09-سبتمبر-2022
العولة

"تاريخ العولة ضارب في القدم، حيث كانت أسلوبًا لمواجهة القحط والندرة والجفاف" (رياض كرامدي/أ.ف.ب)

 

"الحمد لله يكثّر خير بَْيتتنا".. كانت جدتي تنطق بهذه الكلمات كلّما انتهينا من تناول الطعام، وهي كلمات تعبّر بها عن امتنانها لما تجود به دارُنا علينا، وتعود لزمن كانت تحتوي فيه أغلب الديار على غرفة تسمى "بيت المؤونة أو الخزن"، تُخزّن فيها مؤونة السنة أو كما تعرف في تونس "العولة". وكنت رغم صغر سني ٱنذاك أعي جيّدًا أن جدتي كانت تحرص على تجميع مؤونة السنة من حبوب وكسكسي ومحمص وبسيسة وشربة وتوابل وغيرها.

وأتذكر جيدًا كيف كانت تتجمّع نسوة العائلة في يوم العولة للمساعدة ويتنقلن من بيت إلى آخر طيلة فصل الصيف، يحملن معهن عدة تحضير عولة الكسكسي والمحمص، وكيف كنا نزغرد وَسط خابية الكسكس (جرة كبيرة من الفخار معدة للتخزين) عند استعمال آخر حبّة كسكس واحتفالاً بإعادة ملئها، كانت جدتي أيضاً تقوم بتقطير ماء الزهر والعطرشاء والورد في فصل الربيع لاستعمالهم كدواء ولصنع الحلويات المنزلية، وتقوم بتخزين زيت الزيتون والزيتون في فصل الخريف.

 

 

كما أتذكر بيت المؤونة بضوئها الخافت ورحى القمح ذات الحجرين بجانب الحائط، تتوسطها "شكوة" اللبن التي مازال صدى صوتها يرن في أذني على الرغم من مرور السّنين، جدتي كانت أيضاً عند نزول المطر تضع حاويات معدة لجمع ماء المطر وإعادة استعماله في تنظيف الدار أو غسل الملابس.

في بيت جدتي كذلك لم نكن نشتري الخضر أو الغلال أو اللحم أو الحليب إلاّ نادرًا، كنا نأكل مما تزرع وكان قنّ الدجاج وزريبة الغنم محاذيان للبيت، لم نكن في حاجة لاقتناء أي شيء فكل شيء متوفر بوفرة، على عكس ما نعانيه اليوم من ندرة في جلّ المواد الغذائية، وظل منزل الجدة في ذهني صورة تقريبية أو مصغّرة لما يوصف "بالجنة فوق الأرض".

"العولة هي مظهر من مظاهر تأقلم الإنسان مع محيطه الطبيعي ونظامه الاقتصادي الذّي كان يُعرف بالأساس بنظام الاكتفاء الذّاتي"

وأجزم أن جدتي لم تعرف يومًا معنى اتباع أسلوب حياة إيكولوجي صديق للبيئة ولا معنى انتهاء زمن الوفرة الذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي ماكرون ولا تغير المناخ وما يحمله من انعكاسات، كلّ ما وصفته كان يعود في اعتقادها بدرجة أولى للعادات التي دأبت العائلة التونسية على اتباعها طيلة قرون لتوفير قوت يومها وإغلاق الباب أمام الحاجة والجوع.

في بيتنا دأبت أمي على النسج على منوال جدتي بتحضير عولة الكسكس والمحمص والدشيش، أشياء تزيد أو تنقص حسب الحاجة وحسب ما يسمح به نمط العيش في المدينة، لكن جائحة كورونا وما تسببت فيه من نقص مفاجئ وغير متوقع في كثير من المواد الغذائية أثبت هشاشة نظام حياتنا بالكامل، تلتها الأزمة الاقتصادية والتي حولت النقص الحاصل إلى ندرة وانقطاع لكثير من المواد، أحيا في عقلي سؤال: هل يمكن أن تكون العودة إلى الأصل (العولة) الحل أمام خطر انتهاء الوفرة والجوع الذي يتهددنا؟ و هو ما سنحاول الإجابة عنه في هذا التقرير بالاعتماد على مختصين.

