26-يناير-2020

تتعدّد الأمثال الشعبية في تونس حول التقويم الفلاحي (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

كانت تجمع عديد الجدات في تونس أحفادها من حولها في ليالي الشتاء حول موقد من طين تلتهب ناره من أغصان الزيتون اليابسة وتمضي في رواية "أبواب السنة" لتحكي عن "الليالي البيض" و"الليالي السود"، وعن "القرّة"، التي كانت تُعرف بشدّة البرد، وأضيفت لها العنز فصارت "قرة العنز"، وتحدثهم أيضًا عن "أوسّو" في فصل الصيف و"غرة القيلولة" وهو اليوم القائض الذي يحرق الأخضر واليابس.

كان يعرف الأحفاد تواريخ السنة بمواسم الفلاحة، مواسم الزيتون والقمح بالخصوص، في مجتمع فلاحي، بعد اكتساب الجدات الأمثال والحكم من ثقافة المكان والإحساس بالزمن لتخاطب أحفادها بلغة الفلاحين وأصول المزارعين، لتنشأ في صفوفهم ثقافة استقراء أحوال الطقس والتقلبات الجويّة بما يوافق الدورة النباتية.

التقويم الفلاحي ضارب في الزمن متأصل في الثقافة المحلية التونسية المتعلقة بالأرض، ونطالع هذا التقويم في الروزنامة السنوية المعلّقة على جدار بيوت التونسيين أو ما نطلق عليه "اليومية العربي"

والتقويم الفلاحي ضارب في الزمن متأصل في الثقافة المحلية التونسية المشتدّة إلى الأرض، ونطالع هذا التقويم في الروزنامة السنوية المعلّقة على جدار بيوت التونسيين أو ما نطلق عليه "اليومية العربي" التي تحدد تواريخ التقويم الفلاحي.

وهذا النوع من التقويم أو ما يطلق عليه بـ"أبواب السنة" هو تقويم زراعي مبنيّ على التقويم القمري و هو عبارة عن استقراء لحالة الطقس لا يخضع للقاعدة العلمية نفسها التي يعتمدها علماء المناخ، وإنما هو نتيجة لتجارب متراكمة للفلاحين منذ زمن قديم في بلدان شمال إفريقيا، تحديدًا تونس والمغرب والجزائر حيث تتشابه الظروف المناخية ونوعية المحاصيل الزراعية، كما تشتبك ثقافتها العربية والأمازيغية.

واقترن التقويم الفلاحي بالأمازيغ ونقل التراث الشفويّ لنا العديد من الأمثال المتشابهة في هذه الأوطان، كما وقع تناقل هذه الأمثال من قبائل إلى أخرى حتى صارت إلينا اليوم على ماهي عليه وترسخت في المخيال الشعبي على مرّ الأجيال.

اقرأ/ي أيضًا: شجرة الزيتونة.. عن عادات تونسية أصيلة من الجني إلى "بيت العولة"

تواريخ التقويم الفلاحي

ينطلق التقويم الفلاحي بـ"الليالي البيض" التي تمتد 19 يومًا من 25 ديسمبر/كانون الأول إلى 13 جانفي/كانون الثاني، وهي تتميّز بشدة البرودة ليلًا ونزول الصقيع وسميت بـ"البيض" لقلة الغيوم والسحب، وهي تكون في النهار دافئة نسبيًا.

أما "الليالي السود"، فهي تمتد لـ20 يومًا تنطلق من 14 جانفي/كانون الثاني، وهو اليوم الموافق لرأس السنة الأمازيغية وتنتهي بتاريخ 2 فيفري/شباط، وتاريخ دخولها هو التاريخ الذي يفصل بين زمنين زمن البرودة وزمن الاعتدال. وتتميز هذه الليالي بكثرة الغيوم والسحب ممّا يجعل الطقس باردًا في النهار ودافئًا أثناء الليل.

