تنتظم الانتخابات الرئاسية 2024 المحدّد موعدها بتاريخ 6 أكتوبر/تشرين الأول المقبل في سياق مغاير للانتخابات التي عرفتها تونس عاميْ 2014 و2019، وذلك باعتبارها الأولى منذ إعلان التدابير الاستثنائية عام 2021 التي حوّلت البلاد تدريجيًا إلى نظام غير ديمقراطي تتزايد مؤشرات الممارسات السلطوية داخله.
تصاعدت الشكوك حول نزاهة العملية الانتخابية خاصة فيما يتعلّق بضمانات التنافسية والمساواة بين المرشحين، على نحو جعل النقاش حول المشاركة أو المقاطعة موضع نقاش تطارحه جلّ الفاعلين السياسيين والمدنيين
وتباعًا، تصاعدت الشكوك حول نزاهة العملية الانتخابية خاصة فيما يتعلّق بضمانات التنافسية والمساواة بين المرشحين، على نحو جعل النقاش حول المشاركة أو المقاطعة موضع نقاش تطارحه جلّ الفاعلين السياسيين والمدنيين، الأمر الذي يكن مطروحًا في جميع الانتخابات بعد الثورة.
-
تحذير الهيئة من التتبعات القضائية.. تضييق على حرية التعبير؟
"ستحرص هيئة الانتخابات على إنفاذ القانون على كل المظاهر المخلة بسلامة المسار الانتخابي، بهدف التصدي لكل الخطابات التي تتضمن الدعوة الى العنف والكراهية والتعصب والتمييز، أو تضليل الناخبين ونشر الأخبار والإشاعات الكاذبة، أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالهيئة الانتخابية أو بالغير، أو تشويه السمعة أو النيل من العرض أو الكرامة أو الشرف". هذا المقتطف الرئيسي من البلاغ الذي أصدرته الهيئة يوم الأحد 14 جويلية/يوليو 2024، وهو تاريخ انطلاق الفترة الانتخابية الذي يجعل الهيئة تتمتّع بـ"الولاية العامة على الشأن الانتخابي".
بلاغ هيئة الانتخابات حول انطلاق الفترة الانتخابية حمل صبغة تهديدية وزاد من مخاوف تقييد حرية الرأي والتعبير عن الموقف من المسار الانتخابي بوجه عامّ وسلوك هيئة الانتخابات بوجه خاصّ
هذا البلاغ الذي حمل صبغة تهديدية زاد من مخاوف تقييد حرية الرأي والتعبير عن الموقف من المسار الانتخابي بوجه عامّ وسلوك هيئة الانتخابات بوجه خاصّ، خاصة أخذًا بعين الاعتبار للشكايات الجزائية التي سبق أن أودعتها الهيئة ضد عدد من الشخصيات السياسية على خلفية مواقفها من الاستفتاء على الدستور عام 2022 والانتخابات التشريعية المبكرة نهاية نفس العام.
شكايات أدت لصدور أحكام سجنية نافذة على غرار حالة الناشط السياسي وأستاذ القانون الدستوري الموقوف جوهر بن مبارك، الذي أدى تصريح تلفزي سابق له بأن الانتخابات التشريعية هي "محطة انتخابية مهزلة" إلى صدور حكم ابتدائي بسجنه لمدة 6 أشهر تم تخفيضه استئنافيًا بشهر واحد. وقد شملت الشكايات من أعلن لاحقًا نيّته خوض الانتخابات الرئاسية 2024 على غرار رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي المودعة بالسجن على ذمة عدد من القضايا المثارة ضدها.
بيان هيئة الانتخابات الذي حذّر من "التشهير بالهيئة الانتخابية" جعل النقاش حول استقلاليتها وحيادها مغامرة تفتح الباب لتتبعات جزائية.. هذا المناخ يزيد في إكساء أجواء انغلاقية ودافعة لتقييد تعددية الآراء في متابعة الشأن الانتخابي
وقد تأسست الشكايات على عدد من النصوص القانونية بينهما المرسوم 54 الذي تجمع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية إلى أنه تحوّل إلى عصا لتتبّع المخالفين للسلطة السياسية، والذي تصل العقوبة بشأنه للسجن لمدة 10 سنوات إن كان المستهدف من "الأخبار الزائفة أو الإشاعات" موظفًا عموميًا أو شبهه.