  • العولة في تونس

تعرّف الباحثة في التاريخ أميمة الثابتي "العولة بأنها كلّ مخزون غذائي ذاتي تقوم به العائلة كتقليد ثقافي اقتصادي بشكل متواتر خلال مناسبات مُحدّدة مرتبطة بفصول السنة والتحولات المناخيّة أو نوعيّة المنتج وجني المحصول النّهائي".

باحثة في التاريخ لـ"الترا تونس": كان التخزين تقليدًا يَقِي العائلة من الحاجة للآخرين أو لشراء الغذاء من عائلات أخرى أو القبائل الأخرى، وهو أيضًا تقليدٌ يحول دون الجوع في زمن الجفاف

وتضيف في تصريحها لـ"الترا تونس"، "العولة هي مظهر من مظاهر تأقلم الإنسان مع محيطه الطبيعي ونظامه الاقتصادي الذّي كان يُعرف بالأساس بنظام الاكتفاء الذّاتي، فكل عائلة أو قبيلة يجب أن توفّر المخزون الغذائي لكي تُبعد عنها شبح الحاجة، وفي زمن ما قبل الثورة الصناعية واللجوء لتصنيع وتعليب المواد الغذائية وبدأ عصر الاستهلاك العصري والاعتماد الكلّي على الأسواق والمحلات التجارية الكبرى، كان التخزين تقليدًا يَقِي العائلة من الحاجة للآخرين أو لشراء الغذاء من عائلات أخرى (في الحاضرة تونس) أو القبائل الأخرى (في بقية المناطق الداخلية) وهو الذّي لم يكن دارجًا آنذاك، وهو أيضًا تقليدٌ يحول دون الجوع في زمن الجفاف".

تتنوّع طرق التّخزين وتختلف من منطقة إلى أخرى، تابعت الباحثة في التاريخ حديثها لنا، ولئن تُعتبر العولة عادةً لسكان شمال البلاد أكثر من جنوبه إلاّ أنّها تنتشر في أغلب مناطقها. وواصلت الثابتي ما يُعمّم هو تخزين الحبوب والشعير وتحويلهما إلى كسكسي، شربة، دشيش، محمّص، حلالم، برغل..  وما يخصّ الوطن القبلي هو الفلفل الذّي يتم حرقه وعجنه في مناسبات مُستحقّة أو الطماطم التّي تُحفظ مجفّفة وماء العطرشيّة والنّسري والورد والزهر الذّي يتم تقطيره، أما على امتداد السّاحل والحاضرة فالمخلالات (الطرشي) والصابون وخاصةً زيت الزيتون (طوال الشريط الساحلي إلى حدود جربة وجرجيس)، ويعرف الجنوب الغربي بتخزين التمر/الدڤلة، والجنوب الشرقي بالشريح/ التّين المجفّف، البسيسة والعدس والشعير.

باحثة في التاريخ لـ"الترا تونس": تتنوّع طرق التخزين وتختلف من منطقة إلى أخرى ولئن تُعتبر العولة عادةً لسكان شمال البلاد أكثر من جنوبه إلاّ أنّها تنتشر في أغلب مناطقها

وأوضحت الثابتي في حديثها لـ"الترا تونس"، يتم الحفاظ على هذه المواد الغدائيّة إما بسحب الماء منها عندما تظلّ عرضةً للشمس، كالطماطم والقدّيد والشريح والمشمش المجفف والزبيب، أو بإبعادها عن حرارة الشمس كالزيت، ويتم تخزين هذه المواد في بيت مخصصة تسمى "بيت الخزين"، كانت عادةً ما تُبنى حول القلال الفخارية والخوابي (جمع خابية) الكبيرة، مثلما هو الحال في جربة، حيث يكون باب بيت الخزين/المخزن صغير الحجم خلافًا للأواني الفخّارية الكبيرة التّي تحفظ زيت الزيتون.