وتنمو خلال هذه الفترة المزروعات بعد فترة سبات خلال الليالي البيض، ويضرب الفلاحون مثلًا بقولهم "الليالي السود يخضار فيهم كل عود"، وتنقل الذاكرة الشعبية مثلًا آخر الزرع يقول "يا رب العالي غذّيني بمطرة بعد فسوخ الليالي"، و قيل في هذه الليالي أيضًا "إذا تكلّم السّحاب في اللّيالي سجّل اللوح والمداري ووين تحطّ رزقك يحالي"، ذلك أنه مع دخول هذه الليالي تصبح التربة صالحة للبذر ليباشر الفلاحون أعمالهم.

تنمو خلال فترة "الليالي السود" المزروعات بعد فترة سبات خلال الليالي البيض ويضرب الفلاحون مثلًا بقولهم "الليالي السود يخضار فيهم كل عود"

ولاحقًا تأتي "العزارة" التي تمتد من 3 إلى 13 فيفري/شباط وتدوم 10 أيام يمتاز الطقس خلالها بالتقلّب، فتارة يكون صحوًا وتارة أخرى يكون باردًا وممطرًا، ويردد الفلاحون في هذا الموسم مثلًا يقول "إذا رعّدت في العزارة هي حشيش وإلا قمارة".

ثم تمتد "قرة العنز" من 14 إلى 19 فيفري/شباط ويتميّز الطقس بشدة البرودة بما يؤثر على الدواب والماشية ويخسر الفلاحون أحيانًا العديد منها، فهي فترة قاسية على العنز، وهنا تروى الأسطورة أن العنز خرجت ترقص فرحًا بخروج شهر جانفي/ يناير قائلة "يناير نار على نار، لا تغرد فيه أطيار ولا جار يطل على جار" فرد عليها يناير قائلًا "نتسلف نهار من فورار نخلي قرونك يلعبوا بيها الصغار في ساحة الدوار". ويذكر مثل أمازيغي في "قرة العنز" أن "شهر فبراير يخلي شعر المعز يتطاير على كل ظهاير".

اقرأ/ي أيضًا: من "الشتيوي" إلى "البركة".. فلاح عصامي يقود معركة حماية البذور التونسية

لاحقًا، يأتي "نزول جمرة الهواء" من 20 إلى 26 فيفري/شباط إذ يصبح الهواء دافئًا تدريجيًا ويتلاشى الهواء البارد، وتنزل، في هذه الفترة، أول الجمرات ويتلوها "نزول جمرة الماء" بتاريخ 27 من نفس الشهر، إذ تصبح مياه البحر والأودية دافئة، وذلك قبل انطلاق فترة "نزول جمرة التراب" مباشرة بعد دخول فصل الربيع حيث تدفأ الأرض بصفة تدريجية وهي فترة تبدأ بتاريخ 6 مارس/آذار وتدوم أربعة أيام. والملاحظ أن الجمرات الثلاث تضم عناصر الحياة، الهواء والماء والتراب، ولها دلالات الخلق والكونية مرتبطة بالتقويم الفلاحي المرتبط عضويًا بالتقويم القمري.

وفي فترة موالية، تأتي "الحسوم" التي تنطلق من 10 الى 17 مارس/آذار، وهذه الفترة تتميز بكثرة هبوب الرياح وهي الفترة التي تتلاقح فيها الأشجار ومختلف النباتات وهي فترة اعتدال الربيع، والمثل يقول "في الحسوم نحي دبشك وعوم وزيد أربعين يوم".

نقلت الذاكرة الشفوية التونسية أمثالًا عديدة عن شهر مارس في علاقة بالإنتاج الفلاحي منها "الزرع في مارس يقول للمطر كلّ يوم ياسر ونهار بعد نهار شويّة" 

وقد نقلت لنا الذاكرة الشفوية التونسية أمثالًا عديدة عن شهر مارس في علاقة بالإنتاج الفلاحي منها "إذا طبّ مارس نقّي قمحك وهارص تلقى فيه عظم الحجل والزرارص"، كما قيل "الزرع في مارس يقول للمطر كلّ يوم ياسر (كثير) ونهار بعد نهار شويّة (قليل)" بمعنى أن الزرع يحتاج أمطارًا متفرقة غير غزيرة، إضافة للمثل الشعبي الشهير "مطر مارس ذهب خالص" في إشارة لمدى نفعها.