بيان هيئة الانتخابات الذي حذّر من "التشهير بالهيئة الانتخابية" على سبيل المثال، جعل النقاش حول استقلالية هيئة الانتخابات وحيادها، بالنظر إلى أنه تم تعيين أعضائها من قبل السلطة التنفيذية، مغامرة تفتح الباب لتتبعات جزائية تؤدي لاحقًا لإصدار أحكام سجنية. هذا المناخ يزيد في إكساء أجواء انغلاقية ودافعة لتقييد تعددية الآراء في متابعة الشأن الانتخابي وتغطيته.
-
الهيئة تتفرّد بقواعد تنظيم وسائل الإعلام في غياب "الهايكا"
في هذا السياق، باتت هيئة الانتخابات تتفرّد بتنظيم القواعد والشروط التي يتعيّن على وسائل الإعلام التقيّد بها خلال الحملة الانتخابية في ظلّ واقع تجميد عمل الهيئة الوقتية للاتصال السمعي البصري (الهايكا) بعد عدم تعويض رئيسها وأعضائها.
وكانت "الهايكا" قد انتقدت، في الانتخابات التشريعية عام 2022، ما اعتبرته تجاوز هيئة الانتخابات لصلاحياتها على نحو يمسّ من استقلالية العمل الصحفي. وقبلها كان قد سحب المرسوم عدد 8 لسنة 2023 من "الهايكا" إعداد القرار المشترك مع هيئة الانتخابات المتعلق بتنظيم مراقبة وسائل الاعلام والتنسيق بشكل عام بينهما. خلافٌ مؤسساتي بين هيئتين تم حسمه بفراغ مؤسساتي في هيئة الاتصال السمعي والبصري على نحو مدّد بالتبعية من نفوذ هيئة الانتخابات.
باتت هيئة الانتخابات تتفرّد بتنظيم القواعد والشروط التي يتعيّن على وسائل الإعلام التقيّد بها خلال الحملة الانتخابية في ظلّ واقع تجميد عمل الهايكا بعد عدم تعويض رئيسها وأعضائها
ففي القرار الترتيبي الصادر بتاريخ 17 جويلية/يوليو 2024، أضافت الهيئة مطّة سابعة للفصل الرابع موجهة لوسائل الإعلام تتعلّق بـ"عدم بث أو نشر كلّ ما من شأنه أن يمثّل ثلبًا أو قذفًا علنيًا أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة طبق التشريع الجاري به العمل". إضافةٌ تزيد من المخاوف مجددًا من المساس من حرية العمل الصحفي واستقلاليته خاصة في ظلّ ما يمثل "التشريع الجاري به العمل" وتحديدًا المرسوم 54 الذي يستعمل عبارات فضفاضة في صياغته من بوابة لإثارة تتبعات ضد المخالفين.
وفي ذات السياق، القرار الترتيبي تضمّن تمكين هيئة الانتخابات من اللجوء للقضاء الاستعجالي لإيقاف بثّ أي مضمون أو محتوى إعلامي مهما كان نوعه وذلك بعد التنبيه على وسيلة الإعلام. إضافةٌ قد تؤدي إلى فرض رقابة مسبقة على المحتوى الصحفي ما يتعارض مع المبدأ الدستوري الذي يحجّر الرقابة المسبقة على حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر.
-
التزكيات.. المودعون في السجن "ممنوعون" من الترشح
يعدّ نفاذ المترشح المحتمل لممارسة حق الترشح حقًا أساسيًا له. على خلاف الانتخابات الرئاسية السابقة، باتت مسألة الحصول على استمارة تزكية موضع اهتمام بحكم أن عددًا ممّن أعلنوا نيّتهم الترشح لخوض السباق الانتخابي يقبعون في السجن على غرار عبير موسي، وغازي الشواشي وعصام الشابي. وقد باءت جميع محاولاتهم للحصول على الاستمارة ليتمكنوًا من جمع التزكيات الشعبية بالفشل.
