16-يونيو-2023
ماذا تحقق للتونسيين بعد 25 جويلية

يبدو من خلال الأرقام والمؤشرات أن الوضع في تونس هش وقابل للانفجار (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

بعد محاكمة شعبية دامت ساعتين غطتها وسائل الإعلام حول العالم، تلقى دكتاتور رومانيا الشيوعي "نيكولاي تشاوشيسكو" مصيره النهائي رميًا بالرصاص رفقة زوجته "إيلينا" يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول 1989 (أيام ثورات ربيع براغ أو الثورات الملونة).

اعتمد تشاوشيسكو مقاربات "جديدة وغير تقليدية" في السياسة والاقتصاد، كمعاداته للوطن الشيوعي – روسيا واستقباله من طرف الرئيس نيكسون زمن الحرب الباردة، أو المرسوم 770 الذي شجع فيه على الإنجاب ومنع الإجهاض بناء على نظرة مختزلة للعقيدة الستالينية التي تربط النهضة الاقتصادية بزيادة أذرع الإنتاج. بالنهاية، وبسبب أزمة المحروقات في السبعينات، مرت رومانيا بأزمة اقتصادية عاصفة بديون فاقت قيمتها الـ 10 مليار دولار اضطرتها لاتباع سياسات تقشف وصلت حد بيع أغلب محاصيلها الزراعية.

مثّل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في مرسوميْ المالية الصادرين بعد 25 جويلية أحد الفرضيات الأساسية لتمويل موارد الدولة، وبعد ما يقارب السنتين خرج قيس سعيّد ليقول: لا نقبل إملاءات صندوق النقد الدولي

بكل اختزالية وتسطيح، يرى قيس سعيّد أنه بمجرد نصّ بعض النصوص القانونية، كالمتعلقة بمحاربة الاحتكار والشركات الأهلية، وتعديل أخرى، أو كما يرى على لسانه "تمكين الشعب من أدوات الثروة"، سيتحقق الرفاه الاقتصادي الموعود. لم يكفّ سعيّد عن ترديد أن "تونس منهوبة"، وأنه بمجرد القضاء على الفاسدين والمحتكرين، ستتحقق النهضة الاقتصادية. وعلى مدار سنوات من توليه الحكم في أواخر سنة 2019، راهنت الحشود على المقاربة السعيّدية في الاقتصاد، حيث حظيت أغلب المراسيم والقرارات الرئاسية خاصة بعد 25 جويلية/ يوليو بدعم شعبي شبه مطلق. فماذا تحقق بعد سنتين تقريبًا من الحكم المطلق؟

  • الاقتصاد.. أو ما تبقى منه

في مرسوميْ المالية الصادرين بعد 25 جويلية/ يوليو، مثّل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أحد الفرضيات الأساسية لتمويل موارد الدولة. وبعد ما يقارب السنتين من المفاوضات ومن التردي الاقتصادي، وما يستتبعه من تردٍّ اجتماعي، خرج سعيّد أخيرًا ليقول "لا نقبل إملاءات صندوق النقد الدولي". ففيمَ أمضى التونسيون سنتين من الانتظار إذن؟

"نتيجة عجز تونس عن تغطية حاجات إنفاقها وتأمين دعم مالي دولي كبير، بدأت تواجه مشاكل على مستوى تأمين الواردات الضرورية. ففي العام 2022، بدأت سلع ومنتجات أساسية مثل السكر والزيت النباتي والأرز والقهوة والحليب تغيب عن رفوف متاجر البيع بالتجزئة". هكذا كتب الباحث في الاقتصاد السياسي حمزة المدب في تقرير مشترك مع مؤسسة كارنيغي.

يجد التونسيون أنفسهم اليوم أمام ضرورة شراء اللتر واحد من الزيت بستة دنانير بدل القارورة المدعمة التي يناهز سعرها 0.9 دينار والخبز بـ 500 - 700 مليم بدل خبز الـ 190 مليم

بالمحصلة، تواجه الحكومة التونسية صعوبات مالية في توفير المواد الأساسية التي تحتكر توريدها للأسواق، وبالتالي يجد التونسيون أنفسهم أمام ضرورة شراء اللتر واحد من الزيت بستة دنانير بدل القارورة المدعمة والمفقودة من الأسواق منذ أشهر طويلة، والتي يبلغ سعرها 0.9 دينار، والخبز بـ 500 - 700 مليم بدل خبز الـ 190 مليم الذي تعجز المخابز عن توفيره لعدم حصولها على حصصها من الدقيق المدعم. 

شح الأمطار أدّى إلى موسم فلاحي كارثيّ، ليضيف إلى أعباء الحكومة عبء توفير الـ 30 مليون طن من الحبوب التي كان يوفرها الإنتاج الداخلي. ورغم مواصلة الحكومة السعي لتحقيق اتفاق مع صندوق النقد الدولي، يواصل سعيّد رفض شروط الصندوق لإمضاء الاتفاق، علنيًا على الأقل. ورغم الخطاب الرسمي الذي يروّج عن أن الرئيس يرفض رفع الدعم، تنعدم عديد المواد الأساسية من الأسواق، والنتيجة: رفع المدعوم من الأسواق بدل رفع الدعم (والعبارة للدكتور أيمن بوغانمي).

 

 

  • الملف.. أو القضية التونسية

"تحدثنا أنا والرئيس تبّون عن تونس والسيناريوهات المحتملة". هكذا جاء على لسان رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في المؤتمر الصحافي الذي أجرته إبان زيارتها إلى الجزائر جانفي/ يناير الماضي. ليلة واحدة كان فاصلة بين أن تتحول تونس في الخطابات الرسمية من "الديمقراطية الناشئة الواجب دعمها"، إلى خطر محدق (على حد وصف رئيس الديبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل) وورقة ضغط يستغل اللاعبون الإقليميون (مصر الجزائر إيطاليا..) هشاشة وضعها الاقتصادي والاجتماعي لتحقيق مصالح داخلية وخارجية لا يصيب منها التونسيون شيئًا.