أما "أوسّو"، فهي فترة صيفية تتميّز بارتفاع شديد لدرجات الحرارة وتأتي حوالي 15 يوماً انطلاقًا من يوم 25 جويلية/يوليو من كل سنة، وتحمل هذه الفترة تحمل مؤشرات فلاحية لاقترانها بفترات الحصاد، ويقول المثل الشعبي "في أوسّو احصد زرعك ولو يكون فليّو (النعناع البرّي أو الأوروبي)"، وقيل أيضًا "يوم أوسّو إذا كانت النمالة تخرّج الخزين نهارها يدلّ على رخص الأسعار وكثرت الصابة وإذا دخّلت لغارها يدلّ على الغلاء وقلة الصابة".

وتمر بفصل الصيف قبل "أوسّو" فترات حارة جدًا تسمّى "وغرة"، والوغرات تكون شديدة الحرارة بين كل "وغرة" وأخرى 18 يومًا، وسميّت بمسميات عدة نذكر منها "الثريا"، و"العصيّة"، و"عيوق" و"المرزم".

استشراف للمناخ عبر الزمن

وهذه تواريخ التقويم الفلاحي انتقلت إلينا عبر الأجداد ومما بلغنا من ذاكرتنا الشعبية الشفوية في عديد الجهات التونسية. ولكن بالتعمق في هذا المبحث، نجد تقاربًا شديدًا في معظم بلدان المغرب العربي وقد امتزج الواقع بالخيال في إنتاج الأمثال الشعبية وانتشار الأساطير الخيالية التي ترسخ مخيالًا شعبًيا عابرًا للزمن، وكأن التقويم الفلاحي يبحث عن الوحدة الفلاحيّة الجامعة لتصير قاعدة ثابتة قد تتوافق مع المباحث العلمية ونتائجها.

يعوّل التقويم الفلاحي على جمع قواعد استشرافية لما ستكون عليه السنة الزراعية ونذكر من ذلك القول الشعبي "العام المبروك أرّاح تورّيك خصايلو في الليل تصبّ النوّ (المطر) وفي النهار تحمى القايلة"

ويذهب الباحث الفرنسي جون سارفي أن التقويم الفلاحي الأمازيغي ينطلق من طقوس مرافقة وتتجسد في أربعة أفكار رئيسية وهي "القضاء على الجوع، والتنبؤ بالعام القادم، وتعاقب دورات الطبيعة واستقبال القوى الخفيّة على الأرض". ولكن العالم الأندلسي محمد بن أحمد العوّام الإشبيلي لم يشر في "كتاب الفلاحة" (القرن 12) إلى ارتباط هذا التقويم بأي عرق سواء الأمازيغي أو العربي أو الإفريقي أو الأندلسي.

ويمكن القول إن التقويم الفلاحي يعوّل على جمع قواعد استشرافية لما ستكون عليه السنة الزراعية، ونذكر من ذلك أقوالًا شعبية مثل "العام المبروك أرّاح تورّيك خصايلو في الليل تصبّ النوّ (المطر) وفي النهار تحمى القايلة"، أو "سنين الخير ليهم دلايل في الليل مطر وفي النهار تحمى القايلة"، وكذلك المثل القائل "العام باين من خريفو"، و"عام الضباب أحرث وهاب (احترس) وعام الجليد احرث وزيد".

ويزخر التراث الشفوي في تونس إجمالًا بعدة أمثال وأشعار وأغاني تؤصل لعلم المناخ والفلاحة على غرار الحوار المتخيّل بين الفصول والأشهر في شكل يوحي بالقدرة الربانيّة لتحقيق الدورة المناخية الطبيعية لجلب الخير على النبات والإنسان، وجاء الحوار: "قال الشتاء هاني جيتك يا مارس البوّال (الممطر) أما بلّها وإلا علّها، وقال مارس لأفريل هاني جيتك يا أفريل يا بخيل، فقالوا أفريل: أنا نطلّع السبولة (السنبلة) من قاع البير".

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصص الزيتون في تونس.. قدم التاريخ وبركة الجغرافيا

النبيذ التونسي.. رسالة "ماغون" إلى العالم