إذ امتنعت هيئة الانتخابات عن تمكين ابن غازي الشواشي من سحب الاستمارة رغم تحوّزه على توكيل عامّ بتمثيل والده لدى "جميع الهيئات" بما يشمل هيئة الانتخابات نظريًا، ولكن اشترطت الهيئة توكيلًا خاصًا الأمر الذي يفترض الحصول على إذن قضائي بتحرير التوكيل من طرف عدل إشهاد من داخل السجن.
على خلاف الانتخابات الرئاسية السابقة، باتت مسألة الحصول على استمارة تزكية موضع اهتمام بحكم أن عددًا ممّن أعلنوا نيّتهم الترشح يقبعون في السجن وباءت جميع محاولاتهم للحصول على الاستمارة بالفشل
هيئة الدفاع عن عبير موسي قدمت، في هذا الجانب، مطلبًا للغرض للجهات القضائية المعنية التي امتنعت ضمنيًا عن البت في الطلب، وفق الهيئة.
من جهته، أوكل عصام الشابي لمحاميه مهمّة سحب الاستمارة باعتبار أن المحامي يمثل بطبيعته وكيلًا عن منوّبه طبق مرسوم مهنة المحاماة. مجددًا، امتنعت الهيئة عن قبول ذلك. التعسير في التمكين من سحب استمارة جمع التزكيات أدى بالنهاية لعرقلة الولوج لممارسة حق الترشح.
-
البطاقة عدد 3.. الإدارة تتحكّم في الترشحات؟
أضافت هيئة الانتخابات شرطًا لملف الترشح وهو تقديم بطاقة السوابق العدلية عدد 3، وهو شرط لا يتضمّنه بداهة النص الدستوري خاصة بتمثّله كشرط تحقّقه ليس بيد المرشح المحتمل بل بيد الإدارة في نهاية المطاف. هذا الشرط يظهر، واقعًا، أنه يحول دون تمكين عديد المرشحين المحتملين من تقديم ملفاتهم باعتبار عدم تمكينهم من البطاقة عدد 3 التي لم تكن شرطًا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2019.
تبرّر هيئة الانتخابات شرط البطاقة بمسألة التثبت من عدم صدور أحكام ضد المرشح المحتمل بالخصوص على معنى الفصلين 161 جديد و163 جديد من القانون الانتخابي. والحال أنه كان من الممكن للهيئة، في سياق تسيير حق الترشح، أن تطلب السجل العدلي من الجهات المختصة وتحديدًا وزارة العدل، وذلك بدل مطالبة المترشح بنفسه التوجه لمصالح لوزارة الداخلية.
أضافت هيئة الانتخابات شرطًا لملف الترشح وهو تقديم بطاقة السوابق العدلية عدد 3، وهو شرط لا يتضمّنه بداهة النص الدستوري، وسط شكوك بتوظيف هذا الشرط لقطع الطريق على الترشحات
ويُستذكر، في هذا الجانب، قرار سابق صادر عن المحكمة الإدارية يعود لعام 2014 أكد على إعفاء المترشح المحتمل من الاستظهار بالبطاقة عدد 3 باعتبار الحصول عليها ليس رهين إرادته المحضة. وخلاف ذلك، أي اشتراطها، يعني البقاء رهين تجاوب الإدارة وهو ما يعزز إمكانية قطع الطريق على الترشح خاصة في السياق الحقوقي الحرج الذي تشهده البلاد.
ففي هذا الإطار، سبق أن وجّه المرشح المحتمل عبد اللطيف المكي نداءً علنيًا، عبر صفحته على فيسبوك، لوزير الداخلية بسبب عدم تسليمه للبطاقة رغم مرور أسبوعين من طلبها رغم توجهه عديد المناسبات لمركز الأمن. نفس الحالة تكرّرت بالنسبة لمرشحين آخرين.