 

 

  • كيف هجرت عادة العولة؟

العولة بشكل عام هي تخزين المنتجات الزراعية من فصل إنتاجها الوفير وادخارها للفصول الأخرى، هكذا عرّف الباحث والمتخصص في الثقافة الأمازيغية وتاريخ الذهنيات في المنطقة المغاربية يوسف بن موسى، العولة، وأضاف بن موسى في تصريحه لـ"الترا تونس" "نجد عولة الحبوب وهي أشهر الأشكال وعولة التمر والزيت وعولة الكرموس (التين) والهندي  (التين الشوكي) والطماطم والفلفل، بطبيعة الحال هناك منتجات تخزّن دون طقوس ومراحل مثل الزيت وأخرى كالقمح والتين والطماطم والفلفل تحتاج تدخلًا وعملاً بشريًّا وترافقها طقوس كاملة، احتفالات وأغان وحركات رمزية وعقائد.

باحث في الثقافة الأمازيغية لـ"الترا تونس": هناك منتجات تخزّن دون طقوس ومراحل مثل الزيت وأخرى كالقمح والتين والطماطم والفلفل تحتاج تدخلًا وعملاً بشريًّا وترافقها طقوس كاملة، احتفالات وأغان وحركات رمزية وعقائد

ونبّه بن موسى في حديثه لنا "جائحة كورونا وحرب أوكرانيا أثبتتا أهمية العولة وضرورة العودة للتقليد القديم، متابعًا هُجرت عادة العولة أولاً بسبب تغيّر نمط الإنتاج وهيمنة التقسيم العالمي للعمل وتحوّل المُجتمع التونسي من الرّيف إلى المدينة وتفاقم النزوح، عندما كفّ المجتمع عن كونه مجتمعًا قَرويّا وكفّ الاقتصاد عن كونه اقتصادًا زراعيًا معاشيًّا وصارت العائلة التونسية تفضّل أن تسكن المدن وأن يكون نشاطها في إطار الوظيفة، نزحت العائلات من الريف ولم تعد تمارس النشاط الزراعي، ومن ثمة انهارت الممارسات والعادات الغذائية المرتبطة بالزراعة، اليوم نادرًا ما نجد امرأة لديها 20 كيلوغرامًا عولة كسكسي ومثلها محمّص ومثلها مخضور ومثلها شربة فريك أو 5 كيلوغرامات طماطم مجففة أو كيلوغرام بصل "محروق" وويبتين بسيسة.. الخ.

وأضاف بن موسى "خيارات الدولة الاقتصادية مطلع السبعينيات جعلت المجتمع يهجر الزراعة لصالح الصناعة والخدمات بدرجة أكبر وصار نموذج النجاح المهيمن على العقلية التونسية هو الموظف العمومي القاطن في المدينة والمراهن على التعليم كوسيلة في الترقّي الاجتماعي ما تسبب في تراجع الزراعة وبذلك تراجعت الثقافة المتعلقة بها، وسادت ثقافة المدن، 50 غرام طماطم معلبة وخبزتين ورطل مقرونة من عند العطار، صار التعويل على الصناعة يعني شراء كيلوغرام كسكسي بـ820م أسهل بكثير من شراء كيلوغرام من القمح ورحيه وغربلته وتعويله.

باحث في الثقافة الأمازيغية لـ"الترا تونس": هُجرت عادة العولة بسبب تغيّر نمط الإنتاج وهيمنة التقسيم العالمي للعمل وتحوّل المُجتمع التونسي من الرّيف إلى المدينة وتفاقم النزوح

واستطرد يوسف بن موسى "يمكن أن تفوق تكلفة العولة 500د في السنة لكن من مزاياها أن العائلة لا تفقد أي مادة مثل ما هو الحال اليوم، وتتمكن العائلة من تخزين عولة البسيسة والكسكسي والدشيشة والمحمص ودقيق الخبز والملثوث والشربة، يمكن استغلال موسم الوفرة في شهري جوان/يونيو وجويلية/يوليو لاقتناء عولة السنة".