من جهة أخرى، وفي أجواء تذكّر التونسيين بأيام بن علي، يقبع أكثر من 20 معتقلًا من الصف الأول للمعارضة السياسية التونسية، بينهم محامون وصحفيون ورجال أعمال، في السجون في قضية ما يعرف "التآمر على أمن الدولة" منذ فيفري/ شباط 2023. فيما تتواصل دون انقطاع تقارير المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية التي تندد بانتهاك الحق في التعبير والتي تعتبر المعتقلين "مساجين رأي" وفق التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية

تحولت تونس في الخطابات الرسمية من "الديمقراطية الناشئة الواجب دعمها" إلى "خطر محدق"وورقة ضغط يستغل اللاعبون الإقليميون هشاشة وضعها الاقتصادي والاجتماعي لتحقيق مصالح داخلية وخارجية

بديهيًا وبعد كل ما تقدم، أن تتأخر تونس في تصنيف منظمة مراسلون بلا حدود الصادر منذ شهر تقريبًا والمتعلق بمؤشر حرية الصحافة أساسًا، أي تقبع تونس في المرتبة 121 (المرتبة 94 سنة 2022)، بعد أن كان ترتيبها 73 والأولى عربيًا سنة 2021. التضييقات على حرية التعبير والملاحقة القضائية للناشطين السياسيين والصحفيين كانت مضمون عدة مقالات على مدار أشهر: "خلال الأيام القليلة الفارطة كنا أمام حالات متعددة كملاحقة أستاذ قفصة أحيل على القضاء بسبب تدوينة نشرها مضمونها كاريكاتور ينتقد الرئيس قيس سعيّد، كذلك الشبان الذين نشروا أغنية على منصات التواصل الاجتماعي ينتقدون فيها الأمن، كذلك الزميلان إلياس الغربي وهيثم المكي اللذين يلاحقان حول مضمون تعليق صحفي تناول حدثًا سياسيًا عاشت على وقعه تونس خلال الأسبوع الفارط[2]".

  • الحل الفردي هو الحل

مثلما سبق وقادت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل المفاوضات مع تركيا سنة 2015 باسم الاتحاد الأوروبي لمنع تدفق المهاجرين، تقود جورجيا ميلوني الإيطالية المفاوضات مع تونس. المقترح: 900 مليون يورو سنويًا مقابل "الاتفاق المطلوب"، والذي يفسره ناشطون بتحويل تونس إلى أرض استقبال للمهاجرين المرحّلين من أوروبا، وتقدم خفر السواحل الإيطالي للمشاركة مع الحرس التونسي في حراسة الحدود. باختصار: تونس – السجن الكبير. 

لا يبدو أن هناك اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي في الأفق القريب ما يعني مزيد تعمق أزمة المؤسسات العمومية التي تعاني هيكليًا من أزمة ديون

"تواتر زيارات المسؤولين الأوروبيين وتصريحاتهم جزء من مسار قديم متجدد لابتزاز تونس وانتهاز الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية وذلك لمزيد التعاون في سياسات تصدير الحدود وجعل البلاد التونسية رهينة سياسات التبعية". (من بيان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بتاريخ 11 جوان/ يونيو 2023).

 

مجموع عدد التونسيين الواصلين إلى السواحل الإيطالية (المصدر: FTDES)

 

صدر بداية السنة تقرير المعهد الوطني للإحصاء حول الإنفاق والاستهلاك، أين يتضح تعمق الفجوة واللامساواة بين الجهات، ليحتفظ إقليم الوسط الغربي بصدارة سلم الفقر بنسبة 37% آخر سنة 2021 (30.8% سنة 2015). فيما يذكر أن وزيرة المالية سهام نمصية أوضحت خلال مؤتمر الإعلان عن مرسوم المالية أواخر سنة 2022، أن المرسوم صيغ على فرضية اقتراض 4 مليار دولار خارجيًا. ستة أشهر ولا يبدو أن هناك اتفاقًا مع الصندوق في الأفق القريب، ما يعني مزيد تعمق أزمة المؤسسات العمومية التي تعاني هيكليًا من أزمة ديون.

يبدو من خلال الأرقام والمؤشرات أن الوضع في تونس هش وقابل للانفجار وأنّ المعادلة السياسية مبنية على تناقضات تُحسن السلطة السياسية التلاعب بها عبر ازدواجية في الخطاب بين الرئيس والحكومة

ختامًا، يبدو من خلال الأرقام والمؤشرات أن الوضع في تونس هش وقابل للانفجار، على حد وصف جوزيب بوريل. المعادلة السياسية مبنية على التناقضات، تُحسن السلطة السياسية التلاعب بها عبر ازدواجية في الخطاب وتبادل للأدوار بين الرئيس والحكومة. من المقدّر أن يستمر هذا الوضع، إذا استمر، إلى ما بعد الانتخابات المقبلة. "الفقر للجميع"، هكذا يصف الخبير في الحوكمة والنائب السابق حاتم المليكي الوصفة الاقتصادية التي تعتمدها السلطة الحالية.

 

المصادر:


[1]  هل ينذر ارتفاع الديون بالمزيد من التهميش الجيوسياسي لمصر وتونس؟ رابط التقرير: https://shorturl.at/uACLY

[2]  من افتتاحية جريدة المغرب بقلم حسان العيادي بتاريخ 23 ماي/ أيار 2023.