والشكوك حول توظيف الشرط المستجدّ لقطع الطريق على الترشحات تبيّنت بما أعلنه المرشح المحتمل القاضي المعفى مراد المسعودي، في تصريح تلفزي، بأن رئيس مركز الأمن اتصل به طالبًا منه استعادة بطاقة السوابق العدلية التي كان قد تحصّل عليها في وقت سابق.
-
أحكام وتدابير ضد مرشحين "جديين"
في خضم كلّ هذا السياق، يواجه عديد المترشحين الذين أعلنوا عزمهم خوض الانتخابات الرئاسية ممّن توصف ترشحاتهم بالجدية، أحكام قضائية أو تدابير قد تحول واقعًا دون نفاذهم لممارسة حق الترشح. فعدا معضلة بطاقة السوابق العدلية، صدر حكم غيابي ضد المترشح المحتمل الصافي سعيد، فيما أثير تتبع قضائي ضد المرشح المحتمل لطفي المرايحي انتهى بإصدار إيداع ضدّه.
يواجه عديد المترشحين الذين أعلنوا عزمهم خوض الانتخابات الرئاسية ممّن توصف ترشحاتهم بالجدية، أحكام قضائية أو تدابير قد تحول واقعًا دون نفاذهم لممارسة حق الترشح
كما قرر عميد قضاة التحقيق بابتدائية تونس، مؤخرًا، تدابير ضد المرشح المحتمل عبد اللطيف المكي تقضي بعدم مغادرة عمادة إقامته وعدم الظهور في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، على نحو يجعله واقعًا رهين إقامة جبرية تحول دون تنقله لجمع التزكيات وخوض حملته الانتخابية في صورة قبول هيئة الانتخابات ملف ترشحه.
-
أما بعد؟
في خضمّ كل هذه العناصر، وفي انتظار إعلان القائمة النهائية للمترشحين، لا تزال الصورة غير واضحة بخصوص مدى تنافسية السباق الانتخابي المنتظر، إن ما كان الرئيس الحالي قيس سعيّد سيخوضه مع مرشحين جديّين استطاعوا عبور حاجز قبول الترشحات من عدمه. المؤشرات حتى الساعة تبيّن صعوبة ولوج عديد هؤلاء المترشحين لممارسة حق الترشح خاصة فيما يتعلق بمعضلة سحب استمارة الترشح وبالخصوص الحصول على بطاقة السوابق العدلية.
ينتظم المشهد الانتخابي في مناخ سياسي وحقوقي مختلف برمّته عن الانتخابات الرئاسية عام 2014 و2019، التي ظلّت يُنظر إليها بأنها استجمعت شروط الحد الأدنى على نحو جعل نتائجها معترفًا بها من مختلف الفرقاء السياسيين، الأمر الذي لا يزال غير بيّن بخصوص الانتخابات المرتقبة
وربّما، في هذا الجانب، قد يكون للمحكمة الإدارية قولها على مستوى الطعون، لكنه قول لا يبدو أيضًا، بالنسبة لعديد المراقبين، فاصلًا في مخالفة القرارات المرتقبة بهيئة الانتخابات، وذلك في ظلّ تراجع استقلالية "الوظيفة القضائية" أمام نفوذ السلطة التنفيذية.
هو مشهد انتخابي، في نهاية المطاف، ينتظم في مناخ سياسي وحقوقي مختلف برمّته عن الانتخابات الرئاسية عام 2014 و2019، التي رغم شوائب النزاهة في مسائل المال السياسي وتداخل الإعلامي والجمعياتي مع الانتخابي، فقد ظلّت يُنظر إليها بأنها استجمعت شروط الحد الأدنى على نحو جعل نتائجها معترفًا بها من مختلف الفرقاء السياسيين. الأمر الذي لا يزال غير بيّن بخصوص الانتخابات المرتقبة.