 

 

  • "ميكانيزم" اقتصادي لتعديل السوق

يقول الباحث في الأنثروبولوجيا يوسف بن موسى إن العولة "ميكانيزم" اقتصادي يعدّل السوق ويوازن بين وفرة الإنتاج في الموسم وقلته في غير الموسم، في أوجه ما كانت هذه مهمة ديوان الزيت وديوان الحبوب الخ، أي اقتناء المنتجات بأسعار بخسة زمن الوفرة وتخزينها، ثم تزويد السوق بها عند الحاجة فتُعدّل الأسعار ويُضمن التّزود، وهي نفس آلية العولة التي اعتمدها أجدادنا.

وحول كيفية استعادتها كعادة لمواجهة خطر الحاجة وحتى الجوع أمام الصعوبات التي تجدها الدولة في تزويد السوق بالمواد الغذائية والأساسية، يضيف بن موسى، "تأتي استعادة آلية العولة في إطار تغيير منوال التنمية وتشجيع الشباب للعودة إلى الزراعة والسكن في الأرياف للحد من النزوح والجريمة والبطالة والاكتظاظ في النقل والصحة والتعليم، مقابل إغلاق مستوصفات ومدارس في بعض القرى جراء خُلوّها".

باحث في الأنثروبولوجيا لـ"الترا تونس": "يجب نشر ثقافة العولة وتحفيز الناس لفتح محلات لبيع العولة في إطار الاقتصاد التضامني، وإقامة مهرجانات موسمية في مناطق الإنتاج"

ويتابع "يجب نشر ثقافة العولة وتحفيز الناس لفتح محلات لبيع العولة في إطار الاقتصاد التضامني، وإقامة مهرجانات موسمية في مناطق الإنتاج كمهرجان باجة لعولة الحبوب، ومهرجان قبلي لعولة التمر، ومهرجان القيروان لعولة الفلفل ومهرجان القصرين لعولة الطماطم، يجب كذلك إبقاؤها في إطار الاقتصاد التضامني ولا تتحول إلى مصانع لبارونات رؤوس الأموال، بالإضافة إلى فوائد العولة البيولوجية كونها غير معلبة ولا تحتوي على مواد حافظة".

وأشار الباحث في الأنثروبولوجيا في حديثه لـ"الترا تونس" إلى أن "تاريخ العولة ضارب في القدم، حيث كانت أسلوبًا لمواجهة القحط والندرة والجفاف، للعولة أيضاً طقوس ترافقها كالغناء والحديث والاجتماع في حلقة وطهي أكلات معينة والبسملة قبل مباشرة العمل وعدم استعمال اليد اليسرى في بعض الأحيان، العولة تنبني على قانون التويزة والتويزة هي الرغاطة وهي اجتماع نساء القبيلة للعمل الجماعي المجاني كل يوم عند واحدة سواء للقيام بشغل الصوف أو العولة أو صناعة الرُبّ أو البسيسة أو للحرث أو الحصاد أو جمع الزيتون أو جزّ الأغنام، التويزة ميكانيزم جبار يظاهي الاقتصاد التضامني، بلاد المغرب بنيت على التويزة.. حضارة الأمازيغ كلها كذلك".

رغم التطور الذي شهدته العائلة التونسية في تركيبتها ونمط عيشها، إلا أن عدة عوامل تؤكد ضرورة العودة إلى الأصل وعدم القطع مع العادات لأنها سُنّت لحكمة، لكن هل مازال بإمكاننا العودة إلى تلك التقاليد أم أننا خسرنا "أصحاب السرّ" في العولة والتخزين؟.