في صورة الزعامات وهي الصورة التي تجذبهم ويرتاحون إليها.
ولكن يكمن المأزق لدى سيكولجية الجماهير في حالة الفراغ والإحباط واليأس التي تعيشها حيث تفقد القدرة على المبادرة الفردية وتنتفي الثقة في نجاعة المؤسسات الوطنية في قيادة المجتمع نحو الأفضل، فتتحول إلى البحث عن زعامة كاريزمية تبني عليها انتظاراتها وتضع مصيرها بين يديها في عملية تفويض تنبع أساسًا من الشعور بالضعف والضياع.
يكمن المأزق لدى سيكولجية الجماهير في حالة الفراغ والإحباط واليأس التي تعيشها حيث تفقد القدرة على المبادرة الفردية وتنتفي الثقة في نجاعة المؤسسات الوطنية في قيادة المجتمع نحو الأفضل
اللّافت كذلك، أن الاختيار الجماعي والتوافق الشامل على دور الزعيم الأوحد يقودنا في النهاية إلى ماهو خطير ونحن نستذكر الملاحظة الخاصة بعلم نفس الجماهير بأن الظواهر اللاوعية تتجاوز دورها الحاسم في الحياة الفيزيولوجية والعضوية، وتتعدّاه إلى طريقة اشتغال الذهن وآليّة العقل وهو ما يبرهن أن "الحياة اللاوعية البشرية لا تشكل الّا جزءًا ضعيفًا جدًا بالقياس الى حياتها اللاوعية". وهو ما يعني أن القرار سيكون دائما بناء على نوازع نفسية خالية من مبدئية التقرير العقلاني والمنطقي هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن ظاهرة سيكولوجيا الجمهور التي تتعارض مع السيكولوجيا الاجتماعية، تمتاز بأنها تتشكل من أفراد مختلفي التوجهات والانتماءات تجمعهم المصلحة، وهي بعيدة كل البعد عن التجانس والتوافق حول الأفكار. فنقطة التمايز هنا تكمن في الطابع الانطباعي وسيطرة الغريزة واللاوعي على الظاهرة السيكولوجية الجماهيرية، المفتقدة للتماسك والعقلانية والمتماهية بالمقابل بالشخصية الزعامية أي "الأنا" بـ"الهو".
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية حوار بورقيبة 2019: "الزعيم" هنا ليجيب عن أسئلة لا تموت
وبخصوص تماهي الجمهور مع الزعيم الكاريزمي، يرجع الباحث العراقي ثامر عباس في كتابه "تقديس الزعامة" هذه العملية الى ثلاثة أسباب رئيسية: الأول يعتبره موضوعيًا ويتمثل في طبيعة السلطة السياسية ذاتها باعتبارها تمثل مصدرًا لا يشح من الهيبة ومنبعًا لا ينضب من السحر، الثاني وهو ذاتي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنمط الزعامة الكاريزمية من حيث كونها أداة تلك السلطة وتجسيدها الإرادي في آن واحد، ويضيف أن الأمر مقترن بالخاصية السيكولوجية للجمهور المدجن على اعتبار أنه المحرك الرئيسي لشحن تلك الهيبة بالطاقة والسحر.
رغم أن الأمر كان يقدم سابقًا في إطار احتمالات تفسيرية لمكانة صاحب السلطة في وعي الرعية إلّا أن الأمر يبدو اليوم واضحًا من خلال الأثر الرمزي والمعنوي الذي يتشكل حيال رجال السياسة والواقع أننا نشهد صعود الرئيس إلى مكانة شبه إلهية لدى سيكولوجية الجمهور بكل ما في ذلك من قداسة وتبجيل وتنزيه. ومردّ ذلك بالأساس إلى قيمة السلطة في المجتمعات التقليدية والتي لازالت تراها أشخاصًا لا مؤسسات وقوانين مهما تكن الخطوات التي أخذتها في سبيل تحقيق ذلك.
نرى مشهدية الزعيم ومظاهر تقديس القادة تنتشر في المجتمعات التي تعاني حالة اغتراب وتعيش على حالة السيكولوجية الجماهيرية بكل ما تتسم به من عادات التواكل والتبعية للغير مهما كان
وعلى هذا الأساس، فإن الظاهرة الكاريزمية ليست متغلغلة فقط في أعماق الأنثروبولوجيا وصيرورتها فقط بل هي "مقترنة بتأزم الأوضاع السياسية وتفاقم الشروخات الاجتماعية وتراكم الاحتقانات النفسية" مثلما يؤكد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. حيث أنها لا تخضع في تشكلها وتبلورها لإلى اللإرث الشعبي الديني والفلكلوري فحسب، بل تبقى كل هذه الترسبات حاضرة في الذهنية الجمعية، على نحو يقود "الإنسان المسحوق" إلى الاستقالة من التفكير في الأسباب الحقيقية والفعلية للانتكاسة السياسية والاجتماعية أوالاقتصادية والنفسية بحيث تضع له الخلاص من مأزقه ذاك سواء بالتذرع للقوى الغيبية أي العناية الالهية أو اقناعه بأن الإصلاح بيد البطل المنقذ والزعيم الأوحد أو القائد الناجح.
ولذلك، فنحن نرى مشهدية الزعيم ومظاهر تقديس القادة تنتشر في المجتمعات التي تعاني حالة اغتراب وتعيش على حالة السيكولوجية الجماهيرية بكل ما تتسم به من عادات التواكل والتبعية للغير مهما كان، حيث تعيش حالة "نكوص طفولية" بأن تظل دائمة البحث عن الوصاية والتبعية والاتكاء على الآخر في تحقيق احتياجاتها وضمان بقائها على نحو يُقاد فيه الجمع إلى البحث عن قائد مهيمن في صورة الأب المنقذ يخرجهم من المحنة ويأخذهم الى بر الأمان.
أمام الشعور بالحرمان وتواصل حالة التخبط والقلق، يحصل انخلاع مزمن في علاقة الكتلة السيكولوجية بهويتها الجمعية ما يضعنا أمام حتمية انقطاع علاقتها بالمنظومة الرمزية الى درجة يتزلزل معها كيانها الذاتي ويتزعزع أناها الجمعي حيث تكمن الهنة في بنية الوعي الجمعي الذي لا يتحلى بالتماسك والصلابة اللازمتين تجاه التحولات المفاجئة والعميقة ما يجعل من السيكولوجية الاجتماعية في هذه الحالة قاصرة على امتصاص الصدمات ومتراجعة لصالح السيكولوجية الجماهيرية التي يتحكم فيها رد الفعل السلبي تجاه كل ماهو طارئ وغير بريء.
اقرأ/ي أيضًا: